** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 قصيدة النثر في اليمن

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تابط شرا
فريق العمـــــل *****
تابط شرا


عدد الرسائل : 1314

الموقع : صعلوك يكره الاستبداد
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

قصيدة النثر في اليمن Empty
27072010
مُساهمةقصيدة النثر في اليمن

قصيدة النثر في اليمن Hatemboks2في قصيدة (إلى أين يمضي هؤلاء ؟) يتساءل الشاعر
علي المقري بتصاعد ذروي محسوب عن وجهة الولد التي يمضي إليها ثم وجهة البنت
، حتى يصل للسؤال عن وجهتنا (إلى أين نمضي ؟) لينتهي بعد سلسلة من الأسئلة
مواجهاً نفسه بالسؤال (إلى أين يمضي علي المقري ؟) . وهذا التبسط مع
القارئ ومع النفس هو بعض مناخات الكتابة الشعرية الجديدة التي لا تنطبق
عليها حد الاختناق صدفة الوزن والقافية مما يسمح بهذه الهواجس والأسئلة
التي تعكس ما يسكن الشاعر من قلق يحل محل الموضوع التقليدي أو المضمون في
الشعر السائد ، وذلك يعني أن نقطة انبثاق القصيدة تكمن في أي مكان دون
اعتبارات السمو أو القيمة البطولية .. وهذا ما سيجده القارئ في (ترميمات)
الديوان الثاني للمقري الذي يضم قصائد مكتوبة بين عامي 1988 و 1996م .
قصائد الديوان مهداة إلى هاشم علي (أيضاً) : حيث البهجة
مازالت ممكنة – كما يقول الشاعر –. إنه ينتج شخصاً آخر للرسام هاشم علي
مسكوناً بالبهجة التي تنبعث في الحقيقة من ذات الشاعر لا الرسام ، وما هي
إلا انعكاس تلقيه لألوان هاشم علي وأشكاله وشخوصه كما يراها في رسومه
وأعماله الفنية … وهذا ما تؤكده قصيدته القصيرة (هاشم علي) التي لا تقترب
من محترف هاشم علي أو شغله الفني بقدر قراءتها الحدسية لعوالم جماعية يزج
فيها الشاعر نفسه ضمن (جماعة) مقموعة :-
هكذا جاءوا
قطعونا من شجرة أبن رشد
ونفونا إلى جبل الدخان
لم يتركونا نقرأ عاداتنا
أو نتحاور في الزحام
إن هذا الرسام المؤسس – وهو موضوع عدة
قصائد لشعراء يمنيين معاصرين – قد استحال رمزاً تطفو في دلالاته هموم
وهواجس ومخاوف ومطامح وأحلام مشتركة ، بعيدة وعصية .
وهكذا يتأمل علي المقري البياض في
قصيدته (بياض لا يكفي) فلا يجده في اليد ولا الذاكرة ، فينحني مثل زهرة
عباد الشمس ليدور حول الورقة ، فيجدها هي الأخرى ناقصة :
(في الورق بياض لا يكفي الخط إذا سال
منسكباً في الوحشة أو أصغر من غيمة موت تخطف الوقت وتمضي إلى ست جهات . في
الورق بياض لا يكفي لست جهات) .
إن قصيدة علي المقري المكتفية بألفتها
ولغتها البسيطة تخبئ شراكاً وفخاخاً لقارئها ، فهي لا تعطيه (معنى) محدداً
بل تغرقه في (دلالات) متباينة للدال الشعري الواحد ، وإذ تتجه إلى السرد
كاستعانة تقنية في توصيل الشعري وتجسيده نجدها تتوقف عائدة إلى أوصاف
وأسئلة واختزالات وتكثيف يضيع فيها القارئ الممتثل للتعبيرية أو المباشرة
الغنائية .
ولعل منجز المقري في (ترميمات) هو الجهد
الجاد والبحث الأسلوبي لجعل قصيدة النثر ممكنة في زحام الأشكال وعقدة
النكوص إلى النظم ، والامتثال لضغط المناسبة أو المضمون أو موضوع القصيدة ،
حتى حين يكتب المقري نصاً أليفاً مثل (بعد الموت) ليتأمل ما سوف يصير إليه
ميتاً ، فإنه لا يكف عن المشاكسة وصدم القارئ ، حيث سيكتشف أن الموت الذي
حلم به موحش إلى حد بعيد ، وأنه مصير لا ينقذه منه الأصدقاء الذين سينصرفون
بعد موته .
إلى أين يمضي علي المقري بعد ديوانه
الصغير هذا ؟ أحسب أنه سيوغل في مغامرة القصيدة النثرية ذات الروح المستفزة
والأسلوبية الصادمة ، مستفيداً من تأملاته التي تميزه وتحدد أبعاد قصيدته
المكتنزة بالأسئلة ، المسكونة بالقلق و الاحتمالات .
وفي ديوانه التالي (يحدث في النسيان)
تتأكد نزعة المقري الأسلوبية ، ويتجه داخلياً إلى الجملة الشعرية التي تفيد
من عاملين متناقضين : السخرية المرة ، والتقشف اللغوي الذي ينكفئ بالجملة
إلى التباسات ضمائر النحو ، والتلاعب بالزمن والفكرة ، وذلك واضح في عناوين
بعض القصائد ( كأنكِ وحدي) و (صرت أشبه الذي هو أنا في المرآة) وفي عبارات
مثل (حدث ما حدث / لأن هناك من تذكر ما لم يحدث / ما لم يحدث كان يحدث في
النسيان) فالشاعر مشغول برصد حالة مستعصية على الوصف ، لذا يختار ما
يناسبها من المستعصي والمعقّد من العبارات لتجسيد تلك الحالة التي تضعه على
حافة الإمكان ، وتجر القراءة أيضاً إلى هذه المنطقة الاحتمالية .. أما
السخرية فتتضح في قصائد مثل (طريقة في العد) و (دروس خصوصية في الحرية) بل
في الإهداء الموجه لأصدقاء لم يكونوا كذلك ، ولأعداء لم يكونوا أعداءً
أيضاً ! .
ولا تخفى على القارئ أحاسيس الخيبة
والانكسار التي تؤطر تجربة المقري ، وتجعله يختار أسلوب السخرية والعبث
اللغوي والفكري كأساليب ملائمة لما يريد تصويره .
وظلت جملة المقري الشعرية محتفظة
بألفتها وبساطتها وانبثاقها من السرد دائماً ، مع إطار سردي مهم هو حضور
القارئ كمخاطب يتبسط معه الشاعر ويسحبه إلى كمائن قصائده ليقاسمه معاناته
وأزماته وخيباته وأحزانه .. كما يشاركه اعتراضاته على عالمٍ قاسٍ ، لا يحصل
فيه إلا ما هو آيل للنسيان ، وحادث فيه .




2- محمد حسين هيثم : استدراكات
شعرية على حفلة الوهم
في آخر دواوينه المكرس لقصيدة النثر (استدراكات الحفلة)
يتأكد الخط الأسلوبي للشاعر محمد حسين هيثم الذي عرف بتنوع كتابته : شعراًُ
موزوناً وقصائد نثر ..
لكنه في ديوانه الجديد يؤكد ذلك الخط المعتمد على الانطلاق
دائماً من (فكرة) هي تنوع لمضمون أو موضوع شعري .. فهيثم لا يبدأ من اللغة
وكمائنها وحيلها وبلاغاتها .. اللغة عنده تلي فكرة أو ثيمة موضوعية مغيّبة
باستعانات تصويرية غير منفصلة عن خطط النصوص المعتمدة على التكرار غالباً ،
وبناء نسق شعري متصاعد بمعقولية ، وتناميات مدروسة ليس فيها مجانية أو
ارتجال .
في قصيدة (تمويه) يعاين الشاعر بضمير المتكلم بلوغه
الأربعين من العمر ، وهي قصيدة تصلح للتعرف على آليات عمل هيثم شعرياً ،
فهو يكرر جملة (إنها الأربعون) ليبدأ بها مقطعاً شعرياً قصيراً :-
إنها الأربعون
أولى الكبوات
إنها الأربعون
كيف أمرّ ؟.
ويخلق إيقاعاً يوحي بالانتظام عبر هذا التكرار المقصود ،
لكنه يخدم بواسطته نمو النص بدءاً من زمنية اكتشاف (أربعينه) حيث يحددها في
مفتتح نصه بالبارحة حين يكتشف أنه (سقط) في الأربعين ولم ينهض بعد .. كما
تخدم اللازمة المكررة اختتام القصيدة أيضاً إذ ينهي الشاعر نصه بالقول :
سأموّهني
وسأردم
الأربعين :
بطيش قليل
وبحذاقة فتية
ولن أعدّ أبداً
إنه يقترح حلاً طريفاً ، فللاختباء من زحف السنوات وهي
تقرض العمر المفترض ، لا حل سوى أن نتوقف عن العد تماماً ويتضح في الديوان
منظور الشاعر للأشياء العابرة في حياته اليومية ، فهو – وعبر تجربته
الطويلة نسبياً في الشعر بين أقرانه – لا يزال يرى في الحياة اليومية وما
يتراءى من عادياتها مادة خاماً للشعر ، فيكتب – مثلاً – عدة قصائد قصيرة
تحت عنوان موحد هو (ملاذات كنعانية) يلتقط أجزاءها من وجوه وأمكنة وأشياء
أبصرها ورصدها في رحلة إلى الأردن ، كما تشير تواريخ وأمكنة كتابة النصوص
.. وهي أشبه بصور مقربة أو بورتريهات مرسومة بالكلمات ، مقتربة من
موضوعاتها أو شخصياتها .
وفي صلة الشاعر بالتراث تاريخاً وإرثاً أو ماضياً نتعرف
على قراءة ناضجة ، تنبش في كسر وأجزاء من تاريخ اليمن ، يحاول التقاطها ،
وإسقاط وعيه الحاضر عليها كما في نصه (عراء المكاربة) فهؤلاء مكاربة
مصنوعون (من مرايانا وظلالنا ..) (أرجوان وقيافات ..) (بمدائح فولاذية ..)
(يدخلون إلى نومنا) (مكاربة من رسوّ يقظتنا ..) وهي كما نرى اسقاطات وعي
معاصر على وجود المكاربة في التاريخ اليمني القديم ..
هنا أيضاً نطالع التكرار الإيقاعي لكلمة (مكاربة) بعد أن
جعلها الشاعر نكرة ليليها ما يشاء من انزياحات واستعارات وأوصاف ..
وفي سلسلة قصائد أخرى يتخذ (الموضوع) الشعري المغيّب شكل
أمكنة يمنية شهيرة تتوزعها جغرافيا اليمن الشاسعة ، وهي قصائد تحمل أسماء
تلك المدن : صنعاء ، حضرموت ، وهي مرسومة بجغرافية جديدة يبتكرها الشاعر من
وعيه وشعوره المسقطين عليها .
أيضاً يمكن أن نصنّف الاهتمامات الحياتية ، كالحفلة التي
استدرك عليها الديوان ، والمدن الأجنبية التي زارها الشاعر ، وقراءاته
المترجمة ، وتفلسفه إزاء الزمن المرمز (بأحد الأيام) – عنوان إحدى القصائد –
فتلك الاهتمامات (الموضوعية) في ظاهرها، تدل على دقة إحساس الشاعر
والتقاطاته الذكية .
وهو بأناة ودون مخاطرات لغوية أو صورية يقدم مقاطع أو
شرائح منتزعة من تصادمه مع الخارج بكل مفرداته ، واقعاً أو فكراً أو قوانين
أو ثوابت ، وذلك ما أضمرته – لكنه أتضح – آخر قصائد الديوان ، وربما أعزها
على قلب الشاعر الذي جعلها عنواناً للديوان كله ، وهي (استدراكات الحفلة)
..
ثمة حفلة إذن ، ليكن ! ولنفترض أن الحفلة حدثت فعلاً ،
وتمثل منها الشاعر ما أراد من (وقائع) ، فذلك لن يلغي قراءتنا الرمزية التي
تكون فيها الحفلة وهمية كالحياة نفسها ، لا شيء مما يحصل فيها أكيد أو
ممكن أو نهائي ، حفلة تبدأ بالموسيقى وعطر امرأة وأشربة وبروتوكول ، ستنتهي
بزنزانة وعصا معدّة (لتنقية الجلد من غبار الكحول) .
لكأنما ثمن الحفلة (وهمية أو حاصلة فعلاً) هو هذا العقاب ،
فالحفلة – حفلة السفارة – موصولة بزنزانة .. وهذا هو عقاب الوجود – في –
الحياة ..
محمد حسين هيثم لا يستغني عن الموضوع وإن أعطاه وجوداً
شعرياً ، وخلق له مجازات وصفات وانزياحات يصنفها بخبرته الشعرية التي تتأكد
من خلال لغته التي يطوعها لإيصال أفكاره ورؤاه وتصوراته .. وبهذا يحافظ
هيثم على مناخ خاص به – يشاركه فيه بعض شعراء جيله مثل شوقي شفيق ومبارك
سالمين ونبيلة الزبير – وهو مناخ يجلب بعض تقنيات القصيدة الحرة ، كالتكرار
الإيقاعي الذي لا تخلو منه أي من قصائد (استدراكات الحفلة) ، كما أنه
يستحضر الصور القائمة على التمثيل والتشبيه في إطار انزياحات أسلوبية ،
تعطي لجملته الشعرية سمات الحداثة التي ارتضاها منذ ديوانه الأول ، وراح
يعمقها في تجاربه اللاحقة والتي تشهد له بفاعلية وحيوية ، نفتقدها في تجارب
كثيرين من زملائه وأقرانه .




3- محمد الشيباني : تكييف الخطأ بالشعر
يطلق الشاعر محمد الشيباني عنواناً محيراً على ديوانه
الأول : تكييف الخطأ ، ولكي يساعد قارئه على فك اللغز أو دفع الالتباس ،
يختار على الغلاف الأخير أبياتاً تتحدث عن الخطأ وتكييفه الممكن :
أن
تُقرأ خطأ
على
الدوام
سببه
قدرتك على تكييف سير الوهميين
كما
تبتغي ضجة في الرأس
ولكن ذلك لن يزيد الأمر إلا غموضاً .. فأنت تحسب أن الشاعر
هنا يقوم بتكييف أخطائه كما هو سائد في الخطاب الشعري الحديث ، لكنه يعدّ
قراءة الآخر له خاطئة ، مما يسحبه إلى استنفار قدرته الكامنة على (تكييف)
سير الوهميين ، لأنه كما يتبين من قراءة نص (مقايسات السيرة) أيسر من مرايا
اللغة المقعرة وبلاغاتها الخادعة !
قصائد محمد الشيباني أو ( نصوصه ) كما يحب أن يصفها في
ملاحظته الاستهلالية ، تعود إلى سنوات سابقة أقربها هو عام 1999م .
واحسب أن السنوات التالية شهدت نصوصاً أكثر نضجاً للشاعر ،
لعل آخرها (رشيد حريبي أو مغن يحمل الأغاني مثل رفات الأسلاف) المكتوب في
آذار (مارس) من العام (2002م) .
ولكن المنحنى الشعري لمحمد الشيباني يدل على تصاعد وتائر
خطابه الشعري وتجلي ذلك في نصوصه – حتى المبكرة منها. – فالشيباني مستريح
إلى إيقاع قصيدة النثر ، متوافق مع ما تمنحه من تخفف وانثيال ، لاسيما وأن
تجربته في كتابتها لا تموه نفسها وراء باروكات لغوية أو تهويمات صورية
خادعة ، بل هو يستقي دوماً من السرد بؤر انبثاق قصائده وخطوط سيرها ..
وبمفاتيح السرد قرأنا (تكييف الخطأ) فوجدناه - رغم تكثيف قصائده وقصرها
وتشظيتها غالباً إلى مقاطع صغيرة أو معنوية- يحاول استحضار الأشخاص
والأمكنة في غالب قصائده ، راسماً لها ما يشبه البورتريهات ، ملتقطاً أدق
تفاصيلها وأكثرها تعبيراً في الوقت نفسه عن أعماقها وما وراء سطوحها .
إنه يرسم صورة مقرّبة – وليست جانبية – لمدن مثل عدن
وصنعاء وتعز ، تحضر فيها مشاعره ورؤاه ، وبهدي وعيه بها يرسم صورتها حتى
تغدو (مدنه) هو ، لا مدن الخارج التي نمر بها جميعاً .. إنه يلتقط بذكاء
أدق نبضاتها وما تخفيه شوارعها وأزقتها وتاريخها .
وفي رسم شخصيات قصائده في الجزء الذي سماه (ناس) يختار
أدباء وأشخاصاً عاديين وأنماطاً بشرية بعض الأحيان (قصيدة متقاعد) ليسرد
رؤاه عنهم وما اختزنه في ذاكرته . وما تضفيه ثقافته التي تتمثلها معدة
قصيدته وتضخها مجدداً في خلاياها.
وربما بدت قصيدة الشيباني أحياناً لاهثة اللغة ، تجرف في
جريانها مفردات عامية أو لمحات شعبية الدلالة ، وربما بدت مقطعة الأوصال
بالأطر التي تحف بها كالعناوين الجانبية الكثيرة ، ولكن اللب الشعري
المختفي وراء تلك القشور ينسيك تعب القراءة وما يعترض جريانها من تداعيات
ذات سمة محلية .
ثمة تعريفات شعرية كثيرة واسقاطات شعورية على الأشياء في
إطار شعري ذكي ، كتعريفه للوقت بكثافة وتركيز يحيلك فوراً إلى قصائد
الهايكو المختزلة !
الوقت لا يُقتل بالكناية
الوقت عقرب ندهن جلده السميك
بمرهم الثلاثين
العارفة تماماً بمسالك الكتف
نصوص الشيباني تتقدم إلى قارئها أليفة وبسيطة ، مكثفة
ومصفاة ، فيها رائحة الناس والأشياء والأمكنة ، وتفاصيل العادي بعد صياغته
شعرياً ، دون بلاغات صاخبة أو هيجانات لغوية فارغة ، ولكن بكثير من الألم
والخيبة والمرارة.
وفي ديوانه الجديد (أوسع من شارع – أضيق من جينز) الصادر
صيف عام 2003م يضيف محمد الشيباني نصوصاً أخرى في بلورة تجربته التي قلنا
في الحديث عن (تكييف الخطأ) إنها تتصل بالحياة اليومية اتصالاً شعرياً ،
بما يعنيه ذلك من تمثل واقعة الحياة وإعادة تمثيلها فنياً .
والشيباني راض وغير متردد بشأن قصيدة النثر ، لذا فقد
تبلور أسلوبه في هذا الديوان الذي جعله على ثلاثة أقسام تنبئ عنها عناوين
فرعية دالة مفسرة أو متبوعة بعبارات بين أقواس :
1. نساء (الرغبة مرسومة بحذر) .
2. رجال (الدم يقطره الكحول) .
3. أشياء أخرى (تصور ببهجة مفرطة) .
والعناوين تحمل اهتمامات الشاعر ، فثمة أنماط من النساء
والرجال والأشياء معروضة بشفافية تمتزج فيها المرارة بالسخرية، وذلك واضح
في عناوين القصائد ذات الطول الملفت ، وكأنها تفسر بطريقة تشبه السرد
العربي القديم ، حين تتصدر الحكاية عبارة تنبئ عن محتواها مثل (حكاية في أن
الإنسان إذا استعان بعدوٍ صار عدوه سيداً عليه) وغيرها من العناوين
التراثية التي انتجتها مرحلة الشفاهية ولازمت بعض مراحل التدوين والكتابة
السردية .
