** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 هدية حسين نساء العتبات/ رواية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تابط شرا
فريق العمـــــل *****
تابط شرا


عدد الرسائل : 1314

الموقع : صعلوك يكره الاستبداد
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

هدية حسين نساء العتبات/ رواية Empty
06062012
مُساهمةهدية حسين نساء العتبات/ رواية

ينة.. وفي الأيام التالية تجاهلتها، ثم تناسيتها كأنها لم تكن موجودة.
ست غرف نوم وأربعة حمامات، مطبخ مساحته أكبر من بيتنا، خزائنه من خشب
البلوط، قدور تيفال فرنسية بجميع الأحجام، أقداح من الكرستال، صحون من
الخزف الصيني، أتلمسها وأتذكر صحون أمي الفافونية واستكاناتها العادية
وطباخها ذا العيون المسودّة والنهايات الصدئة.
في صالة الضيوف التي نادراً ما يأتي إليها ضيف، يحتل رف بطابقين غائر في
أحد الأركان، المساحة المواجهة للجلوس، وُضعت في الطابق العلوي منه نياشين
وميداليات وأوسمة، كان جبار قد حصل عليها من معارك سابقة، كبحت سؤالاً
خشيت أن يطفر من رأسي له نبرة لا أشك أنها نبرة أمي: كم من الدماء سالت
لكل قطعة من هذه القطع؟ ثم ما لبثت أن طردته بعيداً عن(جنتي) لكي لا أطرد
منها.
ستخفت الدهشة بعد عدة شهور، وأعتاد على ما أرى فلم يعد يبهرني شيء، بل صرت
أرى بوضوح قضبان القفص الذي دخلته بإرادتي ورميت مفتاحه في بحر عميق..
ولكي أخفف من وطأة الكلمة على نفسي قلت وقتها: لا بأس، إنه قفص من ذهب،
ألم يقولوا للمتزوج حديثاً بأنه دخل القفص الذهبي؟ ها أنا أدخل قفصاً
ذهبياً بحق، وليس مجرد عبارة تقال في المناسبات، هكذا صممت أذني لكي لا
أسمع أي نداء من أعماقي ينغص عليّ حياتي، وهكذا أيضاً أقفلت صندوق الماضي
المخبوء في رأسي حتى كدت أنكر وجوده، واختبأت وراء الأسوار كما لو أن
أحداً يطاردني إذا خرجت.
لكن القفص بدأ يضيق علي، وعصفور قلبي راح يرفرف ملتاعاً دون أن يسمعه أحد
غيري، حتى جمّار، الأرملة التي جاء بها جبار من سوق الشواكة للعمل في
خدمتي، كانت هي الأخرى لا تسمع صوتي الداخلي.. كيف تسمع ما يمور في أعماقي
وأنا لم أنطق بشيء؟ أو على وجه الدقة أخشى الإفصاح عما أحس به أمامها بسبب
إحكام القناع الذي أرتديه حسب أوامر جبار:
ـ حافضي على المسافة بينكما.. أنت سيدة القصر فلا تنسي ذلك.
هي الأخرى كانت تدرك ما لها وما عليها.. امرأة بسيطة، في العقد الخامس،
نحيفة، حنطية البشرة، صوتها خفيض، وإذا ما مشت تكاد لا تسمع خطواتها.
الوقت الراكد بدأ يتلاعب بسيدة القصر، يطول، يتمطى، ويتناسل عن ضجر..
ساعاته تهرسني فأحاول تقليصها بطرق شتى، أجلس قرب حوض الأسماك وأتابع
حركتها السريعة المراوغة، وأجسادها الملساء اللامعة، وخطوطها وألوانها
المتداخلة، وعيونها الزجاجية، وأفواهها المفتوحة.. أتجول بين الأثاث، أرفع
هذه التحفة من هنا لأضعها هناك، أنظر من النافذة وأرى الفلاح منهمكاً
يقلّم الأغصان أو يزرع نبتة جديدة أو يقلع الأعشاب اليابسة، لا أجرؤ على
الدخول الى الحديقة إلا بعد أن ينتهي عمله ويخرج، وأيضاً بسبب التعليمات
الصارمة من جبار، عندها أستمتع وحدي بضوع الورود وزقزقة العصافير.. لكن
متعتي الحقيقية عي القراءة، عندما تطول ساعات الضجر وتأبى إلا أن تتوقف
عقاربها أستل رواية أو أي كتاب جئت به من بيت أمي وأقرأ.. لم أتخلّ عن
عادة القراءة ولم يضعف شغفي بها، حتى أنني أعدت قراءة بعض الروايات أكثر
من مرة بإحساس من له وقت فائض لا تعكره أحزان الماضي.. وحينما أتعب من
القراءة أمضي الى المسجل وألقمه بواحد من أشرطة(ياني) أحلّق معه ساعة من
الزمن ثم أهدأ.. ومع كل ما أفعله فإن ساعات النهار تتلاعب بي وتضجرني.
تجرأت مرة وأخرجت بعض ما في صدري، قلت لجبار:
ـ الوقت ثقيل، لا أعرف ماذا أفعل.
ولما لمحت تقطيبة جبينه وهو يحدق بي، قلت:
ـ أعرف أن مشاغلك كثيرة، أود تسجية الوقت في غيابك بقراءة الكتب، وأنت لا
تسمح لي بالخروج الى الأسواق والمكتبات إلا برفقتك، ورفقتك لا تتوفر
دائماً بسبب...
قاطعني بحركة من يده كمن يحاول إسكاتي:
ـ لماذا لا تقرئين هذه الكتب؟
وأشار الى رف صغير في حائط الممر المواجه للصالة، يضم كراريس حزبية وكتباً
سياسية ومذكرات ساسة، كنت ألقيت عليها نظرة سريعة حينما دخلت القصر.. أجبت:
ـ أنا أحب الروايات والقصص خصوصاً العالمية منها، أما عالم السياسة فلا يجذبني.
ربما امتعض من كلامي، فقد كانت ملامحه تتقلص، وقال: خلص، ستكون الروايات
بين يديك، وكلما سنحت الفرصة سأصطحبك الى المكتبات لتنتقي ما ترغبين
بقراءته.
**

أتسكع في قفصي الذي لم يعد ذهبياً، صار لونه أقرب الة النحاس مع طبقة
خفيفة من الصدأ، لا أدري لماذا أبعدني جبار عن العالم الخارجي بهذه
الطريقة، حتى المناسبات الرسمية التي عادة ما تحضرها زوجات المسؤولين كنت
بعيدة عنها، يكرر دائماً أنها لا تناسبني، ماذا يقصد بذلك؟ لا أدري..
صالون الحلاقة يأتيني الى البيت، أقصد صاحبة الصالون، حمام زيتي، تنظيف
بشرة، تقليم أظافر، تدليك.. وكذلك يأتي محل الأزياء، مع تكرار التعليمات
بعدم الخوض بالأمور الشخصية.. لا أخرج غلا نادراً وبصحبته، لا حديث بيننا
سوى ما يتحدث به عن جسامة مسؤولياته، طبعاً دون تفاصيل، تكشف نوع تلك
المسؤوليات.. أحياناً يأخذني لزيارة اخته أم لؤي في اليرموك، أتظاهر
بالرضى برغم شعوري أنها لا ترتاح لوجودي في بيتها، كلما دخلنا عليها أخذت
نصف الوقت بالعتب واللوم من عدم وفائه لها وعدم السؤال عنها ولو
بالتلفون.. كان يحاول استرضاءها بشتى السبل، يتذرع بمسؤولياته ويُشهدني
على ذلك بالقول:
ـ اسأليها، أحياناً أغيب أسبوعاً.. ماذا أفعل؟
يقبّل يديها ويربت على كتفها فتدفع يده:
ـ لا ، أنت نسيتني، لك عالمك الجديد.
وتخزرني بطرف عينها فيضحك ويقسم لها:
ـ لا والله، أنت أختي الغالية وحبيبتي، لا أحد يحتل مكانك في قلبي.
ثم تتحين أية فرصة لانشغاله فتهمس لي:
ـ زوجته الأولى ماتت بحسرتها، وابنه هجره وفضل المنفى ولم نعد نسمع عنه شيئاً.
أشعر بغصة، لكنني أبتلع غصتي وأحسب الدقائق لكي أخرج من بيتها، مفضلة
الانزواء في (قفصي) مع أصدقائي المفترضين في الروايات والقصص وداخل حوض
الأسماك.
**

