31 ديسمبر 2013 بقلم
العربي إدناصر قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:ينشط قطاع الرعي وتربية المواشي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها، وما تزال السينما الهوليودية تتحدث عن هذا التقليد الذي ارتبط بذهنية الإنسان الأمريكي، حتى صار يلقب "براعي البقر" kow boy، مع كل ما وصلت إليه أمريكا من تقدم تكنولوجي وصناعي وغيره...
فرعي البقر، كوعي وكممارسة، انعكس على شخصية الراعي الأمريكي الإقطاعي، المالك للأرض والثروة الحيوانية، والذي يطوف بسيارته ذات الدفع الرباعي البراري، باحثا عن أملاك جديدة لمضاعفة الإنتاج وجني الأرباح.
وقد تطوّر هذا الوعي وتطورت معه الممارسة، وشقّا طريقهما نحو مجال عضوي آخر، يتعلق بتربية البشر والتعامل مع أجناس العالم الآخر الذي يقابل عالم الولايات المتحدة المتميز. فسيكولوجية الرعي طوعت للأمريكي تحديث قطاع الرعي، وتكييفه مع معطيات الواقع وتطور الأحداث؛ فلكي يبدو أكثر متعة وإثارة، انتقل إلى ضمّ البشر كصنف جديد لممارسة "هواية الرعي"، لأنّ العالم الآخر في نظر الأمريكيين، قطيع من الخلائق لا يحسن فن الحياة ولا شروط التحضر، فهو يحتاج إلى مُروِّض ومشرف قائد يتمتع بالموهبة والخبرة في توفير متطلبات العيش.
ووفقا لهذه الرؤية، لا حرج أن يقاد البشر سويا مع البقر، ويرتاضا بلجام أبناء العم سام، وذلك نظرا للقواسم المشتركة بين البقر والبشر، من حيث التخلف والبهيمية ووضاعة الأصل الجينومي، وأشياء أخرى تتعلق بالتفكير والإحساس... ووجهة المسير هي حظيرة أمريكا الفارهة، التي تؤمّن الغذاء والعلف والماء والعناية الصحية والأمن لهؤلاء وأولئك، الذين يعجزون عن تلبية حاجاتهم المصيرية والوجودية. ويكفي أن تهيئ لهم أمريكا هذه الأمور، حتى تكون حالهم أحسن وأفضل مما هي عليه،فضلا من أمريكا ونعمة.
أمّا تلك الأمور المتعلقة بالكرامة والحرية والاستقلال، فهي مفاهيم بعيدة كل البعد عن إدراك العقل البشري، قياسا على العقل البقري الذي أثبتت التجارب والأيام على أنّه كائن آكلالعشب، وغير عاقل، ولم يكن قط في حاجة إلى الفلسفة والعلوم والأخلاق، وكذلك هو الأمر بالنسبة لبني البشر.
والدليل على بعد العالم الآخر عن روح العقل والحكمة هو انسحاق بعضه مع بعض، الأمر الذي نتج عنه تدمير العمران والأرض والإنسان، وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية التي أبيد فيها قسط كبير من هذا العالم، وقد خرجت منها أمريكا نقية منتصرة غانمة.
وكما يحكي المفكر الأمريكي المعارض نعوم تشومسكي، فقد: "أصابت الحرب معظم منافسينا الصناعيين بالضعف الشديد، أو حتى دمّرتهم تماما، بينما تضاعف إنتاجنا ثلاث مرات، ولم تتعرّض حدودنا لأي هجوم، بل إنّ الولايات المتحدة تسلّمت زمام قيادة الدول الصناعية في العالم منذ بداية القرن وبعد الحرب، وحازت 50% من ثروات العالم، وسيطرت على جانبي المحيطين الأطلسي والهادي، ولم يسبق في تاريخ العالم أن دامت مثل تلك السيطرة، وذلك الأمان لدولة واحدة"
[1].
وبفعل هذه الحماقات والسلوكيات الصبيانية، لم يعد بإمكان أمريكا السماح لهؤلاء بتدبير شؤونهم الخاصة، لأنّ العنف يسبق إلى أيديهم والكراهية تفيض من أفئدتهم، ولا يمكن تركهم سدى دون رعاية خاصّة، حتى لا يتحوّل العالم إلى أحزمة من القتل والإبادة الجماعيّة.
ولأنّ المصالح الحيويّة لأمريكا تقع في مساحات مختلفة من أنحاء المعمورة، اقتضىتالحال تدخّل العاقل والراعي الأمريكي، لتسوية خلافات الأعداء والمتصارعين لترسيخ الأمن والطمأنينة، ومبادئ العيش الكريم في العالم.
لهذا انخرطت المؤسسات الأمريكية المتعدّدة (البيت الأبيض، البنتاغون، الشركات الرأسمالية، شركات الأمن...) في الانسلال إلى عمق مشاكل العالم، ونجحت في إدراج اسمها ضمن الفاعلين الأساسيين في أيّة نازلة إقليمية أو كونية.
والهدف المعلن والمضمر واحد، وهو السيطرة والهيمنة والاستثمار؛ والخطة الناجعة هي تسويق الأحلام والهدايا الملغومة، التي ظاهرها منافع للناس، وباطنها السم في الدسم. وبداية الإيهام الأمريكي ينطلق من اللعب بالمفاهيم التي تعبد الطريق نحو عملية غسيل العقول، وذلك بالترويج لحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وغيرها من اليافطات السياسية... وهي عناوين غير بريئة لطابعها الازدواجي الخفي، انطلاقا من كون: "مصطلحات السياسة لها معنيان؛ أحدهما معناها المعجمي المتعارف عليه؛ والثاني معناها الذي يخدم أيديولوجية الأقوى"
[2].
وما يؤكد مرونة المفاهيم الأمريكية هو عدم دقتها وعدم انضباطها، نظرا لما يرتبط بها من أحداث ووقائع ثبت من خلالها تهافت الادعاء الأمريكي، وانحيازه إلى المصالح الذاتية دون اكتراث بحاجات الآخرين.
"فالإرهاب" كنموذج صار من مشاغل العقل الإمبريالي، بفعل المواجهة الشرسة مع جماعات من الناقمين من السياسة الأمريكية، الذين استخدموا شتى وسائل المقاومة والنضال، المسموحة والممنوعة.
وبالنسبة إلىهذا المصطلح الملغوم، لم تقدم أمريكا للعالم تحديدا منطقيا ومعقولا يرسم ملامحه بوضوح تام، وبات خاضعا لــ"ترمومتر" خاص تقيس به من هو مع، ومن هو ضد التجربة الأمريكية في السياسة، والنمط الأمريكي في العيش والحياة، فضلا عن كون هذا المفهوم ذريعة لتحديد من هو متوفّر على شروط الانخراط في نادي محور الخير، ومن هو دون ذلك، فيصنف مع محور الشر.
ومقابل الإرهاب، يوجد مصطلح نظير له وقريب منه في الاستعمال، وهو توظيف مسمى "عملية السلام"، الذي هو الآخر ظل رهينا بالتفسير الأمريكي الأناني، "التي يظن بعضالسذج أنها تعني تحقيق السلام في الشرق الأوسط، بتنفيذ إسرائيل قرارات الأمم المتحدة وانسحابها من الأراضي التي احتلتها، وقيام دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية، طبقا أيضا لقرارات الأمم المتحدة. ولكن عند أصحاب "المواءمة السياسية" (PC)، تعني أن تعطّل الولايات المتحدة كل سبل السلام وتدعم إسرائيل سياسيا واقتصاديا وعسكريا".
[3]ولأجله عقدت أمريكا جملة من المؤتمرات والقمم التي رفعت شعار السلام، من "كامب ديفيد" إلى "أنابوليس" وغيرها، لكن هذا المصطلح ظهر غشّه وكذبه بعد تسلسل الصراعات والمآسي في كافة ربوع العالم؛ فالقصة هي نفسها تتكرّر، والدماء والبكاء والجوع والإهانة مخاطر ما تزال تهدد استقرار العالم.
وعلى ذكر "أنابوليس"؛ فالوقائع على الأرض لا تتّجه نحو بناء سلام عادل وشامل، مادامت إسرائيل لا تعترف بحق العودة، وما دامت المستوطنات يمتد شبحها باستمرار، هذا فضلا عن الاعتداءات المتكررة على غزة، وعزلها عن الإمدادات الحيوية من طعام ودواء ومساعدات أخرى...
أمّا ما يجري في كواليس "أنابوليس"، فهو أخطر وأبعد، وهو استبدال مبدأ المفاوضات الذي قامت عليه مدريد (الأرض مقابل السلام) بمبدإ جديد، وهو : "السلام مقابل اعتراف العرب بيهودية دولة إسرائيل"
[4]. وإذا طبّق هذا المبدأ، فستكون له انعكاسات سلبيّة ووخيمة على الشرق الأوسط وكل دول الجوار، وسيسهم في وضع خريطة سياسية مبلقنة، وحبلى بالصراعات والمناوشات.
ومن المفيد التذكير، بأنّ مجموع المؤتمرات واللقاءات التي رعتها أمريكا بشأن البحث عن حل لمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، لم تحقق تقدما ملموسا على مستوى تفعيل القرارات الأممية، وآخرها الموقف من بناء الجدار العازل، ممّا يجعل إشرافها مشكوكا فيه؛ ويزيد من هذه الشكوك استقواء إسرائيل بـ"الفيتو" الأمريكي، وتنامي المساعدات الأمريكية "للولد المدلل" إسرائيل. وهذا ما يجعل هذه الرعاية الأمريكية أحادية الجانب، حيث ترعى مصالحها ومصالح أقاربها، دون أن تشمل بعطفها العرب والفلسطينيين، وإن طالت هذه الرعاية بعض العرب، فتظل موقوفة التنفيذ حتى تخضع لشروط مذلّة وحاسمة.
أمّا إذا تحدّثنا عن موضوع التدخل الأمريكي في شؤون العالم الثالث والاحتلال العسكري للعديد من الدول، فذلك أمر آخر، إذ لا يمتّ بأيّة صلة إلى قيم السلم والعدالة والديمقراطية، وما يقع لبلاد الرافدين لَمثال حيّ على سوء نوايا الأمريكيين، وبعد سياساتهم الخارجية عن روح الحكامة الرشيدة.
نستخلص من كلّ ما سبق، أنّ التجربة الأمريكية في ترويض البقر ورعاية البراري والدواب، أخطأت القياس لمّا قاست الأشباه من الدواب على النظائر من الناس، رغم الفارق الكبير بينهما؛ فالأمر لا يحتاج إلى سبر وتقسيم للبحث عن مكونات التلاقي بين الجانبين، محلَّ القياس الباطل.
ولمَّا كانت السياسة فنّا للعيش والجوار، فما أحوج العالم لميثاق تعاون وسلام فعّال، يحمي حقوق المستضعفين وينتشلهم من قبضة الأقوياء، في زمن صار فيه القانون نفسه مطرقة تدقّ بها حدود وحقوق الأبرياء، بمسامير من حقل مفاهيم حقوق الإنسان