" فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم."
سورة التوبة الآية 5
" المرتد لا يقبل منه إلا الرجوع إلى الدين الذي خرج منه، لا بد من الإسلام أو السيف."
ابن حزم
" الردة جريمة يعاقب عليها بالقتل حدا، طبقا لنصوص الشريعة الإسلامية."
عبد القادر عودة
" لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما."
الميثاق العالمي لحقوق الإنسان
عندما نعود للقرآن كنص منظم للعلاقات اليومية بين المسلمين، نجد أنه حمال أوامر تكاد لا تتفق مع غاية هذا الدين، الداعي في جوهره إلى التسامح والتعايش وتدبير الاختلاف العقدي، وكأننا أمام تناقض داخلي بين الخطاب وغايته الكبرى ألا وهي التبشير بدين سمح، وبين طريقة وكيفية إخراج هاته الغاية إلى أرض الواقع، بين الناس من جهة، وبينهم وبين الله من جهة أخرى، هكذا نشعر ظاهريا ومن حيث لا ندري بازدواجية هذا الخطاب، والحال أن التاريخ بدوره وبعيدا عن أمهات النصوص، يسوق لنا أمّارات عدة في هذا الشأن، والتي ليس من بينها إلا تلك الحروب والمعارك التي دارت بين الصحابة طمعا في السلطة لا غير، حيث انتصرت غريزة الإنسان والبنية القبلية على الدين ومن كانوا يحملون عاتق الحفاظ عليه، من قبيل حادثة إفك، ووقائع سقيفة ابن ساعدة، ومعارك صفين والجمل وكربلاء، وحصار مكة من طرف الأمويين غداة حكم عبد الملك بن مروان...
على عكس الديانات الأخرى، عرف القرآن عديد وكبير تحولات ضربت في صميمه أحيانا، كما استثمرت أحكامه أحيانا أخرى لغرض سياسوي محض، الأول نجده في إشكالية جمعه حيث مر حين من الدهر على التدوين، ونحن نعلم مسبقا أن طول المدة الفاصلة بين التدوين والحفظ أسقطت أشياءً لصالح أخرى، وانتصرت لأحكام دون غيرها، لهذا قد لا نتعجب عندما نرى أن التاريخ يتحدث لنا على خمس نسخ للقرآن بقيت منها واحدة وهي التي كانت في حوزة عثمان بن عفان عندما كان خليفة للمسلمين، أما الغرض الثاني مما ذكر آنفا بخصوص القرآن كنص والقرآن كممارسة، فإن مرد هذا التناقض إلى إشكالية إنزال ما يوجد في النص إلى ما يوجد في الواقع، وبما أن طبيعة البنية القبلية لم تكن تؤمن بالقانون بما أنه لم تكن لنا مدينة، فقد استعصى أمر توحيد النص وأحكامه، فانتقلنا بذلك من الشيع والقبائل على المستوى الثقافة كما الحياة اليومية، إلى شيع وقبائل على مستوى التفسير وهو ما وضعنا أمام فرق عدة، وأمام مذاهب تكاد تكذب الواحدة الأخرى، وأيضا أمام تفسيرات لا حدود لها، كان الفلاسفة والفقهاء والمتكلمون والصوفية أهم لاعبيها، لينتصر بعدئذ التفسير الأكثر تطرفا والأكثر تعصبا، ألا وهو تفسير الفقهاء والمتزمتين من القوم حيث يبقى من أهمهم ابن تيمية والغزالي وأحمد بن حنبل وأنس بن مالك، وهو ما جعل من أمر حرية الاعتقاد خطا أحمرا ليس يمكن تخطيه مطلقا... فما هي إذن أسباب وعلل هذا التعصب؟ وماهي أبرز مظاهره وتأثيراته على الذهنية كما الثقافة؟ وهل استطاعت المشاريع المتنورة أن تحد منه أم أنها تقلصت حد الاختفاء؟
عندما نحاول وضع سؤال حرية الاعتقاد في الإسلام تحت المجهر، نجد أن لها جملة من المسببات جعلتها من بين الطابوهات ومن أبرز الممنوعات، إذ أنه من الصعوبة بمكان فرض فكرة على شخص ما بالقوة، حيث تنتصر حينها حجة السلطة بدل سلطة الحجة، مما يولد في المرء كرها نحو الفكرة التي أجبر على اعتناقها متحينا أسنح فرصة للتخلص من براثنها، أما من جهة أخرى فلا شك أن الذين أجبروه على اعتناق فكرة بعينها، إنما جُبِلوا على ذلك بسبب التفسير المغلق للنص، معتقدين أن النص ليس يمكن تأويله، بل إنه لا يحمل إلا تأويلا واحدا، والحق أن الركون إلى التأويل الواحد يولد لنا تعصبا كبيرا، ويجعلنا ننخرط في الحاضر بعقلية الماضي، وإن ذلك من بين ما بتنا أو بالأحرى لا زلنا نعاني منه في أقطارنا بدون استثناء، فكيف يا ترى يمكن أن نربي الناشئة أمام هذا النص المنغلق، وأمام سوء التأويل هذا؟ بل كيف ستصبح هاته الناشئة عندما سيشتد عودها وقد ترعرعت في فضاء لا يؤمن إلا بثبات النص بدل خصوصيات كل عصر، أما من جانب آخر وعندما نعود إلى النص القرآني ظاهريا، نجد أنه هو الآخر يضع خطا أحمرا أمام مسألة حرية الاعتقاد، وهو المتبدي في غير ما آية منه، يبقى من أبرزها ما جاء في سورة البقرة :" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون." والحال أن قراءة هاته الآية تحت قوة النص المنغلق يوحي إلى أن للإسلام موقفا صريحا من حرية الاعتقاد، ذلك الموقف الذي يتنافى ومسألة حرية التعبير وحرية التدين، بما أن الإنسان مقياس كل شيء، بل إن الركون التام لتوصيات النص يضع المدافع عن حرية الاعتقاد أمام حلين لا ثالث لهما: إما التوبة أو الحد، فإن تاب فهو مؤمن وإن لم يتب فإن قتله أوجبه النص والشرع معا، من هنا فإن الوقوف على أول وأهم سبب هذا الرفض لحرية الاعتقاد هو غلبة التأويل الواحد من جهة للنص القرآني، ثم غياب الأخذ بعين الاعتبار لخصوصية كل عصر على حدة، أما من جهة ثالثة فإن عدم التسلح بمناهج التفكيك والتأويل والنقد أكسبتنا هي الأخرى هذا الإرهاب الفكري.
إن لكل هاته الأسباب التي ذكرناها آنفا، عديد النتائج الوخيمة على صورتنا أمام الآخرين كما على بنيتنا التفكيرية والتخيلية، والواقع أن صورتنا باتت اليوم تعرف اضطرابا عند باقي الأمم، كون أننا أمة جد متعصبة لرأيها وهو التخلف بعينه، وإن كان تراثنا غنيا بمحاولات تنويرية جمة سواء القديم منه أو المعاصر، تجلت أساسا في ضرورة تجديد وإصلاح الدين من الداخل، درءا لجهلنا الأعمى به، وانحيازا عن تعصبنا الذي بات شتيمة حيث انتقل من تعصب خارجي إلى تعصب محلي، والشاهد على ذلك هو ما يحدث اليوم بعديد الأقطار الإسلامية، من قتل باسم الدين وتكفير متبادل، واتهامات من هنا ومن هناك أرجعتنا إلى مئات السنين، مؤجلة موعدنا مع التقدم والسير قدما نحو الأمام. أما بخصوص نتائج ذلك على بنيتنا التفكيرية فلا شك أن النص المنغلق ينتج أشخاصا منغلقين، وبما أن التاريخ يعرف تقدما سريعا، وبما أن النص المنغلق لا يؤمن بسيرورة التاريخ، وبما أن إنسان الأزمنة الراهنة أصبح منخرطا أراد ذلك أم لم يرد في بنية هذا العصر، فلا شك أن النتيجة ستؤسس لشرخ كبير وانفصام أكبر لكل معتد وخاضع للنص المنغلق، فتجد الفرد منا مثلا يؤمن بأن الإسلام هو أحق الأديان، وأن غير المسلم وجب فيه الجهاد، وفي نفس الوقت تراه يستعمل تقنيات من سماه كافرا، يتداوى في مستشفياته، ويرتدي لباسه، ويأكل أكله، ويستعمل طائراته، ويستمتع في أرضه، ويقتل بأسلحته شخصا آخر يعتبر نفسه مسلما... لهذا بتنا أمام نفاق اجتماعي كبير لو تسنى لنا الإيمان فعلا بالتسامح وحرية التعبير لما مرضنا بهذا المرض الصعب علاجه، حيث أننا أكثر أمة ترديدا للدين كما أننا أكثر أمة فسادا، وغشا، وافتراءً، وسفكا للدماء بغير وجه حق...
يخبرنا التاريخ قبلئذ أننا عرفنا عديد المشاريع المتنورة التي لو سرنا على خطاها لما حصل لنا ما حصل اليوم، ومن بين هاته المشاريع المتنورة الفكر الاعتزالي الذي فهم القرآن بالعقل بدل النقل، أي بالاستيعاب بدل التصديق، وبالمساءلة بدل العمى الفكري، وبالنقد البنّاء بدل التعصب الأجوف، كما يسوق لنا التاريخ أيضا أن أهم شرط في إعادة بناء أمة ما، هو ضرورة التجديد والإصلاح الدينيين، ولا مرية في أن ما وصلت إليه أوربا اليوم من تكريس للتسامح، قد بدأ بإعادة وضع تلك التقابلات الأساسية بين الإنسان والدين من جهة، كما تم بضرورة الإنصات بإصغاء للمفكرين والفلاسفة بدل الانصياع لرجال الدين المتزمتين، لكن وللأسف وبدل العمل بالعقل تم إقبار الفكر الاعتزالي قبل أن يحط أوتادهن ومعه ضيعنا موعدا مهما مع التاريخ، فساد بعدها فكر الأشاعرة والغزالي المنغلقين، بدل فكر واصل بن عطاء وغيلان الدمشقي المنفتحين، وتم بعدها اغتصاب الدعوة إلى التجديد الديني، وإلى ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة مع ابن رشد خاصة في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، إلى الانحطاط الفكري بقيادة ابن تيمية ومن أتى بعده.
في نفس السياق فإنه لا بد اليوم، بل إنه بات لزاما علينا أن نعلن فشلنا في كل شيء اعتقدناه ناجحا، حيث الفشل ليس عيبا بقدر ما أن تكريسه هو عيبه الكبير، علينا أن نؤمن بضرورة تجديد النص القرآني وتغيير فروعه لا أصوله وفق خصوصية حاضرنا، وأن ما نقف عليه اليوم سيتغير بدوره وفقا تغير دورة الزمن، علينا أيضا أن نعتقد بتغير الثبات، وليس بثبات الثبات، وأن كل فرد منا يرى العالم وفق زاويته الخاصة، حيث وجب احترام اعتقاده مهما كان يخالفنا الرأي، كما وجب أن نمتلك نصيبا مهما من الجرأة والشجاعة على كل نص اعتبر قبلئذ منغلقا وثابتا، آنذاك سيكون التسامح جوهرنا نحو التخلص من تلك الصورة التي باتت مسوقة علينا، وسيمحو معها كل مظاهر الإرهاب والتخلف الذب بات لصيقا بنا، وبات مسيئا إلينا بشدة.
بناءً على ما تم ذكره إذن، وتأسيسا على الإشكال العام لهذا القول، ألا وهو العلاقة بين الإسلام وحرية الاعتقاد، فقد وجب علينا التذكير بأن الحداثة قوة لسنا نحن من يطبقها وإنما يطبقها التاريخ وإن رفضناها، فكم من أشياء كانت البارحة من أكبر الممنوعات والمحظورات، باتت تمارس اليوم بكل عفوية في الخفاء كما في العلن، وذلك بفضل نضال المتنورين من مفكرينا، وإن قتل منهم من قتل، واتهم بالكفر منهم من اتهم، بيد أن للتاريخ قوة أكبر من تعصبنا وجهلنا، والحق أن أغلب الدول العربية اليوم، وإن كانت تحكم باسم الدين، أي أنها تعتبر الإسلام دينها الرسمي بدل الإعلان على ضرورة الفصل بين أحكام الفقه وروح القوانين الحديثة، فهي في المقابل شاءت ذلك أم أبت، محكومة بتطبيق جانب مهم من القوانين الوضعية، من خلال تسليمها بذلك، وإن بقيت مسألة حرية المعتقد أمرا لم ينزل بعد إلى أرض الواقع، فإذا كان دستور إيران مثلا إبان سنة 1907، يؤكد أن الدين الرسمي لهاته الدولة هو الإسلام، وأن مذهبها هو المذهب الجعفري، وإذا كان دستور اليمن هو الآخر يعتبرها دولة عربية إسلامية على غرار مصر والمغرب والجزائر وسورية... فإن في هاته الدول في المقابل ترضخ أحيانا للقوانين الوضعية إيمانا منها بضرورة عصرنة النص المقدس، وإن تم ذكر ذلك في هذا الشأن فإن الصراع لازال دائرا في عديد الأقطار العربية بين الأصوليين المتزمتين، وبين المتنورين المنفتحين، في انتظار أن تنتصر هاته المعركة لإسلام التسامح، وحرية المعتقد، وفصل الدين عن أمور السياسة، والحكم باسم القانون، ونبذ كل أشكال التطرف والتعصب وهذا هو مرادنا بطبيعة الحال.