شيئا فشيئا تترك مساحات الأمل مكانها، داخل حقلنا السياسي، لفائدة ما يبدو غبر قابل للمقاومة: الحق في التشاؤم !
المؤكد أن السبب واضح تماما، نحن نقترب من لحظة الانتخابات، التي ظلت
أكبر "عقد" الإصلاح المغربي، لكن السبب المضاعف هو أننا كذلك نقترب بنفس
الخطوات الموروثة، بذات المقاربات والرؤى القديمة.
روح الدستور الجديد تركت جانبا، الكلمات القوية التي عثر عليها خطاب
العرش طويت سريعا، وهبة الربيع المغربي الأخير استبطنا جميعا فكرة نهايتها،
ثم ماذا بعد؟
لقد كنست موجة المطالبة بالتجديد والتغيير،
وعدنا للمطبخ القديم نبحث عن ّأقل الوجبات البائتة عطانة،عدنا ندبر ملف
الانتخابات بالأساليب السابقة، والوجوه المستهلكة والحسابات الصغيرة التي
لا ترى أبعد من الدائرة...
حزمة القوانين
المقدمة تبدو بلا هدف مركزي(العقلنة،أم التجديد أم التخليق ..)، وبرغبة
أبدية في إرضاء الجميع: الأحزاب الصغيرة والكبرى والمتوسطة و تلك التي بلا
حجم، الأعيان والأطر و خلافهما، الشباب والكهول والنساء..، وفي العمق فإن
الهواجس القديمة لا تبدو بعيدة كذلك.
الذهاب مباشرة إلى الاستحقاقات الانتخابية، فوت على الأحزاب فرصة جدية
للمراجعة والتأهيل السياسي والتنظيمي، وأمام الانتخابات فإن الأحزاب لا
تعوزها الحجج من أجل ألا تغير أي شيء: لأن المقاعد أساسية للعملية
الديمقراطية، فإنه لا مناص من اللجوء إلى أعيان الانتخابات.
الأحزاب التي ظل سلوكها الانتخابي أسيرا لواقعية انهزامية، تماهت مع
إدارة تتلكأ في الضرب على أياد الفساد الانتخابي، وتتباطأ في وقف مظاهر
السمسرة والرشوة الانتخابية داخل المدن والقرى، وتتجاهل مطالب توسيع
الدوائر ورفع عتبات التمثيل ومنع الجمع بين المهام المحلية ووظيفة
التشريع...
النقاش الذي افترض المتفائلون
أن الأثر الحاسم للوثيقة الدستورية، سيحوله إلى مجال المشاريع المجتمعية
والسياسات العمومية في محيط اقتصادي ومالي جد صعب ، لم يرقى لانتظارات
الناس ومشاغل المواطنين، وظل محدودا بدائرة القوانين والتأويلات التقنية
والحسابات السياسوية.
فهل سيقف صبيب تدفق التاريخ المتسارع للأشهر الأخيرة، على الصخرة الأكثر تعبيرا عن المحافظة: الانتخابات؟
هل يصطدم تسارع التاريخ وتوالي الأحداث، بتكلس السوسيولوجيا الانتخابية؟
هل يجب أن نراجع تسرع تحاليلنا عندما اعتبرنا دينامية 20 فبراير تعبيرا
عن عودة للسياسية، هل نقف اليوم على نسبية هذه العودة وعلى محدوديتها؟
بالمؤشرات التي نتوفر عليها اليوم، فالأكيد أن حرارة 20 فبراير لن تصل
إلى صناديق اقتراع نونبر القادم، صناديق يبدو أن نتائجها سترتهن مرة أخرى
إلى سماسرة الانتخابات وزعماء الشبكات المحلية، وممثلي الجاه والتشكيلات
القبلية وأموال الفساد و مافيا "الخدمات".
وهو ما يعني أن الاستحقاق القادم ،ربما، لن يزعزع في شيء الهوية المركزية
للانتخابات المغربية: كونها انتخابات "لا سياسية" بامتياز.
سياسيا، الأمر لن يخلو من مخاطر. وضعية الكمون التي ظل يعيشها الشارع
المغربي الموزع بين ما كان يبدو "استسلاما أبديا" وبين انفجارات دورية،
تحولت إلى "حالة احتجاجية" مستمرة، وهذا معناه أن المؤسسات في نسختها
القادمة اذا لم يطلها تجديد جدري، ستظل غريبة عن محيط اجتماعي وسياسي
مشتعل، وأن القطائع بين مسارات الاحتجاج ومسارات التداول المؤسسي ستترسخ،
وأننا قد نعاني من كلفة تدبير مفارقة / معادلة "الشارع والمؤسسات"، حيث
تحضر في الطرف الأول السياسة ويغيب التمثيل، فيما يحضر التمثيل وتغيب
السياسة في الطرف الثاني.
إن قرار الحزب
الاشتراكي الموحد مقاطعة التشريعيات القادمة، لا يعني في نهاية التحليل فقط
أن الاحتجاج أصبح أكثر إغراءا بالنسبة لحركة سياسية ظلت لأسباب تاريخية
وإيديولوجية نصف إصلاحية / نصف احتجاجية، لكنه يعني كذلك أن القنوات ما بين
المجال الاجتماعي والمجال المؤسساتي ستتعرض لاختناق أكبر في المستقبل،
خاصة مع العجز البنيوي "للنقابية المغربية" في استيعاب الحركات الاجتماعية.
هل من حل لمأزق التحول الديمقراطي المعاق أمام العقدة الأكثر مركزية: مسالة الانتخابات؟
نظريا الانتخابات بطبيعتها جزء من الحل وليس جزءا من الإشكالية.
فانتخابات ديمقراطية بمشاركة واسعة بإمكانها أن تجعل الأجوبة على أسئلتنا
الصعبة قرارا سياسيا بيد الناخب: تجديد النخب، هزم الفساد، مطابقة أكبر بين
الأغلبية السوسيولوجية والأغلبية السياسية، انتصار السياسة...
لكن واقعيا بالنسبة لمنطق الأحزاب ،فان "عرضا انتخابيا جيدا" قد
لايعني شئ عدا كونه مغامرة يائسة في غياب "طلب" مجتمعي واضح.
كثير من المرشحين السابقين ،بعتبرون بلا مبالغة بانهم ذهبوا الى
انتخابات تقريبا بلا ناخبين،الى اقتراعات بلا تصويت سياسي ،الى حملات بلا
مشاريع و لا أفكار أو برامج..
كيف نصنع هذا الطلب الذي وحده يستطيع ان يجود عروض الأحزاب (=مرشحيها)،و أن يحرر طاقاتها ،و أن يعيد تسييس الانتخابات؟
انها بالضبط الحلقة المفقودة ، التي من شأنها أن تحملنا إلى ضفة المشاركة السياسية.
هل نحن على مشارف انتخابات بمشاركة مواطنة مكثفة؟
لاشيء مما يلوح في الأفق يوحي بذلك.
القطيعة المستحكمة بين المجتمع الحضري والظاهرة الانتخابية تتوفر على كل شروط الاستمرارية.
من جهة التدبير السياسي و الحزبي و المدني و الاعلامي ،لمرحلة مابعد
اقرار الدستور لم يضع كأحد أهدافه عودة الناخب المغربي للتصويت السياسي.
و من جهة أخرى الأثر المهيكل لفكرة 20 فبراير، يبدو أنه عاجز موضوعيا
عن ضمان إعادة تسييس شاملة للمجتمع العميق، تسمح بمصالحة المغاربة مع
الانتخابات، ثم إن اختيار بعض نشطاء 20 فبراير شعار المقاطعة قد يكون مرده
السياسي الى تبني واضح لخيار التأزيم، لكنه كذلك قد يجسد اعترافا بالعجز عن
مقاومة أكبر ثوابت الظاهرة الانتخابية المغربية: الفساد واللاتسييس.
"في المغرب يحدث أن يتغير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء". هل سنضطر إلى سماع هذه الجملة المبتذلة صباح 26 نونبر 2011؟