مثلما وعدني.. سمعت هدير سيارة ونظرت من النافذة الى باب القصر، تسلّم
الحارس كرتونة صغيرة، وبعد قليل تناولتها جمّار وجاءت بها إليّ، كانت
تحتوي على عدد من الروايات، بفرحة طفل يتلقى أول لعبة احتضنتها، ولم تعد
ساعات النهار تتمدد، على الأقل لعدة أسابيع، رحت أقرأ وأعيش أحلام
الشخصيات، أغير أقدارها كما يحلو لي، أدوّن بعض الجمل في دفتر صغير أو أضع
خطوطاً تحتها، لم يوقفني عن القراءة إلا جبار حين يأتي، وقد أضحى في
الشهور الأخيرة لا يمكث إلا ساعة أو ساعتين في اليوم، أحياناً يغيب يومين
أو ثلاثة تبعاً لمهماته التي لا أعرف عنها شيئاً ولا أرغب في معرفتها، وهو
من جانبه يتكتم على كل شيء، أو لا يريد أن يزجني بما لا يعنيني.. في بعض
المرات تقاطعني جمّار وأنا منهمكة في قراءاتي، تسألني عن نوع الطعام الذي
ستطبخه أو صنف العصير الذي أحبه في ذلك اليوم، أقول لها دون أن أرفع نظري:
أي شيء... وقبل أن أنتهي من آخر كتاب تكون كتب أخرى قد وصلت، كما لو أن
جبار وجد أخيراً ما يلهيني عن العالم الخارجي الذي يحرص على إبعادي عنه.
فاجأني ذات صباح حين أخبرني بالتلفون بأنه سيعود ظهراً وسيصطحبني بعد
الغداء الى المكتبات.. وهكذا تجولنا في شارع المتنبي، واقتنيت ما يحلو لي
دون تدخل منه، لم يضع شروطاً لخياراتي، ولم يتصفح العناوين التي اخترتها،
كما أنه لم يحدد عدد الكتب أو أثمانها، جلس قرب صاحب المكتبة يدردش معه،
ورحت أنا الى رفوفها التي تعبق منها رائحة الأزمان المختلفة، وصارت مكتبتي
في البيت تكبر شيئاً فشيئاً، ولذلك قابلت مرونته فيما يخص رغبتي باقتناء
الكتب باتباع قاعدة ثابتة في التعامل معه، وهي عدم الخوض فيما لا يخصني،
والابتعاد عن كل ما لا يرغب فيه، ربما لهذا السبب لم أتصادم ولم أشكُ له
ما أحسه من ركود أيامي، بل رحت أسقيها بفيض ما أقرأ، ولم أندم لأنني اخترت
عدم إكمال دراستي الجامعية، وإنما وجدت رأيه صائباً حين قال وهو يشير الى
صدري العامر بالذهب والماس: ماذا تنفع الشهادات، هل توفر لك كل هذا؟
كنت وقتها أود القول إن أسوار القصر العالية والحرس والهدوء الذي يخيم من
حولي، كل ذلك يشعرني بالضجر، لكنني ابتلعت لساني لكي لا أغضبه، وأقنعت
نفسي بأنني لم أتدرب بعد على نعومة الحياة من كثر ما وخزني شوكها، وعليّ
أن أحترم خياراتي.
اليوم حين أقلّب الأمور أتساءل: هل كانت خياراتي صائبة، أم أنني فعلت ما
فعلت لأهرب من واقع جدب أبت أمي إلا أن تبقيه على حاله لتتلذذ بفقره
وحكاياته البائسة، ثم تورثني إياه؟
نعم.. هربت من جذوري لأنها غرست في أرض صبخة، اقتلعت نفسي من تلك الأرض
وفضلت رخاء العيش في القصر الباذخ الذي أصبحت رهينته فيما بعد، على حياة
العوز مع أم تلهث لكي توفر لقمة العيش، وتلهث أيضاً للركض نحو سراب رجل
أخذته الحرب يسمى(أبي) أنا التي لا أحمل منه سوى الانتماء البايولوجي حين
زرعني في رحمها واختفى.. كان عليه أن يختفي قبل أن(يفعلها).
**

الجلوس في شرفة القصر، مقابل نهر دجلة الهادىء الوقور، يمنحني بعض
السكينة.. أنظر في صفحة الماء، في موجاته المتتابعات، فأحسه يفيض على روحي
ويلهب خيالي بحكاياته الأسطورية التي علقت في ذاكرتي منذ الطفولة.. هو
ذاته النهر الذي لم يكن بعيداً عن بيت أمي وبيوت صاحباتها.. صار يوم
الخميس من حصة النهر، يقررن الذهاب الى بناية غاطسة في النهر اعتقد العامة
من الناس منذ عشرات السنين أنها مقام خضر الياس، برغم إثبات المؤرخين عكس
ذلك، يتبركن وينذرن النذور ويطلبن المغفرة عن ذنوب لا يبُحن بها إلا(للولي
الصالح) .. يجلسن على صخور الشاطىء بعد(الزيارة) يشعلن الشموع ويسيّرنها
على قطع الخشب، وأبحث أنا بين الرمال عن الحصى ذي الأشكال الغريبة.
هو ذاته النهر الذي يمر على بيوت الفقراء، مثلما يتهادى بالقرب من القصور
المنيفة، ولكنه هنا، من شرفة القصر، لا شموع ولا اختلاجات نذور ولا زوارق
صيد ولا لعب على الحصى، كل شيء ممنوع ما دام القصر الرئاسي رابض في المكان
ذاته.. لكنني في الحالتين أعيش قصص النهر التي تسكن رأسي، وأعيد تركيبها
كما أشتهي، فبدل أن تخرج الجنية من أعماقه وتخطف شاباً من بني البشر
لتتزوجه، يخرج جني ويخطفني لأتزوج منه، وأمضي معه الى أعماق النهر وأسراره
الغامضة، وأبتكر حياة لا علاقة لها بحياة اليابسة، أتحول الى حورية أو
سمكة ذهبية وأتسيّد عالم الأنهار، مع جني يشبه الملائكة، أملي أوامري على
المخلوقات الضعيفة، وأطوّع القوية منها لتكون تحت إمرتي... تُرى هل كنت
أبحث عن رجلي الحقيقي هناك بسبب أنني لم أجده على الأرض؟
**

كان الشاب الذي استقبلنا في مطار الملكة علياء وأوصلنا الى الشقة، أكثر
ميلاً للصمت، وحين يتحدث يكون بمنتهى التهذيب.. بعد أن انتهت إجراءات
الدخول وخرجنا الى القاعة، وقع نظري على لافتة تحمل اسم (أمل مصطفى) توجهت
نحوها وسلمت عليه، أخذنا بسيارته الى شقة فارهة في منطقة(تلاع العلي) خلف
أسواق السلطان، تقع في الطابق الثاني ضمن عمارة تتألف من أربعة طوابق.
ثلاث غرف نوم، صالة واسعة بنافذة تمتد على طول أحد الجدران، ستائر من
التول بلون بيج، مطبخ من الألمنيوم المخشّب تزدان خزائنه العلوية بصحون
وأكواب، وفي الأدراج السفلية كل ما يحتاج إليه المرء من أدوات مطبخ.
ودّعنا الشاب عند الباب قائلاً:
ـ اسمي زهير.. سأمر عليكما من حين لآخر.. في الثلاجة بعض الأطعمة والمشروبات، إذا تأخرت سأتصل بالتلفون.
وقبل أن يستدير أسرعت جمّار بالقول:
ـ إبني.. هل تعرف ماذا سيحدث؟
ابتسم زهير وطمأننا:
ـ لا شيء.
يبدو أن جوابه لم يرق لجمّار، فقالت مستغربة وبنبرة مرتفعة:
ـ لا شيء؟ تأتون بنا الى عمّان وتقولون لا شيء؟
ردّ زهير بأدب جم:
ـ أنا مقيم هنا، لا أعرف بالضبط ما يجري أو سيجري هناك، ولكن اطمئني يا خالة، أظنه احتراز لا غير.
همّت جمار بالكلام ثانية لكنني أسكتها بإشارة من يدي، وأنّبتها حال دخولنا الشقة:
ـ لا تتحدثي مع الغرباء بهذه الطريقة.
أسرعت للقول:
ـ غرباء؟ إنه عراقي مثلنا، و...
قلت لأسدّ مجرى الكلام:
ـ كفى.. إنه مجرد سائق لا نعرف عنه شيئاً.
**

عصفور قلبي انطلق ولا أريد له التوقف.. ها أنا خارج الحدود، بلا رقيب يعدّ
عليّ الأنفاس، أو رجل أنتظر عودته حين تسمح ظروفه، لا أسوار تعيق حركتي،
ولا كاميرات خفية تلاحقني، أمشي في طرقات عمّان وأكتشف دون دليل زوايا
المدينة، أدخل الأسواق والمتاجر والمولات، وأجلس حين أتعب في أي مكان
تأخذني إليه أقدامي.
إنها فرصة الانفراد بذاتي بعيداً عن أسوار القصر وحراسه، فرصة أن أتنفس
ولو الى حين هواءاً نقياً في أجواء لا تهددها الحروب، أن أضيف الى ذاكرتي
أشياء جديدة بلا خضوع ولا أشباح تأتي من الأزقة القديمة لتقتحم خلوتي.
ها أنا أكتشف الكثير من معالم المدينة في أيام قليلة وأعشق قلبها(وسط
البلد) إنه مزيج من الماضي والحاضر، مكتباته وأكشاكه عامرة بأصناف الكتب،
أسواق ودكاكين وأرصفة تبيع كل شيء، صخبه يُذكّر بصخب الباب الشرقي مركز
مدينة بغداد.. أزج نفسي داخل الضجيج لأهرب من صمت عاشرني فترة طويلة وصار
جزءاً مني، حتى بتّ أسمع صراخه في رأسي يطرق دون هوادة، أشعر بحاجتي لضياع
من نوع آخر يرافق طمأنينة المدينة التي تستقر على الجبال وتنزل الى
الوديان.. أمشي في الأزقة والشوارع الطويلة الصاعدة النازلة، والدرجات ذات
الآجر العتيق.. أنا بحاجة الى هذه(الهوسة) لأشعر بنبض الحياة بعد أن شبعت
من السكوت والسكون وقلة الحركة.
أجلس في المقاهي لأبدد الوحشة العالقة بروحي، قد يطول الوقت، وحينها تستقبلني جمّار مذعورة:
ـ تأخرت كثيراً سيدتي، لا أريد أن يحدث لك مكروه.
أقول لها بلا مبالاة:
ـ لن يحدث شيء نحن في مدينة آمنة.
ترد:
ـ أنا مسؤولة عنك سيدتي.
أسخر منها:
ـ أنا مسؤولة نفسي.
تحاول تذكيري بوصية جبار لها فأوقفها:
ـ هذا لا يمنحك حق التصرف في بحياتي.
تعتذر وتقول:
ـ حياتنا لم تعد كما كانت.
فعلاً.. لم تعد كما كانت، انقلب كل شيء طالما الحرب تُنذر بالأهوال، لو لم
يكن الأمر كذلك لما هرّبوا العوائل ذات الامتيازات الخاصة.. ليس ثمة
مقارنة بين ما مضى من حروب وهذه التي تلوح في الأفق، والتي بدت لي غير
مفهومة وفق تصوراتي، ولكنهم أصحاب قرار وساسة يعرفون ماذا يحدث في
الخفاء.. أم تراهم فعلوا الشيء ذاته وهرّبوا عوائلهم عندما اشتدت الأزمات
في الحروب السابقة، إجراء احترازي كما يقول زهير؟
في حرب إيران كنت طفلة، أتحسس الرعب على الوجوه من خلال وجه أمي المذعور،
فأرتعب حتى قبل سقوط الصواريخ وارتجاج البيوت، وفي العام 1991 عصفت
بنا(عاصفة الصحراء) فازداد الفقير فقراً والخائف ذعراً، حتى بات المرء
يخشى حيطان بيته، كانت أمي كلما ذهبت الى السوق جاءت بأقل ما يمكن لإدامة
الحياة، لقد اختفت معظم الحاجات الأساسية، وتداول البسطاء من الناس النكات
الممزوجة بالمرارة فأطلقوا على الدجاج عبارة(الحيوان المنقرض).
ذات يوم مر رجل كبير السن يحمل دجاجة مذبوحة في كيس نايلون شفاف، قطع الشارع وانعطف الى أحد الأزقة فاستوقفه رجل آخر واستفسر منه:
ـ أين وجدت هذا الحيوان المنقرض؟
ردّ عليه وهو يهم بدخول الزقاق:
ـ كلنا سننقرض يا أخي.
كدت في ذلك الوقت المرير لما خلفته الحرب وطول الحصار أن أترك المدرسة،
لكن إصرار أمي حال دون ذلك، كانت متطلبات الحياة لا تناسب الدخل الذي
تتسلمه نهاية كل شهر، وهو ما أقر لنا بعد أكثر من ست سنوات على اختفاء
أبي، واستمر في السنوات اللاحقة دون أية زيادة، مع أن الأسعار ترتفع بشكل
جنوني.. لكن أمي ومن أجل إقناعي تكرر المثل الشعبي(مد رجليك على قد لحافك)
وترى أن ولعي بشراء الكتب عادة سيئة ولا ضرورة لها إزاء الحالة التي
نعيشها، وأن عليّ فقط أن أفكر بكتب المدرسة واحتياجاتها، كنت أسخر داخلي
كلما أسمعتني ذلك المثل البائس الذي لا يلبي إلا قناعات الفقراء من
أمثالها، تلك القناعات الأكثر فقراً منهم.. كنت أتساءل: لماذا لا يكون
اللحاف كافياً لأمدد قدميّ كما أرغب؟ هل ينبغي عليّ التكوّر حول بطني بسبب
قصر اللحاف؟ وأروح أحلم بأغطية أكثر اتساعاً من لحاف أمي، وأكثر نعومة من
ريش النعام يمكنها أن تحتضن رغباتي، مبتعدة قدر المستطاع عن أحلام أمي
وصاحباتها البائسات، تلك الأحلام المربكة التي تدور حول فقدان الرجال في
حياتهن، والحب المفقود بسبب ظروف خارجة عن المسار الطبيعي للحياة.
فهل من أحد يلومني إذا ما حلمت بحياة لا تهددني بالانقراض، ولا أبحث فيها
عن شيء مفقود، حياة سخية لا أشكو في ظلها من برد ولا حر، أمدد جسدي بحرية،
ألبس أغلى الثياب، أتعطر بأثمن العطور، وأتقلب في طراوة العيش؟
في مثل عمري سقطت فتيات من أجل وجبة غذاء أو فردتي حذاء أو بلوزة، أو حتى
أحمر شفاه، أيام كان الحصار يعصر النفوس.. بينما وجدت أنا من أدخل قصره
وأصبح سيدة عليه لا متسولة على بابه.. وجدت ضابطاً كبيراً، بل قائداً من
قادة الحرس الجمهوري، تلك التشكيلة المقربة من رأس النظام.
**
أصابني اضطراب شديد، صفحة السماء غائمة وقاتمة، وكذلك قلبي، الظلمة تحيط
بالمكان من كل زاوية، والمطر يهطل بغزارة مصحوباً ببرق ورعد، بينما جمار
تغط في نوم عميق كما في كل ليلة.. أنا وحدي أقارع أشباحاً لا أراها، لكنني
أحسها وهي تشاغلني بهمهماتها المخاتلة بين السطور، لا ملاذ لي لكي أصدها
وأبعدها عن فراشي، أمي تخرج من بين الصفحات، بثيابها السود وتخلخل رأسي
المشوّش، حزينة كعادتها، مكتئبة وحانقة، إزاء إصراري على الزواج من جبار..
ينثال الحوار العقيم بيننا على النحو التالي:
ـ هل هذا هو الذي تتزوجين منه؟
ـ نعم هو.
ـ هل تذكرينه جيداً؟
ـ بالتأكيد.
ـ إنه بعمر أبيك.
ـ ليس مهماً.
ـ اسمعي.. العسكريون إما جلادون وإما ضحايا، ولا أظن هذا الذي يحمل النجوم الزائفة على كتفيه يمكن أن يكون ضحية.
ـ هناك لون بين اللونين يا أمي، ولا يمكن أن تكون الحياة إما سوداء وإما بيضاء.
الى آخر الحوار الذي دار بيننا، تماماً كما جاء في الرواية.. لو كانت أمي
على قيد الحياة لفكّت اللغز الذي دوخني.. وما زاد من حيرتي أن صاحبات أمي
في هذه الرواية لسن صاحباتها اللواتي عرفت.
بين الحيرة والريبة وساعات الأرق واستدعاء أمي وانطفاء صورتها في رأسي،
ورشق المطر على النافذة، وعويل الريح، هدّني التعب، ونامت الرواية بالقرب
مني، وحين صحوت كان الصبح عاصفاً وممطراً أيضاً، وما تزال بقية أشباح
تدوّم في أرجاء الغرفة.. ماذا أفعل بساعات النهار بعد أن أطرح منها ساعة
أو ساعتين للقراءة التي فقدت الكثير من متعتها، وبعد أن وجدت نفسي شخصية
ورقية لا يمكن أن تشكل علاقة حميمة مع القاريء بسبب انفلاتها خارج سرب
المألوف من الحياة؟
وبرغم أن عصفور قلبي رفرف خارج القفص، إلا أن هناك ما ينغص حياتي وليس
بمستطاعي شطبه من رأسي.. إنها الأسئلة التي تمد لسان النار وتحرقني: ماذا
يحدث في كواليس العراق؟ هل ستبدأ الحرب فعلاً أم أنها مجرد تلويح لإخافة
النظام؟ ماذا سيفعل القادة إذا وقعت الواقعة؟ هل سيدافعون حتى (آخر قطرة
دم) كما تقول الأغاني الجوفاء أم لم يبق في العروق من دم يقارع الأعداء؟
ماذا سيحل بجبار؟ ماذا سيحل بي؟
تنطفىء الأسئلة ويرتد لسانها الناري حين لا تجد إجابة، وتلتم من حولي
الأشباح، تضيّق عليّ الدائرة حتى لأحس أن أنفاسي ستتوقف، لكن جمّار تطرق
الباب، وتختفي الأشباح بلمح البصر: أعددتُ الفطور سيدتي.
أفرك عيني وأنظر إليها فأشعر ببعض الراحة.. أجلس حول مائدة الطعام، وتجلس
جمار حول طاولة صغيرة.. أتناول الطعام على عجل، لا أدري لماذا، ثم حين
ينتهي الإفطار تتحرك جمار وتقف بالقرب مني وهي تقول:
ـ التدفئة لا تعمل.
ـ أعرف.. تحتاج الى سولار.. في المخزن صوبة كهربائية سوف نستخدمها.
تذكّرني:
ـ فاتورة الكهرباء لم ندفعها بعد.
ـ سندفعها، عندما يتحسن الجو سأدفع الفاتورة، لديّ من المال ما يكفي.
ـ ما يكفي لأية فترة سيدتي؟
ـ لا تنسي، زهير هو المكلّف بنا.
ـ لقد وعد أن يمر كل أسبوع لكنه اختفى منذ عدة أسابيع، ماذا سنفعل إذا لم يأت؟
لم أجب، فقالت بنبرة يأس:
ـ لا أظنه سيأتي.
ـ سيتصل جبار وربما يبعث حوالة.
ـ الأوضاع صعبة فكيف تصل الحوالة؟
أحدق بها، وبعصبية أقول:
ـ لا تغلقي الأبواب في وجهي يا جمار، لابد أن يكون هناك حل، والحرب لم تقع بعد، ثم إن هذه الأمور ليست من مهمتك.
تعتذر جمار فأهدأ.. ترفع الصحون وتمضي الى المطبخ، بينما أتحرك أنا صوب
النافذة، مايزال المطر يهطل بغزارة محولاً الشارع الى ما يشبه النهر
الجاري، والرياح قوية تعبث بأغصان الأشجار.. يخامرني شعور بأنني شجرة
عارية حتى من الأغصان، تقتلعها الرياح وتقذفها الى العراء فيسري البرد في
أوصالي.
أعود الى الفراش البارد، أتدثر فتصطك أسناني، أقول في داخلي إن جمار على
حق، ليس ثمة حوالة تأتي من بغداد المشرفة على كارثة جديدة، وقد لا يأتي
زهير أبداً، كان عليّ تقنين المبلغ الذي أعطاني إياه جبار بدل شراء مسجل
وأشرطة لم أسمعها بعد، وثلاثة قمصان وحقيبة وحذاء وإشاربات وأدوات ماكياج
ومرطبات بشرة ليس من داع لشرائها في الوقت الراهن، خصوصاً وأن نبرة
الفضائيات تغيرت باتجاه وقوع الحرب، وراحت تتسابق وتتفنن بصياغة الأخبار..
محللون وقادة عسكريون، وأعداء متربصون، وحاقدون، وأصدقاء مخلصون خائفون
مما ستؤول إليه الأمور، وجوه من كل صنف ولون، تبادل اتهامات وشتائم وصراخ
وتظاهرات تعم العالم، مع، وضد.
هل كنا داخل العراق في نعمة حيث لا فضائيات ولا موبايلات ولا نعلم عمّا
يدور سوى من خلال تلفزيون الحكومة؟.. أتذكّر حكاية المعلم محمود الذي كان
يسكن في آخر الزقاق، اهتدى الى وسيلة لسحب البث الخارجي، عن طريق تحوير
صحن صغير نصبه خلسة على سطح داره فوشى به أحد الجيران، قضّى الرجل تسعة
أشهر في المعتقل، وخرج نحيفاً بعد أن كان وزنه يربو على الثمانين كيلو،
وقد فُصل من وظيفته، فاشترى مركباً صغيراً وصار ينقل الركاب من الكرخ الى
الرصافة وبالعكس، وتحوّل من رجل بشوش الى آخر لا يشبه ما كان عليه، حذراً،
صامتاً، وخائفاً.. وحين سُرق مركبه لم يتقدّم بأية شكوى، وصار يبيع أغراض
بيته ليطعم ثلاثة أطفال وزوجة، حتى جاء اليوم الذي باع فيه البيت ورحل من
الزقاق الى جهة غير معلومة.
فعلاً ماذا سنفعل أنا وجمار إذا ما دامت مدة إقامتنا طويلاً وأوشكتُ على
الإفلاس؟ هل أبيع ما حملته معي من مصوغات؟.. ينتفض جسدي رعشة لمجرد
التفكير ببيعها، لا أحس بالاكتمال إلا بها، مع بريقها اللاهث وحبات لؤلؤها
وياقوتها.. لكنني أطمئن نفسي بأن لدي الكثير مما تركته في بغداد، إذ لم
يخطر ببالي حينها أن آخذها بسبب السرعة والإرباك الذي صاحب سفري المفاجىء.
يبدو أن لا مفر من بيعها، فجمار لا تنفك تذكّرني من حين لآخر بصعوبة
الوضع، وعليّ أن لا أبذر النقود، لكنني أتظاهر باللامبالاة، أو أقول لها
بأن الظروف ستتغير لصالحنا.. تمط شفتيها دون أن تعلّق، فأفهم أن جوابي لا
يقنعها، أهمس لنفسي: من هي حتى تفرض عليّ نمط حياتي، لقد تمردت على أمي
وفرضت إرادتي عليها، وجمار ليست أكثر من شغالة تتلقى الأوامر مني.
وحين أخلو الى نفسي أجد أن هذه القروية التي لا تفصح ملامحها إلا عن الفقر
والأحزان تعرف خفايا الأمور أكثر من البنت المتعلمة التي تسكنني..أتراني
راهنت على حصان شائخ؟ أم أن فصول روايتي الحقيقية ستبدأ من هنا، من عمّان
حيث أضطر الى جرد كشوفاتي الماضية، وأنتظر ما لا أعرفه، وأتابع أخبار
البلد عبر الفضائيات التي تزيدني تشويشاً، باحثة من خلالها عن خيط أمسك
به، لأصل الى رجل يصعب الاستدلال عليه ينقذني من العوز والقلق؟
ماذا أفعل هنا؟ وماذا تخبىء لي الأيام القادمات؟
**

أشرقت الشمس بعد يومين ماطرين وعاصفين، تشبعت الأرض بالماء وهدأت العاصفة
وبدت السماء صافية كأنها لم تدلهم.. استوقفتني جمّار بينما كنت أهم
بمغادرة الشقة، بدا وجهها حائراً وتلجلج الكلام على شفتيها:
ـ ها، ماذا وراءك؟
ـ لا أدري ماذا أقول.
ـ قولي.. لم يعد لدينا غير الكلام.
حركت يديها في الهواء ثم شبكت أصابعها.. رحت أنظر إليها لعلّ عقدة لسانها تنفك، ولما طال صمتها قلت:
ـ ما الذي يدور في ذهنك.. قولي دون إحراج؟
ـ لماذا لا نعود الى بغداد؟
قالت عبارتها كمن يرمي عن كاهله عبئاً ثقيلاً.. صرخت بها:
ـ لابد أن لوثة أصابت عقلك.. كيف نذهب الى بغداد في مثل هذه الظروف؟
ـ الحنين يكاد يقتلني.
ـ لمن يا جمار؟ ليس لك أحد هناك حسب علمي.
ـ لبيتي في الشواكة.. للأسواق.. لوجوه الناس.. الإنسان يا ست أمل معجون
بتراب الأرض التي عاش عليها، أنا هنا لا أعرف أحداً ولا أحد يعرفني.. أخاف
أن اموت في الغربة.. حتى الموتى هنا لا يعرفونني إن جاورتهم.
قلت ساخرة:
ـ اطمئني.. سيأخذونك بالأحضان.. أما إذا كنت مصرة فسأوصلك الى مجمّع
السيارات الذاهبة الى هناك.. هذا إذا كان ثمة من يسافر الى بغداد في مثل
هذه الظروف.
نشجت مثل طفل وجرت دموعها ثم قالت:
ـ كيف أذهب وحدي وأتركك، ماذا سأقول للسيد جبار؟
ـ كان عليه أن يتصل.
ـ لماذا لا تتصلين أنت؟
ـ تلفون البيت لا يرد، ولا أعرف رقم هاتف يوصلني به، الأمور أصعب مما نتصور، وإلا لما جاء بنا الى هنا.
أرادت أن تقول شيئاً فقاطعتها وأنا أنظر الى وجهها المتغضن والحزن المتراكم عليه:
ـ أنا لا أتخلى عنك، ولكنني لا أقف حائلاً بينك وما تريدين.. تذكّري أن مصيرنا واحد يا جمار.
مسحت دموعها بطرف شيلتها وقالت بصوت مخنوق:
ـ أخشى أن نصبح مثل التائه في الصحراء.
شعرتُ بانقباض في صدري بسبب سلوكي الخشن معها، اقتربت منها، طمأنتها وأنا أدرك أن ما أقوله ليس صحيحاً:
ـ سيأتي الفرج ونعود بأحسن مما كنا عليه.
رفعت يديها الى السماء طالبة انفراج الكرب.. ابتسمت لها وقلت:
ـ والآن افرجي عني.. سأدفع فاتورة الكهرباء وأنزل الى وسط البلد.

**
الشوارع ندية، رائحة الأشجار رطبة، والرياح تضرب وجهي كما لو أنها
تداعبني، لكن هذا كله لم يمنعني من الشعور بأنني شجرة عارية في أرض بعيدة
جداً عن الأرض التي نبتت عليها.. تجولت في شوارع ضمت متاجر حديثة، عاينت
المعروض من الملابس والاكسسوارات، لم أضعف إزاءها، لذلك لم أشتر أي شيء..
الطريق يأخذ قدميّ نزولاً فلا أشعر بالتعب، مشيت طويلاً حتى دخلت عمق وسط
البلد، ومررت بشوارع فرعية كثيرة لم يسبق أن مررت بها، كما عرجت على
المكتبات وقمعت رغبتي بشراء الكتب، ماتزال(ابنة الحظ) معي لم أبدأ
بقراءتها منذ أتيت بها من بغداد، سأقرؤها حالما أعود، هكذا قررت، لعل الحظ
يصيب وتنقشع غيوم البلد.
وجدت نفسي في شارع يدعى(الشابسوغ) يفضي الى سوق صغير للذهب، غمرتني حالة
بين الارتياح والانزعاج، لكنني تجاوزتها ودخلت أول محل، بعت إسورتين لم
أعرف القيمة الحقيقية لهما بسبب عدم وجود أوراق الشراء، لا أدري إن كان
صاحب المحل قد خدعني أم لا، وحين خرجت شعرت بشيء يعصر قلبي.
عندما عدت للشقة كانت جمار تجلس في الشرفة، تنبش بين حبات الرز باحثة عن
حجارة أو زوان، وبرغم أنني أخبرتها مراراً أن الأمر هنا مختلف عنه هناك،
إلا أنها أدمنت هذه العادة منذ الصغر كما قالت.. الرز والعدس والحمص في
بلدنا يحتاج الى تنظيف قبل المباشرة بطبخه لكثرة ما فيه من حصى وحجارة..
طبعاً هذا لا يشمل ما يدخل بيوت الأغنياء، ولهذا دُهشتْ حينما عملت في
القصر بخلو البقوليات من الشوائب، لكنها ظلت تقول إن الأمر لا يخلو من
الاحتياط، وداومت على تلك العادة.
**
لم تكن جمار مقطوعة من شجرة إلا بعد أن مات زوجها، حكايتها طويلة ومتعرجة،
قطعت الأميال خلال سني حياتها قبل أن تجد نفسها في القصر، لم أعرف شيئاً
عن ماضيها عندما كنا في بغداد، لكنها فتحت المغلق من رأسها وروت لي تلك
الحكاية على مراحل.
في الليلة التي قررت فيها قراءة(ابنة الحظ) نازعتني رغبة باستدعاء جمار
الى سريري، كنت بحاجة ماسة لسماع رواية أخرى لا تخرج شخصياتها من الورق..
ناديتها فجاءت مسرعة، أشرت لها أن تندس معي في الفراش، كان من المستحيل أن
أفعل ذلك ونحن في بغداد، وهي من جانبها تعرف ما لها وما عليها فلم تتخط
الحدود الفاصلة بيننا، أما أنا، في هذه اللحظة بالذات حيث القلق يسوّر
روحي فلم تعد تلك الحدود الوهمية تهمني.. قلت لجمار:
ـ تعالي يا خالة.
هي المرة الأولى التي أنطق بها(يا خالة) ولم أكررها بعد ذلك.. ترقرق الدمع
في عينيها واقتربت غير مصدقة.. أمسكت بكفها النحيلة الباردة وسحبتها الى
السرير، طلبت منها أن تحكي أي شيء يخطر ببالها، تماماً مثلما تفعل الأمهات
عند مهود أطفالهن.
في تلك الليلة لم أنم حتى غلبها النعاس دون أن تكمل الحكاية التي بدت لي مثل فيلم من أفلام حسن الإمام.
ـ جئت الى بغداد وكان عمري ثلاث عشرة سنة، خرجنا من قرية(النواعير) في
أقصى الجنوب، أبي وأمي وأنا، في ليلة من ليالي تموز الخانقة، وريح السموم
تلفح وجوهنا، أبي يتقدمنا، الطريق وعر وشبه مظلم، نمشي وراءه وهو يدرك نوع
المصير الذي سنلاقيه جميعاً إذا وقعنا بيد رجال الشيخ(كايد) لذلك كان
يأمرنا بالابتعاد عن البيوت والاحتماء خلف جذوع النخيل وصفوف الحلفاء..
كانت أمي تحمل صرة ملابس، وأنا أحمل صرة تحتوي على خبز وتمر وبيض مسلوق،
نمشي مسرعين ونركض إن تطلّب الأمر، صامتين وخائفين، يلاحقنا نباح الكلاب،
هاربين من قدر أراده الشيخ لنا، وذاهبين الى قدر تركنا أمره لله.
كانت الليلة التي سبقت هروبنا مريرة وقاسية على أبي الفلاح المسالم، عندما
حضر(السركال) وأخبره بأن الشيخ كايد يريد الزواج من جمار.. قالها بصوت
آمر، وهو ما يعني ضمّي الى قطيع الحريم، لأننا بعرف الشيخ الهرم جزء من
ممتلكاته.. كان أبي يقول في بعض المناسبات بأن أجسامنا من حق الشيخ ولكن
أرواحنا ملك لنا، تتوق للتحرر من ظلمه والانعتاق من قبضته.. ولأن أبي لا
يجرؤ أمام السركال من المعارضة، فقد قال له: أبشر.. لكنه قرر الهرب قائلاً
بعد خروج السركال:
ـ حان وقت التحرر.
كان خلال سني عمله في مزرعة الشيخ متذمراً بسبب الإهانات التي تلحق به من
الشيخ أو من رجاله، أمام مرأى ومسمع الجميع، أما بسبب مرض أبي واضطراره
للبقاء في البيت، أو تأخره في تسليم الحاصل.. لقد عُرف الشيخ كايد
بالقسوة، لا يتوانى عن قتل أحد لأتفه الأسباب، ذات يوم عاد أحد الفلاحين
يحمل سمكة اصطادها بالفالة، وقبل أن يصل بيته بعدة أمتار كان موكب الشيخ
يمر، فخرج منه السركال وتقدم من الفلاح قائلاً:
ـ هذه السمكة تعود للشيخ لأنك اصطدتها من النهر الذي يمر بالقرب من مضيفه.
وحدثت مشادة بينهما، للمرة الأولى تحدث مشادة بين فلاح ورجل متنفذ مثل
السركال، وكانت النتيجة أن قُتل الفلاح أمام أعين الجميع بالفالة التي
اصطاد بها السمكة، ليصبح عبرة لغيره.. يُقتل فلاح بسبب سمكة، فكيف ستكون
ميتة من يرفض تزويج ابنته للشيخ؟
لم يتداول أبي مع أمي أمر الهروب الى بغداد بل أمرها أن تتهيأ، وهي لم تتباطأ وإنما أيدته وناصرته على الفور بالقول:
ـ ماذا تبقى لنا غير جمّار القلب؟
قطعتْ جمار حكايتها وغيرت نبرة صوتها وهي تسألني:
ـ سيدتي.. أتعرفين معنى(جمّار)؟
قلت لها بينما كنت أتثائب:
ـ إنه لب النخيل، يقع تحت حبيبات الطلع، تذوقته مرات عديدة في طفولتي وطعمه لذيذ جداً.
ضحكت جمار وهي تقول:
ـ كنت أظن أن الأغنياء لا يعرفونه.
ومضت في سرد حكايتها:
ـ كنت أسمع عن بغداد حكايات تدوّخ الرأس، كلما سافر إليها أحد من القرية
عاد ليقول: إنها مدينة العجائب، ليلها نهار، ونهارها مزدان بالبهجة،
شوارعها عريضة مبلطة وفيها الكثير من الحدائق، مقاهيها مفتوحة حتى الصباح
وأغانيها فاضحة ونساؤها(يخبْلن) العاقل.
صمتت جمار وتحسرت ثم قالت: وكان لي فيها حلم سأحدثك عنه فيما بعد.. ثم تثاءبت قبل أن تواصل:
ـ سرنا طويلاً حتى وصلنا الشارع العام، وهو الوحيد الذي يوصلنا الى المدن،
ومن هناك انتظرنا أكثر من ساعة، كنا نرتجف من الخوف لكي لا يُكشف أمرنا،
حتى لاحت أضواء سيارة أشار لها أبي فتوقفت، كانت من نوع بيك آب، تقدّم من
السائق وبعد قليل أشار لنا أن نصعد على سطحها مع الخرفان والماعز، بينما
جلس أبي جوار السائق.
خرجت من صدر جمار آهة طويلة، وراحت تحكي كيف أنها نامت بين الحيوانات
والجلود ولم تستيقظ إلا بعد أن أحست بيد امها تربت على كتفها وتقول: ها قد
وصلنا.
ـ كانت الشمس تبزغ تواً، والأعمدة الكهربائية ما تزال مُنارة، والهواء
منعش.. نزلنا في ساحة كبيرة للسيارات، ضاجة بعمال وسواق وباعة خضر يُنزلون
حمولتهم، وعربات طعام وأكداس جلود وصوف وحلانات تمر.. قال أبي: هذه هي
بغداد، والتفت الى أمي منبّهاً إياها: امسكي يد ابنتك فقد تضيع.. كنت
مبهورة بالأضواء وحركة الناس، متذكرة قرية النواعير التي تغرق بالظلام كل
ليلة ويهمد أهلها للنوم من أول المساء مثل الدجاج.. توجهنا الى سور الساحة
حيث عدد من الرجال والنساء يبيعون الشاي والقيمر، يحيط بهم جنود وعمال..
جلسنا أنا وأمي مستندتين الى جزء من السياج، وذهب أبي ليجلب لنا الشاي،
بينما فتحت أمي صرة الطعام وأخرجت البيض المسلوق والخبز.
ـ هل نمت سيدتي؟
سألتني جمار فأجبت بصوت رخو:
ـ لا، لم أنم.. استمري.
تثاءبت ثانية وقالت:
ـ إيه.. ما علينا.. تفاصيل كثيرة في حكايتي لا أريد أن أدوّخك بها.
كررت عليها.. استمري.
ـ استأجرنا غرفة في بيت لا يبعد كثيراً عن ساحة السيارات، دلّنا عليه بائع
الشاي.. اجتزنا ممراً ضيقاً ينفتح على حوش تتوزع على جوانبه أربع غرف
متقابلة ومستأجرة لعوائل أخرى، أما غرفتنا فتقع في الزاوية البعيدة، وهي
معزولة تماماً عن بقية الغرف، لكنها تتصل بها من خلال فسحة صغيرة تنتصب
فيها حنفية ماء محاطة بحوض من الإسمنت، يستخدمها الجميع للتزود بالماء أو
غسل الصحون والملابس.. الغرفة خالية إلا من حصير ومخدتين وبريمز صدىء
وقدْرين مع عدد من الصحون.. قال أبي لأمي عند دخولنا الغرفة:
ـ هذا مكان مؤقت لأنني لا أعرف بغداد جيداُ، كما تعلمين زرتها مرة واحدة
للعلاج قبل سنتين.. سوف أبحث عن عمل، المهم أن أجد ماجد المرهون وهو يدبر
لنا كل شيء.
ثم حذرها:
ـ الناس هنا فضوليون، لا تخبري أحداً بقصتنا، إذا سألتك واحدة من نساء البيت قولي جئنا لزيارة قريب لنا.
وحالما سمعت اسم ماجد المرهون فرّ قلبي من بين أضلاعي.. ها سيدتي، هل غلبك النوم؟
لم تنتظر إجابتي، بل واصلت:
ـ كان أطول الأولاد في مثل سنه، أسمر مملوح، جميل التقاطيع، أجعد الشعر،
يتسابق مع شباب القرية ويسبقهم في صعود النخيل، يصل رأس النخلة ويلوّح لي،
يرمي الرطب ويغني.. آه سيدتي، له صوت ولا صوت حضيري أبو عزيز.. عاش في كنف
الشيخ كايد بعد أن مات أبوه صانع القهوة وناحر الذبائح في مضيف الشيخ، كنا
نتشارك في صنع الحصران لمن يطلب المساعدة، تأتي النساء بالخوص الذي يكون
قد مرّ قبل ذلك بمرحلة التنقيع والترطيب، نجلس جميعاً تحت فيء النخيل أو
أمام البيوت ونتابع حركة أصابعهن التي لا تكف عن ضفر الخوص، الكل يشارك
بصناعة الحصران وأقفاص الدجاج بعد أوقات العمل في المزارع، أما الأسرّة
والكراسي فلها رجالها لأنها تتطلب جهداً أكب، المهم.. ما علينا.. كبر ماجد
المرهون واستُدعي لخدمة العلم في بغداد، سافر إليها ولم يعد حتى بعد
انتهاء مدة الخدمة.. ماذا يفعل إن عاد؟ سيكون عبداً من عبيد الشيخ كايد
كما كان أبوه من قبل.
ـ هل أتعبتك حكايتي؟
ـ لا أبداً.
ـ كنا نلعب معاً في طفولتنا، وبعد أن كبر عزلوه عني، لكننا كنا نجد طريقة
للقاء كلما تمكنا من ذلك، حتى جاءت سفرته الى بغداد وانقطعت أخباره عني..
قيل إنه تطوع في الجيش بعد انتهاء الخدمة الإلزامية، وقيل إنه قبل أن
يُسرّح اشتعلت معارك الشمال وقُتل فيها، لكن بعد أن عاد أبي من سفرته
الوحيدة الى بغداد همس لأمي بأنه التقى ماجد المرهون في أحد المقاهي، وطلب
من أبي أن لا يفشي سرّه عند أحد لأنه لا يريد أن يعود للعمل عند الشيخ،
وقد استقر نهائياً في بغداد، وإنه مقابل عدم إفشاء سره سيساعد أبي إذا ما
قرر هجر القرية، قال أبي بأنه امتهن صناعة الأسرّة والكراسي.. هذا هو حلمي
الذي عشت من أجله، لقد اقترب كثيراً بعد أن كان أبعد من النجوم.
بدا صوتها متهدجاً وتثاءبت مرتين، شعرت بأنها أوشكت على النوم.. قالت بصوت خفيض ورخو:
ـ سأكمل لك بقية الحكاية غداً.
وسكتت، ثم راحت الى نوم عميق لم أشأ إيقاظها منه.. دسستُ رأسي قرب صدرها
لأستمد منه الدفء، وبين ظلال النعاس وأطياف العائلة التي هربت.. غفوت.
**
قرأت الرواية للمرة الثانية علّني أمسك بخيط كنتُ غافلة عنه يوصلني
بالكاتبة، لكنني بعد آخر سطر فيها لم اعثر على أية صلة بينها وبين أحد من
عائلتي.. لو كانت على قيد الحياة لوصلت إليها، أما وقد ذهبت الى الحياة
الأخرى فلقاؤها بات مستحيلاً، وعند هذه اللحظة قررت أن أتجاهل الأمر..
وهكذا رميت الرواية في أحد الأدراج ولم تعد تشغلني كثيراً، ذلك أنّ ما أنا
عليه هو الأولى بالاهتمام، فقد بدأ الخوف من الآتي يلوّح لي.. كنت آمل أن
يتصل جبار طيلة الأيام الماضية أو أن تجد محاولاتي بالاتصال طريقها إليه،
أو على الأقل يأتي زهير المكلف بنا وبتلبية احتياجاتنا.. تبدو الأمور كلها
متشابكة وغير واضحة، ومصيري معلّق بما يحدث في بغداد.
قلت لجمّار بعد الغداء:
ـ دعينا نتابع الأخبار.
فتحت فمها دهشة، فقد كنت مُذ جئنا الى عمّان أحرص على مشاهدة الأفلام
وبرامج المنوعات، وأحجم عن نشرات الأخبار فلا أقف إلا على عناوينها ثم
أغير القناة.
ـ أخبار؟
ـ نعم، قلت لها، يوم أمس وأنا أتنقل بالقنوات شاهدت تظاهرات تندد بالحرب وتطالب أمريكا بعدم الإقدام على مثل هذه الحماقة.
قالت جمار وقد أدهشتني هذه هي هذه المرة:
ـ وماذا فعلت التظاهرات في حرب الكويت؟ إيه.. الحكام يفعلونها والفقراء يأكلون التراب.
وإذ رأيت ملامحها تكتسي بالحزن سألتها:
ـ هل قُتل لك أحد في تلك الحرب؟
ـ كلا.. ألم أقل لك أنني مقطوعة من شجرة؟ ولكن تريدين الحق، كل واحد مات
في الحرب هو بمثابة ابني أو أخي.. كانت حرباً لا داعي لها من الأساس.
سحبت نفساً عميقاً وقالت:
ـ أنا لا أفهم في السياسة ولكنني أعرف أن الكويت دولة عربية مسلمة، وكان
رئيسنا يكرر دوماً بأن العرب أخوة، فكيف يغزوهم؟ لقد(قشمرنا) وأدخلنا
حرباً أحرقت اليابس والأخضر، ألم تكفه ثمانية أعوام من الحرب مع إيران؟
ولمّا طال سكوتي ولم أجب على أسئلتها قالت:
ـ ها سيدتي.. ماذا تقولين؟
قلت منزعجة:
ـ جمار، أنا لا أحب الخوض بالسياسة.
استغربتُ ضحكتها الطويلة فسألتها:
ـ هل قلن شيئاً مضحكاً؟
قالت وهي تمسح دموعاً طفرت من عينيها:
العفو.. أنا أضحك على نفسي.. هل ما قلته هو كلام في السياسة؟ يعني أقدر أصير سياسية؟
ضحكتْ ثانية، واعتذرت حينما لمحت سحابة الضيق على وجهي، واكتفت بالقول:
ـ الله يستر من(الجاياّت).
ـ هذه الحرب إذا ما وقعت فإنها تختلف يا جمار، يعني كل الذي راح كوم، وهذه كوم.
ـ الشر برة وبعيد.. يا رب افرجها علينا.
عند هذا الحد اختفت رغبتي بسماع الأخبار، وقررت أن أبدأ بقراءة(ابنة الحظ) فقد طال انتظارها لي.
**

هربت إلزا سوميرز من بيت العائلة الى مصير مجهول، بحثاً عن حبيبها(خواكين
مورييتا) الذي كان يعيش مع أمه في بيت بائس ويحلم بحياة تنقله من الفقر
الى حياة الناس المحترمين، في وقت ذهب فيه الآلاف مثله الى كالفورنيا بعد
اكتشاف الذهب، ولم يكن هذا الحبيب على مستوى الحب الذي جمعه بإلزا التي
ترك في أحشائها ثمرة العلاقة، لكن إلزا تقرر المغامرة في رحلة طويلة وخطرة
عبر المحيط، من ميناء الى آخر، ومن مدينة الى مدينة، محشورة داخل عنبر
السفينة لئلا يتعرّف عليها أحد، عاشت الوحدة والخوف وأحست بأنها مدفونة
بين روائح السمك ومحتويات الطرود والصناديق، في رحلة ستطول أكثر من الحد
المعقول، هذا ما أخبرها به الحكيم الصيني(تاوتشين) الذي عثر عليها في
مخبئها، وكان يعمل في السفينة قبل أن يصبح صديقاً لها وعوناً على ما
سيواجهها من متاعب، وفي ذلك العنبر أجهضت إلزا بعد معاناة مع المرض، وغرقت
في هذيان الحمى، ولأن تاوتشين ورث عن عائلته معرفة التداوي بالأعشاب فقد
قدّم لها ما بوسعه ليعيد إليها الحياة التي كادت أن تفر منها، وستعرف إلزا
قيمة ما فعله بعد وقت طويل، لتثمر تلك المعرفة علاقة تدوم حتى نهاية العمر.
أما حبيبها فقد ضاع مثل إبرة في قش، وصارت تدرك أن كل ما تقوم به للوصول
إليه مجرد عبث، ولكنها مع ذلك تستمر في البحث بعناد غريب، تبحث دون كلل عن
رجل أصبح فيما بعد أسطورة، وكتب عنه الشاعر بابلو نيرودا مسرحيته
المعروفة(تألق خواكين مورييتا ومصرعه) لكن قبل ذلك بسنوات طويلة ستكتشف
إلزا أن حبيبها مطلوب للعدالة لأنه ليس أكثر من قاطع طريق.
بين هروب إلزا ورحلتها الطويلة ومصرع خواكين مورييتا ثمة مغامرات وحكايات
لا تعد ومصاعب لا تحصى، وأناس تتعرف عليهم من كل صنف ولون، وقصص حب زائفة،
وبحث محموم عن الذهب، وثمة لصوص وبائعات هوى وأمراض تفتك بالكثيرين، عربات
وخيول ومتاجر مرتجلة وضوضاء وشجارات، معاول تدك الصخر ورصاص طائش لا تدري
من أين ينطلق.. كل شيء يباع وكل شيء تحت الطلب في جميع المدن التي مرت بها
إلزا، وفي كل بلدة يصل إليها الناس يمارس الحكيم تاوتشين مهنة الطبابة،
تساعده إلزا التي استعادت عافيتها وتخلصت من خوفها، فهو يعالج الملدوغين
بالأفاعي والمصابين بالكوليرا، لقد جاء هؤلاء بوهم الثراء بعد اكتشاف
الذهب، ساحبين معهم أطفالهم الجائعين وزوجاتهم البائسات.
عن تلك الحياة المرتبكة القلقة تدور أحداث رواية(ابنة الحظ) لإيزابيل
الليندي، شخصيات كثيرة وعالم شائك وجدتني أسير فيه على خطى إلزا سوميرز
لعلني أصل يوماً الى بر الأمان في العثور على(رجلي) الذي لا أعرف حتى الآن
من يكون بالضبط؟ هل هو جلاد أم ضحية، وأنا أبغض الاثنين معاً، لكنني خلقت
من وهمي رجلاً لا تنطبق عليه مواصفات الجلاد ولا
الضحية.
حين وصلت الى نهاية الرواية، بعد هذه الرحلة الشائكة والمتعبة، أحسست
بالإرهاق ورحت أسحب أنفاسي بعمق كما لو أنني تلك العاشقة التي خاضت
المغامرة، لقد استغرقتني(ابنة الحظ) ليلتين وعدداً من ساعات النهار.. كانت
منقذتي من وحدتي، آخذة بيدي لأعبر المحيطات وأقارع أشباح الليل وأقف مع
إلزا في آخر السطور وهي تنظر الى الرأس المقطوع، رأس حبيبها، لتقول
العبارة الأخيرة(إنني الآن حرة).
أكان عليها أن تقوم بتلك الرحلة الطويلة، وتمر بتلك العذابات حتى تصل الى
ما وصلت إليه؟ هل كانت محظوظة لأنها تخلصت من قاطع طريق؟ أم لأنها أدركت
بعد رحلتها المضنية أن الحظ يكمن في مكان آخر ورجل على شاكلة الحكيم
تاوتشين؟
**

جاءت مثل غيمة داكنة ثقيلة الوطأة، بأصوات مرعبة نافرة وبشعر منكوش، مثل
السعلوة التي تتحدث عنها الأساطير، بشعة مخيفة قاهرة، تخطف الأرواح بمخالب
شرسة وعيون تقدح شرراً.. جاءت تلك التي تروّع القلوب، وتفزع النفوس، وتفجع
الأمهات والآباء، وتهدد بالويل والفناء، جاءت تضخ سمومها وغيظها وغيومها
الملبدة بالشياطين.. اندفعت هوجاء، عبثية، مجنونة.
جاءت الحرب الثالثة، غطت سماء ما بين النارين، وسحبت مني آخر خيط للأمل
الذي لا أحمل منه سوى الاسم.. الفضائيات اشتعلت وتسابقت ، أيها تضخ أكبر
كمية من أخبار النار على شاشاتها المتوهجة حتى قبل أن تتأكد منها.
جمّار ترفع رأسها للسماء وتكرر: اللهم اجعلها برداً وسلاماً على
العراقيين، اللهم احفظنا من رجس الشياطين واحفظ الأبناء للأمهات الصابرات،
وارحمنا يا أرحم الراحمين.
وأنا لا أجد كلمات أرتكن إليها، أهرب الى النافذة وأتطلع الى سماء عمّان
الصافية، أعود للتلفزيون وأرى سماء العراق المدلهمة.. القنوات لا تكف عن
تأكيد أن هذه الحرب لا تشبه سابقاتها.. أرتجف وتصطك أسناني، أتساءل: كم
ستدوم، كم ستقتل، كم ستهدم، وما هي المسافة التي سنهبط إليها حتى يمكننا
العودة الى ركب العالم؟
أكاد أختنق من دخانها الذي يملأ الشاشة وأحترق بنيرانها، أسحب أنفاسي بمشقة وأنفث زفيري
بألم متخثر، أستنجد بكل المقامات والمزارات والأضرحة والتكيات التي زارتها أمي، لعل واحدة منها تدرأ البلاء أو تخففه.
لاحظت جمار ارتعاشي فهرعت الى الغرفة وجاءت ببطانية، قرّبت الصوبة ناحيتي فقلت:
ـ لا أشعر بالبرد.
ـ لكنك ترتجفين.
أرتجف مما أرى.
أسرعت وأعدّت مغلي البابونج.
ـ اشربي.. إنه مهدىء.
نقلت الصوبة الى الغرفة وعدّلت الفراش من حولي، مسّدت جبيني ثم تمددت الى
جانبي واحتضنتني مثلما كانت أمي تفعل حين تعتل صحتي.. حنانها سرّب الى
جسدي دفئاً افتقدته منذ زمن بعيد، وشعرت برغبة عارمة للبكاء، لكنني لم
أبك، إذ لم أتعوّد أو أعوّد نفسي على البكاء.. على ماذا أريد البكاء
بالتحديد؟
سؤال دفنته لحظة ولادته لكي لا أنكأ جرحاً غائراً غافلني وسكن تحت الضلوع،
أو بالأحرى أنا التي غافلته وهربت من تقيّحه.. ربما حين يغادرني كبريائي
الزائف سأتصالح مع نفسي وأترك لها عنان التعبير بالدمع.. أو بالندم.. أو
بكليهما.
**

امتص جسدي الصدمة خلال اليومين الأولين للحرب، وفي اليوم الثالث لم أعد
أرتجف.. وجدتني أهرع الى الأوراق وأسجل عناوين المحرقة الجديدة:
× قصف بدالة الكاظمية.
× مقتل 15 من عائلة واحدة في الحلة.
× الصليب الأحمر يصف المعارك بأنها مرعبة.
× في(أم قصر) تدور معارك ضارية.
× البصرة تقرأ الفاتحة على خمسين من أبنائها.
× البنتاغون يؤكد استسلام الفرقة 15 والعراق ينفي الخبر.
× تظاهرات صاخبة في العواصم العربية.
× عمليات إنزال لجنود أمريكيين على الحدود.
أية حدود؟
أ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هدية حسين نساء العتبات/ رواية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هدية حسين نساء العتبات/ رواية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» هدية حسين الوشا، حين يُفتقد الوطن
» هيثم حسين رهائن الخطيئة/ فصل من رواية
» حسين عجة حضور/ الفصلان الثالث والرابع من رواية جديدة
» د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر هل سرق طه حسين رواية "منصور" لأحمد ضيف؟
» حسين عجة حضور/ الفصلان الثالث والرابع من رواية جديدة

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: