ما الذي يُميز الخطاب السياسي الإيراني، في التوفيق بين الأيديولوجية والتأويل؟ سؤال جاءت محاولة الإجابة عليه في دراسة للباحثة المصرية نورهان عبد الوهاب، ونشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: "الخطاب السياسي الإيراني بين مرجعية الأيديولوجية وبراجماتية التأويل".وبعد التوقف عند بعض الأسئلة المؤطرة للدراسة، من قبيل: هل يمكن لأي خطاب سياسي أن يظل أيديولوجيًا حتى النهاية دون الأخذ بالاعتبار الأبعاد العملية "البراجماتية" التي تقتضيها مصلحة الدولة كما علمتنا السياسة؟ وهل تنطبق إجابات الـتساؤلات السابقة على الخطاب السياسي الإيراني؟ تُعرج الباحثة على أهم ما يُميز الخطاب السياسي الإيراني، كونه يمزج الديني بالسياسي منذ الثورة الإسلامية 1979م، من منطلق أن مفهوم ولاية الفقيه، المفهوم المؤسس للجمهورية الإسلامية، يخول المرشد الأعلى "الفقيه" سلطات مطلقة على المستوى النظري والمستوى العملي عن طريق الدستور؛ فالمرشد ليس مجرد قائد ديني فقط، الأمر الذي يجعله دمية في المجال السياسي، يخضع لقوة حجج تيار ما أو شعبية آخر. يخول الدستور سلطات عدة للمرشد، ويعطيه الحق في أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة في الشأن السياسي الداخلي والخارجي.
زيادة على هذا المعطى، لا تنأى التيارات السياسية الرئيسة في إيران بنفسها عن هذا المزج، إلا أنها تختلف فيما بينها في درجة الحضور الديني في الخطاب السياسي ونوعيته؛ فالصراع السياسي الدائر في إيران يقع ضمن هذا السياق؛ فهو صراع بين التيارات الرئيسة في إيران، كما أنه صراع بين التيار الحاكم والمرشد، ومثلت الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2009 لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، بعد الادعاءات بالتلاعب في نتيجتها، وقد برهنت أكثر على مدى قوة المرشد في النظام السياسي، وشككت في مدى صحة "المفهوم" المؤسس للجمهورية؛ أي ولاية الفقيه، الذي خول للمرشد سلطات تجعل من الصعب التشكيك في اختياراته.
بعد ذلك، عرجت الباحثة على التعريف بالتيارات الرئيسة في إيران، وأسباب ظهورها، وأجنداتها السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما يلي: هناك ثلاثة اتجاهات رئيسة في إيران؛ المحافظون المتشددون، والمحافظون البراجماتيون، والإصلاحيون، ويتميز كل اتجاه من هذه الاتجاهات بأجندته الخاصة وجدول أعماله الذي يرتئيه مناسبًا للحظة التاريخية التي تمر بها إيران فيما يتعلق بأولويات السياسة الداخلية وقضايا السياسية الخارجية.
وعموماً، تضيف الباحثة أنه في المشهد السياسي عمومًا، يقف الإصلاحيون في الجهة المقابلة للمحافظين، إلا أن ذلك لا يعني أن المحافظين يشكلون كتلة متجانسة، إذ ثمة شقوق وصدوع فيهم، تجعلنا نميز بين محافظين متشددين ومحافظين براجماتيين، ويرتبط المتشددون بأحمدي نجاد، بينما يميل البراجماتيون إلى علي أكبر هاشمي رافسنجاني، كما تماسكت قوة وسلطة المحافظين مع رئاسة أحمدي نجاد، إذ يدين أحمدي نجاد في فوزه برئاسة إيران إلى خطابه الشعبي الذي جاء مؤكدًا العدالة الاجتماعية، والاستقلال، وتصدير الثورة. وقد تضمنت رئاسة أحمدي نجاد صعود النخبة السياسية الجديدة المكونة من "المحافظين المتشددين" أو المحافظين الجدد، بخطاب سياسي جديد وأجندة أعمال مختلفة.
يقف الإصلاحيون في الجهة المقابلة للمحافظين، إلا أن ذلك لا يعني أن المحافظين يشكلون كتلة متجانسة، إذ ثمة شقوق وصدوع فيهم، تجعلنا نميز بين محافظين متشددين ومحافظين براجماتيين
ومن أهم خلاصات الدراسة، نقرأ أن فترة حكم أحمدي نجاد اتسمت بالعديد من السلبيات على مستوى السياسة الداخلية والخارجية؛ فعلى المستوى الداخلي بدأ أحمدي نجاد في تحدي المرشد الأعلى على خامنئي أكثر من مرة في محاولة منه لزيادة صلاحياته التنفيذية، فضلًا عن قراراته التي أدت إلى موجات عارمة من الجدل والنقد، سواء بالنسبة لإقالة وزير الخارجية متقي، أو لدعمه الشديد لرحيم مشائي. أما على مستوى السياسة الخارجية، فتصريحات أحمدي نجاد المستفزة، وتعنته في إدارة الملف النووي، جلبت لإيران خسائر جمة لم تكن أقلها العزلة الاقتصادية التي باتت تعاني منها، نتيجة حزم العقوبات التي أقرها مجلس الأمن.
وتخلص الباحثة أيضاً إلى أن "تيار الانحراف" في الساحة الإيرانية، يسعى إلى طرح فكرة "المهدوية" مقابل "ولاية الفقيه"، المفهوم المؤسس للجمهورية الإسلامية والقائم على نيابة الولي الفقيه لحين ظهور المهدي "الإمام الغائب"، في مقابل هذا المفهوم الذي أرسى الخميني دعائمه، جاء تيار الانحراف بفلسفة حكم أخرى تكاد تعصف بولاية الفقيه برمتها وبشرعية الجمهورية الإسلامية، وتؤسس لشرعية جديدة إذا ما اكتسبت زخمًا سياسيًا، وقوة دفع جماهيرية تسعى لفرضها على الواقع. ويرى هذا التيار أنه لا معنى لولاية الفقيه، إذ إن فكرة "المهدوية" التي يروجون لها تعني قرب ظهور "المهدي"، ولا حاجة لنا للولي الفقيه نائبًا لإدارة شؤون الدولة.
وتخلص الباحثة أيضاً أنه على الرغم من أن مفهوم المهدوية، لم يغب عن خطابات الخميني ومن بعده علي خامنئي، كما هو معتاد في الفكر الشيعي الاثنى عشري، إلا أن المفهوم مع نجاد كان له مغزىً مختلفًا. فمنذ تولي نجاد رئاسة الدولة في عام 2005 م، وهو يعزو كل إنجاز يحققه على المستوى السياسي أو غيره إلى الإمام المهدي ودعمه إياه، كما وَضُح من خطاباته السياسية والشعبية، وصولًا إلى خطابه في الأمم المتحدة، ومن أهم الأفكار التي يروج لها أنصار هذا الاتجاه "تيار الانحراف"، فكرة الإسلام الإيراني، التي تحدث عنها رحيم مشائي، وسببت حرجًا لنجاد بعد رفضها من قبل رجال الدين، كما سبقت الإشارة. مع كل هذه التخوفات والاضطرابات التي تعج بها الجمهورية الإسلامية، يصبح من الأفضل اتباع سياسات براجماتية، وتنحية النواحي الأيديولوجية جانبًا، لحين عودة الاستقرار النسبي إلى الجمهورية الإسلامية، والالتفات إلى النواحي الاقتصادية، والاجتماعية، فمع التسليم بصعوبة التنبؤ بمستقبل النظام، هناك من يرى أن التنبؤ باستمرار واستقرار النظام ليس بالمهمة السهلة.
لقراءة رابط الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: