يُعدّ الكاتب الأمريكي بول أوستر من أبرز كتاب الخيال المعاصرين، وقد رشحته رواياته لنيل جائزة نوبل التي لم يحظ بها.وهو فضلاً عن كتابته الرواية، مخرج، ومترجم من اللغة الفرنسية. ولد أوستر في3 فبراير (شباط) 1948 في مدينة نيو أرك في ولاية نيوجرسي الأمريكية، من أبوين يهوديين ينحدران من أصل بولندي. درس في جامعة كولومبيا، واشتهر بروايات بوليسية ذات طابع خاص، وكتب أوستر أكثر من 16 رواية.
في هذا المقطع، يقدّم لنا الشاعر والكاتب اللبناني إسكندر حبش بترجمته، صورة عن أدب أوستر، حيث شاء أن يعنون النص بـ "لمَ الكتابة" وفيه نطلّ على عالم أوستر المليء بالدهشة والتفاصيل.. واللامتوقع.
أتذكر في المخيم الصيفي السيجار الرخيص الثمن، الذي دخنّاه، بالخفاء، الأسرّة المرتبة ومعارك القنابل المائية الكبيرة.
(1)
روت لي صديقة ألمانية الظروف التي سبقت ميلاد ابنتيها.
لتسع عشرة سنة خلت، كانت حاملاً لغاية «أسنانها» وتأخرت عن موعد الإنجاب، أسابيع عديدة. جلست «أ» على كنبة في غرفة الجلوس وأشعلت جهاز التلفزيون. تشاء الصُدَف أن تكون مقدمة الفيلم في نهايتها، وهي في طور اختفائها من على الشاشة. كان فيلم «قصة راهبة»، وهو دراما هوليوودية، تعود إلى فترة الخمسينيات، قامت ببطولته أودري هيبورن. شعرت بالسعادة لأنها وجدت ما تتسلى به، فجلست «أ» لتشاهد الفيلم، وسرعان ما استغرقت بالمشاهدة. عند منتصف الفيلم، أحست بالتقلصات الأولى. اصطحبها زوجها إلى المستشفى ولم تعرف نهاية القصة.
بعد هذه القصة بثلاث سنوات، حملت بطفلها الثاني، فجلست «أ» على الكنبة وأشعلت التلفاز مجدداً. مرة أخرى، كان هناك فيلم على الشاشة، ومن جديد، كان «قصة راهبة» مع أودري هيبورن. وبشكل لافت للنظر (تُصرّ «أ» كثيراً على هذه النقطة)، أشعلت الجهاز في لحظة الفيلم المعينة، التي كانت قد غادرتها قبل ثلاث سنوات. هذه المرة، استطاعت مشاهدته حتى نهايته. لم تمض ربع ساعة بعد، حتى كانت قد فقدت «مياه الرأس» وذهبت إلى المستشفى كي تضع مرة ثانية.
هاتان البنتان هما طفلا «أ» الوحيدان. كانت الولادة الأولى مؤلمة بشكل كبير (واضطرت صديقتي للبقاء في المستشفى ولم تتعاف إلا بعد بضعة أشهر): لكن الولادة الثانية، حدثت بشكل هادئ، وبدون أية تعقيدات من أيّ نوع.
(2)
منذ خمس سنوات، أمضيت فصل الصيف برفقة زوجتي وأولادي في «الفرمونت» حيث استأجرنا مزرعة قديمة، معزولة، في أعالي أحد الجبال. ذات يوم جاءت امرأة، كانت تسكن القرية المجاورة، لزيارتنا برفقة طفليها، وهما ابنة صغيرة تبلغ الرابعة من العمر، وصبي في شهره الثامن عشر. كانت ابنتي صوفي قد بلغت الثالثة لتوها، وكانت الفتاتان تحبان اللعب معا. جلسنا في المطبخ، زوجتي وأنا، برفقة ضيفتنا، بينما خرج الأطفال للّعب.
بعد مضي خمس دقائق، سمعنا ضجة تحطم كبيرة. كان الطفل الصغير قد ذهب إلى الرواق، في طرف المنزل الآخر، وبما أنّ زوجتي كانت قد وضعت مزهرية ورد في هذا الرواق، منذ ساعتين تقريباً، لذلك لم يكن من الصعب التكهن بما حصل. لم أكن حتى بحاجة لأن أنظر كي أعرف أنّ الأرض كانت مغطاة بنثار الزجاج المكسور وبمستنقع مياه صغير، كما أنّ سيقان الورود ووريقاتها كانت متناثرة.
شعرت بالحنق. «صبية سيئون ـ كنت أقول لنفسي ـ أهل سيئون مع أولادهم السيئين الحمقى. من آذن لهم بالمجيء من دون إعلامنا بذلك؟».
قلت لزوجتي بأني سأذهب لإصلاح الأضرار، وبينما كانت تتابع مع زائرتنا الحديث، تسلحت بمكنسة ومجرفة وممسحة وذهبت إلى الرواق.
كانت زوجتي قد وضعت الورود على صندوق خشبي، موضوع بالضبط، تحت درابزين الدرج. كان درجاً هاوياً وضيقا بشكل خاص، وعلى قدمه، كانت نافذة كبيرة، على أقل من متر واحد من الدرجة الأولى.
أصف هذه الجغرافيا، لأنها شديدة الأهمية. فلتنظيم الأمكنة علاقة وثيقة بالذي سيحدث فيما بعد.
كان أساتذتنا كلهم طلاباً نيويوركيين، من هواة كرة السلة والدعابات الدقيقة. كانوا مدنيين حتى أطراف أظافرهم
كنت انتهيت تقريباً من التنظيف حين خرجت ابنتي راكضة من غرفتها، على قرص درج الطابق الأول. كنت قريباً جداً من الدرج كي أراها (لو انني متراجع إلى الوراء بضع خطوات لما استطعت رؤيتها)، وفي هذه اللحظة القصيرة، تعرفت في محياها على هذا التعبير المليء بالمرح وبفرح العيش بسعادة لا توصف. بعد ذلك، وعلى الفور، وحتى قبل أن أستطيع أن أقول لها، فقط، صباح الخير، تعثرت. علق طرف صندلها بقرص الدرج، وهكذا، وبدون أن أصرخ حذارِ، طارت في الهواء. لا أريد أن أوحي بأنها كانت تقع، ولا بأنها كانت تدور على نفسها، ولا بأنها كانت تقفز على الدرجات، بل أريد أن أقول إنها كانت تطير. انّ صدمة دعستها الخاطئة رمتها، حرفياً، في الهواء. وفي خط طيرانها، رأيت بأنها كانت تتجه نحو النافذة بشكل مستقيم.
ما الذي فعلته؟ لا أعرف ماذا فعلت. كنت وجدت نفسي إلى الجانب الخاطئ من الدرابزين حين رأيتها تتعثر، لكنها حين وصلت إلى منتصف الطريق بين السلّم والنافذة، كنت واقفاً على أول درجة. كيف وصلت إلى هناك؟ لم تكن سوى مسألة أقدام، وإن كان لا يبدو لي أبدا، أنه من الممكن تغطية تلك المسافة، بوقت قليل كهذا، وقت شبه معدوم. على كل، كنت هناك وفي اللحظة التي كنت فيها، نظرت إلى الهواء، فتحت ذراعي وأمسكت بها.
(3)
كنت في الرابعة عشرة من عمري. وللسنة الثالثة على التوالي، أرسلني أهلي إلى مخيم صيفي في ولاية نيويورك. كنت أمضي القسم الأكبر من وقتي في لعب كرة السلة والبيسبول، لكن وبما أنه كان مخيماً مختلطاً، كان هناك بالطبع نشاطات أخرى: «السهرات»، القُبل الأولى الحمقاء مع الفتيات، سرقة السراويل الداخلية الصغيرة، طيش المراهقة المعتاد. أتذكر أيضاً السيجار الرخيص الثمن، الذي دخنّاه، بالخفاء، الأسرّة المرتبة من جهة واحدة ومعارك القنابل المائية الكبيرة.
لا شيء مهماً من ذلك كلّه. أرغب ببساطة، في تسجيل أيّ عمر يمكن أن تكون عليه الأعوام الأربعة عشرة. خارجاً من الطفولة، مثلما لم أكن قد بلغت سن الرشد بعد، متأرجحاً من الأمام إلى الوراء، بين ما كناه والذي سأصبح عليه قريباً. من جهتي، كنت لا أزال شاباً بعد من أجل التفكير بأنه كان لديّ أمل شرعي باللعب، ذات يوم، لعبة «ماجورلينغ»؛ لكني كنت عجوزاً كي أشك بوجود الله. كنت قرأت «البيان الشيوعي»، ومع ذلك لا أزال أحب مشاهدة الرسوم المتحركة (التي يعرضها التلفزيون) صباح كل سبت. وفي كل مرة أشاهد وجهي في المرآة، إذ لديّ الإحساس بأنني أشاهد أحداً آخر.
تتألف زمرتي من 16 أو 18 ولداً. والقسم الكبير بيننا، قد أمضى عدة فصول صيف مع بعضه البعض، لكن هناك بعض الصبية الجدد الذين جاؤوا للانضمام إلينا هذه السنة. كان هناك بينهم شخص يدعى رالف. إنه ولد صموت، يظهر القليل من الحماسة من أجل أن يتجاوز خصمه في لعبة كرة السلة، أو كان يمرر الكرة في لعبة «البيسبول». وعلى الرغم من أنّ لا أحد يجعل حياته قاسية بشكل خاص، إلا أنه كان يجد صعوبة في التأقلم. سبق له أن رسب في امتحان أو في اثنين هذه السنة بالذات، لذلك خصص جلّ وقته الحر لمراجعات مراقبة من قبل أحد المدرسين. يبدو حزيناً، وكنت أشفق عليه، لكن ليس لدرجة كبيرة أفقد معها قدرتي على النوم.
لم يكن أحد يملك بوصلة، بالطبع، ولا أدنى فكرة عن المكان الذي نحن فيه، إلا أننا كنا نمرح جميعاً وبشكل كبير
كان أساتذتنا كلهم طلاباً نيويوركيين، مولودين في بروكلين أو في كوينز، من هواة كرة السلة والدعابات الدقيقة. وهم أطباء أسنان، مستقبليون، أو محاسبون أو مدرّسون. كانوا مدنيين حتى أطراف أظافرهم. وكما غالبية النيويوركيين الحقيقيين، يتشبثون بتسمية (الباركيه) بالأرضية حتى وإن لم يكن تحت أقدامهم سوى العشب والحصى والأرض. فنون الحياة التقليدية الترفيهية، في مخيم صيفي، كانت بالنسبة إليهم شيئاً غريباً، كما «المترو» بالنسبة إلى فلاح من «الأيوا». فسباق الزوارق و«السكوبيدو» وتسلق الجبال والليالي تحت الخيم أو الغناء حول نار المخيم، أشياء غير موجودة داخل دائرة اهتماماتهم. كانوا جديرين بتعليمنا رهافة الرمية أو كيفية الاستحصال على الكرة، لكن بخلاف ذلك، يفرحون، عموماً، بالتهريج وبرواية النكات.
لتتخيلوا إذاً مفاجأتنا، حين أعلن لنا، ذات بعد ظهيرة، أحد أساتذتنا بأننا سنذهب إلى الغابة للقيام بنزهة. بدا الأمر كما لو أن وحياً استبد به ولم يترك المجال لأحد في أن يثنيه عنه. «كفانا لعب كرة السلة» قال، وجدنا أنفسنا في قلب الطبيعة، وقد حان الوقت لكي نتصرف كمخيمين حقيقيين، أو كشيء من هذا القبيل. وهكذا، بعد فترة الراحة التي أعقبت وجبة الظهر، تقدمت المجموعة كلها، المؤلفة من 16 أو 18 صبياً، مصحوبة بأستاذين أو ثلاثة، إلى عمق الغابة.
كنا في نهاية شهر تموز أو في بداية شهر آب من العام ,1961 والجميع يتمتعون بمزاج مرح، أذكر ذلك. وبعد نصف ساعة من السير على الأقدام تقريباً، أدركت الغالبية بأنّ هذه النزهة كانت فكرة جيدة. لم يكن أحد يملك بوصلة، بالطبع، ولا أدنى فكرة عن المكان الذي نحن فيه، إلا أننا كنا نمرح جميعاً وبشكل كبير، وإذا ما تهنا، فليس للأمر أي أهمية. عاجلا أم آجلا، سنعود لنجد طريقنا...