ساطع نور الدين
يخلو وجه المبعوث الأميركي جورج ميتشل، الذي عاد
الى العمل من جديد، من التعابير. لا يمكن أن ترتسم الابتسامة على شفتيه
بسهولة. ولا يمكن أن يعقد الغضب حاجبيه بيسر. هو أشبه ما يكون بتمثال متحرك
من الشمع او البلاستيك، يرتدي قناعاً ملوناً يوحي بأنه رجل المهمات الصعبة
وكاتم الأسرار الكبرى وحامل مفاتيح دبلوماسية الغموض والإبهام.
الأيام الثلاثة الأولى من مهمته الجديدة لم تكن خبراً يستحق الاهتمام
والمتابعة. صور لقاءاته ومصافحاته الفلسطينية والإسرائيلية لم تحتل مكانة
بارزة في أي وسيلة إعلامية عربية أو إسرائيلية. كان ميتشل مثل واحد من أهل
الكهف، خرج للتو إلى الضوء، لكنه لم يجد أحداً في استقباله يسأله على الأقل
عما جاء يفعل هذه المرة، وعما إذا كان يلاحظ أن وقته قد انتهى، وبقرار من
إدارته التي أرسلته بعدما أعلنت استقالتها الفعلية من التوسط بين
الإسرائيليين والفلسطينيين.
تلك الإدارة تكذب بطريقة لم يسبق لها مثيل: تنحت عن السعي الجدي
لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وسلمت صراحة بأن حملة الاستيطان
اليهودي المكثفة في القدس المحتلة والضفة الغربية هي قضية هامشية لا
تستدعي التوقف عندها، حسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو..
لكنها قررت إرسال ميتشل مجدداً فقط لكي تعبر عن أنها لم ولن تتخلى عن
التزاماتها وتعهداتها بالتوصل الى تسوية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية
مستقلة.
لكن ميتشل خان نفسه وخان إدارته: عندما واجه صعوبات جدية في مهماته
السابقة كان يعمد الى تسريب أنباء عن عزمه الاعتذار من الرئيس باراك اوباما
عن عدم المضي قدماً في هذا المسعى المستحيل، ويمضى بقية شيخوخته في تقاعد
عائلي مريح يحفظ له رصيده السياسي سواء في عضوية الكونغرس او في التوصل الى
التسوية الصامدة حتى الآن في إيرلندا الشمالية. هذه المرة، التحدي أكبر من
أي وقت مضى، وفرص النجاح معدومة تماماً، لكنه مع ذلك قرر أن يعود الى
التجوال بين القدس ورام الله والقاهرة.
هي ليست مجرد خدعة سياسية، أو محاولة متأخرة لحفظ ماء وجه أميركا الذي
لطخه رئيس الوزراء الإسرائيلي، وحفظ حقها في أن تكون الوسيط الوحيد. ثمة ما
يعود بالذاكرة الى تلك الاستغاثة العربية التي تلقاها كبار المسؤولين
الأميركيين مراراً: لا تتوقفوا عن الحراك، حتى ولو كان عبثاً، لكي لا يحدث
فراغ يسده المتطرفون على اختلافهم. الإيهام باستمرار الوساطة الأميركية،
وبإطلاق الأفكار والأوراق والضمانات المتبادلة حتى لو كانت عديمة المعنى،
هو شرط حياة او موت للكثيرين من الحلفاء العرب.
لكن هذه اللعبة لا يمكن أن تدوم الى الأبد، ولا يمكن أن تخدع حتى
السلطة الفلسطينية التي لم تعد تملك من أوراق الضغط سوى التلويح بحل نفسها
وإلقاء مسؤولية الضفة الغربية على العالم كله، كما لا يمكن ان تنطلي على
الإسرائيليين الذين يحاسبون حكومتهم على أي خطوة سواء كانت في اتجاه
التسوية او في الاتجاه المعاكس... إلا إذا كانت واشنطن تلعب ورقتها
الأخيرة، وهي استدراج حرب جديدة تشكل مدخلاً وأساساً لفتح ملف التسوية
بطريقة لا تحتاج الى خدعة ميتشل؟