جازف الروائي الفرنسي مارسيل بروست (10 يوليو/ تموز 1871 - 18 نوفمبر/ تشرين الأول 1922) بحياته في سبيل إنجاز روايته "البحث عن الزمن المفقود" التي عُدّت من بين أهم 100 كتاب في العالم، وأنفق على نشرها من أمواله الخاصة بعد أن رفضت دار "غاليمار" الفرنسية الشهيرة نشرها، علماً بأنّ من كان يرأس إدارة هذه الدار هو كاتب كبير وروائي كلاسيكي يدعى أندريه جيد، الذي لم يحدس بأن بروست سيدخل بروايته أفق الخلود ويعانق الأبدية على مرّ الأزمنة والفصول. مع أنّ جيد اعترف لاحقاً إنّ الرواية "تحفة فنية" جعلته يعيش أسير ندم كبير!في هذه الرواية، يركز بروست على نظرته إلى العالم عبر تفتت الزمن، عبر شخصيات تبلغ المائتين، متفسخة ومتآكلة ومتناثرة على ما يقارب المليون كلمة
في هذه الرواية، يركز بروست على نظرته إلى العالم عبر تفتت الزمن، عبر شخصيات تبلغ المائتين، متفسخة ومتآكلة ومتناثرة على ما يقارب المليون كلمة، تقول إن زمنها - على الرغم من تشبثها به - قد انتهى أو كاد، ولا بد من انتظار الشيخوخة البائسة والموت والزوال.
ولئن لم تكن "البحث عن الزمن المفقود" سيرة ذاتية، إلا أنها تستمد كثيراً من شخصياتها وأحداثها من تجارب بروست وذكرياته الشخصية ويتخللها عدد من الأفكار المحورية التي تتكرر في أشكال مختلفة عبر جميع الأجزاء، مثل الإغراء الدائم للأرستقراطية الفرنسية، والشذوذ الجنسي، وفكرة الحب التي اعتبرها بروست نوعاً من المرض أو الوهم، ثم موضوع الزمن الذي اعتبره بروست السيد النهائي للإنسان والكون. فالحياة في مجراها ليست إلا زمناً مفقوداً وأوهاماً زائلة، والذاكرة والفن هما السبيل الوحيد لاستعادة هذا الزمن المفقود وتحويل الأوهام إلى أشكال ملموسة من الجمال الأبدي.
في الجزء الأخير من الرواية، يصرح بروست قائلاً:"إن الحياة الحقيقية، الحياة التي تم أخيراً اكتشافها وتوضيحها، الحياة الوحيدة المعيشة بامتلاء، هي الأدب".
الرواية التي بدأ بروست كتابتها عام 1909 ترجمها إلى العربية إلياس بدوي. وصدرت عن عدة دور نشر من بينها دار شرقيات بالقاهرة عام 1998.
قدّم مارسيل بروست الحلم الرومانسي والرمز الذي شاطره إياه مالارميه وفاجنر، والذي قوامه تأليف بين الفنون جميعاً من رسم وموسيقى وعمارة. إنها مغامرة كائن رائع الذكاء، مريض الإحساس، ينطلق من طفولته في البحث عن السعادة المطلقة، فلا يلقاها في الأسرة، ولا في الحب، ولا في العلم، ويرى نفسه منساقاً إلى البحث عن مطلق خارج الزمان، شأن المتصوفين من الرهبان، فيلقاه في الفن، مما يؤدي إلى اختلاط الرواية بحياة الروائي.
لطالما قيل إن لانجلترا شكسبير، ولألمانيا جوته، ولإيطاليا دانتي، ولا أحد يساويهم، فإنّ في فرنسا من هو أعلى قامة، وهو بروست. الرواية جاءت في سبعة مجلدات هي:
1- جانب منازل سوان
2- 2- في ظلال ربيع الفتيات
3- جانب منازل غرمانت
4- سادوم وعامورة
5- السجينة
6- الشاردة أو ألبرتين المختفية
7- الزمن المستعاد
وفي مديح "البحث عن الزمن المفقود" اعتبرت الكاتبة في صحيفة "الحياة"مايا الحاج أنّ احتفال العالم بذكرى مرور مئة عام على ولادة - أو وفاة - شخصية عظيمة، أمرٌ رائج وغير مستغرب. أما الاحتفال بمئوية كتاب، فهو حدث استثنائي لا تنعم به إلاّ بضعة كتب تمكنت من أن تُحدث ثورة في عالم الكتابة، و"البحث عن الزمن الضائع" هو حتماً واحد منها.
معظم شخصيات الرواية مستوحاة من أشخاص عرفهم بروست وعاشرهم وعايشهم في حياته، لا سيما من قلب المجتمع المخملي الذي عاش فيهحينما باشر بروست في كتابة هذه الرواية عام 1909، كان في حال من البحث الجديّ عن حياته وعن ميوله وعن مهنته... كان يدرك شغفه بالكتابة، لكنه لم يكن متأكداً من حجم موهبته أو من أهمية ما يكتب. وجاءت من ثمّ ردود فعل الناشرين مع بداية عام 1913 لتزيد من شكوكه تجاه عمله؛ لكنّ شيئاً في داخله كان يُنذره بأهمية ما كتب.
وفي السؤال عن سرّ شعبية رواية ضخمة ومعقدة إلى هذا الحد، نجد، بحسب الحاج، أنّ الأجوبة تتعدّد وتتشعّب لتلتقي أخيراً عند أسلوب بروست الروائي. فلم يعتمد بروست أسلوباً معروفاً في الكتابة الروائية، بل صنع لنفسه خطاً سردياً مختلفاً يقوم على الجمل الطويلة المعقدة والعبارات المكررة والشروح اللامتناهية والتفاصيل المكثفة، ممّا يجعل من قراءة النص البروستي أمراً مجهداً. لكنّه على رغم ذلك، استطاع أن يدحض مقولة "البساطة تصنع الجمال"، ليثبت أنّ التعقيد أيضاً قد يصنع الجمال. الأسلوب الروائي عند بروست ليس مجرّد زخرفة، بل هو استحضار العالم من منظور خاص، لأنّ القيمة التي يمكن أن ينقلها كاتب ما إلى قارئه تكمن بالنسبة إلى بروست في قدرته على كشف عالم إضافي أمام الآخرين. وهذا ما فعله بروست في رائعته عندما بيّن للقرّاء أنّ الذكريات يمكن أن تغدو هي الحياة.
كتب بروست روايته الضخمة بأسلوب يزاوج بين زمنين عبر لغة شاعرية تغذّيها التفاصيل الدقيقة المستقاة من صميم الواقع. لكنّ أهمية هذه الرواية التي تحافظ في أجزائها السبعة على الروح البروستية نفسها، تتجلّى أولاً في قدرة السارد على التعبير عن المشاعر الإنسانية القوية. ومن المفترض في هذا السياق استبدال كلمة المشاعر بالخلجات تكريساً للدقة التي يستوفيها نص بروست الأدبي.
معظم شخصيات الرواية مستوحاة من أشخاص عرفهم بروست وعاشرهم وعايشهم في حياته، لا سيما من قلب المجتمع المخملي الذي عاش فيه. وفي لحظات معينة، قد تتحوّل الرواية في عيون قارئها إلى ماكينة أو آلة تلتقط المشاعر المطلقة في زمن كان يتخبط فيه الإنسان داخل موجة من التغيرات والتبدلات الجذرية على كل الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والايديولوجية والنفسية...
وأمام كلّ هذه التحولات، انتبه بروست، الرجل ذو الحساسية المفرطة، إلى انفلات الزمن من بين يديه. وبدلاً من أن يترك للزمن فرصة أن يتتبعه، ارتأى أن ينقضّ هو على الزمن لعلّه يُغيّر مساره المنضبط والصارم. فاصطاد بروست اللحظات الهاربة روائياً، ومن ثمّ جمّد حركة المستقبل باستحضار الماضي وإحياء ذكرياته التي صارت هي أحداث الحاضر. ففي حين كان الراوي مستلقياً على سرير في غرفة الفندق، أعادته "حلوى المادلين" إلى مرحلة الطفولة، ليغدو الطفل الذي كانه هو الراوي الفعلي للحدث.
مذاق هذه الحلوى، تتابع مايا الحاج، أحيا في نفس الراوي ماضياً كان قد اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة. أعادته رائحة الحلوى إلى بيت عمته التي كانت تحضّر له كلّ صباح هذه الحلوى مع كوب من الشاي. هكذا، يحلّ بيت عمّته الذي كان يقضي فيه عطلاته الصيفية مكان غرفة الفندق، والطفولة مكان الشباب، والماضي محل الحاضر. ويبقى مشهد "المادلين" الشهير في الجزء الأول من الرواية، واحداً من مئات المشاهد التي يُمكن استذكارها في هذا الإطار.
ويتفّق الكثيرون على أنّ الوصف والدقة والتفاصيل تُمثّل الخطوط العريضة في أسلوب رواية "البحث عن الزمن الضائع"، لكنّ الشخصيات التي تعجّ بها الرواية والحاضرة بوضوح أمام القارئ كأنها معروضة في "غاليري" هي واحدة من أهم سمات هذا "العمل- النهر"، كما يُشار إليه باللغة الفرنسية. شخصيات لا يقلّ عددها عن ستمئة تتكرّر في أكثر من جزء وتذكر أسماء بعضها ما يُقارب ألف مرّة. بعضها صار stereotypeأو مثالاً يُحتذى به، مثل مدام فيردورين، المرأة البرجوازية الزائفة والمنافقة، وهي غدت الصورة النمطية للمرأة "الحديثة النعمة"، التي تغار من الأرستقراطيات وتطمح للوصول إلى طبقتهن. وأيضاً "شارلوس"، وهو صورة عن الرجل الأرستقراطي المتعجرف، صاحب الشخصية الغامضة والمعقدة.
"الأنا" هي أيضاً واحدة من أهم ميزات هذا العمل. فالرواية المؤلفة من سبعة أجزاء مكتوبة بصيغة المتكلّم، وقد اختلطت "أنا" الراوي مع "أنا" الكاتب الذي انسحب إلى داخل الرواية
برع بروست في رسم الشخصيات عبر تصوير دواخلها. ولأنّ قرّاء بروست عرفوا أن شخصياته مستقاة من الواقع، صاروا يحاولون في كلّ مرة إسقاط الشخصيات الروائية على شخصيات حقيقية، وهذا ما كان يُزعجه لأنّه أراد لشخصياته أن تظلّ محصورة في عالمها الروائي كشخصيات قائمة في ذاتها.
"الأنا" هي أيضاً واحدة من أهم ميزات هذا العمل. فالرواية المؤلفة من سبعة أجزاء مكتوبة بصيغة المتكلّم، وقد اختلطت "أنا" الراوي مع "أنا" الكاتب (مارسيل بروست) الذي انسحب إلى داخل الرواية عبر الضمير المتكلّم. فالراوي في هذا العمل ليس بروست، علماً أنّ كثيرين اعتقدوا أنّه هو بروست نفسه، لا سيما بعد صدور الجزء الخامس بحيث أهدى الكاتب اسمه إلى الراوي "مارسيل". شكله الخارجي غير موصوف، لكنّ نقاطاً مشتركة كثيرة تؤدي إلى شيء من التماثل بين الكاتب والراوي، ومنها: "ضعفه، مرضه، حساسيته، موهبته، ميوله المثلية، اجتماعياته وارتياده صالونات الطبقة المخملية"...
ومن أجواء الرواية:
عبرت والدتي عن أسفها، حينما دار الحديث حول دعوة السيدة "دو نوربوا" للمرة الأولى إلى العشاء، أن يكون الأستاذ "كوثار" على سفر، وأنها كفت تماماً بدورها عن التردد على "سوان" إذ ربما استأثر هذا وذاك – دونما شك فى رأيهما باهتمام السفير السابق، أجاب والدي أنّ مدعواً وعالماً طائر الشهرة من أمثال "كوثار" لا يمكن أن يقع موقعاً سيئاً في مأدبة عشاء؛ ولكنّ سوان بعجرفته وطريقته في إعلان أقل علاقاته شأناً على رؤوس الأشهاد مهرج مبتذل سوف يجده المركيز "دو نوربوا" دونما شك "نتناً" حسب تعبيره.
بيْد أنّ جواب والدي يقتضي بضع كلمات وإيضاحاً، فربما تذكر بعض الناس في "كوثار" شخصاً بالغ الضحالة، وفي "سوان" شخصاً يبلغ التواضع والرصانة لديه أقصى حدود الرقة في دنيا اللياقة. لكنّه اتفق فيما يخص هذا الأخير أن أضاف صديق أهلي القديم إلى شخصية "سوان" الابن و"سوان" في شخصية جديدة ( ولا يقدر أن تكون الأخيرة) هي شخصية زوج "أوديب"... فقد جهد في سعيه إلى مواءمة الفطرة والرغبة والمهارة التي امتاز بها على الدوام مع مطامح هذه المرأة المتواضعة أن يبني لنفسه مكانة جديدة أدنى من السابقة بكثير، وتناسب رفيقة العمر التي ستشغلها معه؛ فكان يبدو فيها رجلاً آخر. وبما أنه فيما يوالي التردد بمفرده على أصدقائه الشخصيين الذين لا يودّ أن يفرض "أوديب"عليهم حينما لا يطلبون تلقائياً التعرّف بها..