وسنقراً في الديوان عناوين قصائد مثل (ماذا قالت نورهان
الحضرمية عن زوجها المجنون) و (وماذا قالت أخرى عن الوتر الأفريقي النائم
بداخلها) و (شخص ما ندخره بداخلنا ليكذب ويصلي بثياب معطرة ..) وهي تقنية
مقصودة ومطردة في الديوان ، يهدف الشيباني منها إلى خلق أثر محدد في قارئه ،
هو إدماجه في غرائبية السرد الشعري الذي يقدمه له في الديوان .
بعض تلك العناوين صار من مأثور شعر الحداثة (وزناً ونثراً)
مثل العطف على الاسم بأو (صالح الدحان أو الشيخ بدمه المغربل وقراطيسه)
وبعضها يحيل إلى غائب أو إلى حبكة سردية ساخرة (حينما قرر تمام أكل لحمة
مطبوخة) .. وهي جميعاً تؤكد الخط السردي لقصيدة النثر كما يفهمها – ويكتبها
– الشيباني .
إنه – شأن هيثم – يجد موضوعه الشعري حيث يشاء ، لا يكلفه
الأمر سوى الرصد والمراقبة واختيار نقطة التقائه بالقصيدة ، هي بالنسبة
للقصيدة نقطة انبثاقها وخلقها ، وبالنسبة له نقطة الكتابة وإعادة الخلق ..
وتقديم مخلوقاته ، وبالنسبة للقارئ نقطة التقاء أفق قراءته بأفق النص .
في الديوان تطوير لآلية الاستبطان ، فأشخاصه المعروضون
(نساءً ورجالاً) وأشياء الحياة المستلة أيضاً ليست في وضع ساكن . إن أشخاصه
لا يجلسون بسلام كما يجلسون أمام عدسة مصور ، بل بإحساس وحركة كما
يتفاعلون مع ريشة رسام ..
هنا يكمن الفرق على مستوى الشعرية : فالمصور لا ينقل سوى
اللحظة التي تحددها العدسة ، أما الرسام فيضيف انفعاله وتصوراته وهو ينقل
صورة موديله .. وهذا يؤكد قول الرسام ماتيس : إن آلة التصوير جاءت نعمةً
كبرى للرسامين . وأضيف : للشعراء أيضاً . وهكذا نجد لدى الشيباني أنّ
النساء – مثلاً – لهن رغائب وزوايا نظر ، لذا تركهن الشاعر في ثلث الديوان
الأول يجسدن تلك الرغبة المرسومة بحذر ، ولكن بضمير المتكلمة المؤنثة ، فهي
التي تسرد وتوجه السرد وتحدد مصائره . وهذا يتم بعملية استبطان يوهمنا
الشاعر خلالها أنه يقف بعيداً عن موديلاته المرسومة :
جسدي ليس لك
حتى لو اشتهيتك
وليس للصديقات الصغيرات
كما تظن الجارة والأصدقاء الموسوسون
وسيصبح للأمكنة والرجال والأشياء وجود خاص أيضاً : درجات
السلالم وصولاً للدور السادس في مكتب التربية ، والشوارع التي يقطعها
المغني الجوّال ودكان الجزار بضحاياه المعلقة .. كلها وسواها من خبرات
البصر والبصيرة ستمر من هذا الديوان الجديد ، فثمة دوماً ثنائيات متناقضة
في الحياه ، حتى ليبدو العنوان تلخيصاً ذكياً لذلك كله : عالمٌ أوسع من
شارع ولكن أضيق من
جينز ………




4- عبد الله القاضي : خريطة شعرية للكون
لم أكن قد التقيت الشاعر اليمني الشاب ذا الصوت السبعيني
عبد الله القاضي أيام دراسته ببغداد المدينة التي ولدت فيها ونشأت ودرست في
أمكنتها وأزمنتها . لكنني قرأت بعض أشعاره في الدوريات قبل لقائي به عام
1996م بصنعاء حين جئتها مدرساً وباحثاً عن جوهرها الكامن وراء غلافها ،
فعرفت فيه شاعراً متميزاً في لغته ورؤاه ، وراح يذكرني بجيل شعري ناضج
يمثله هو والمرحوم عبد اللطيف الربيع وعبد الودود سيف وشوقي شفيق ومحمد
حسين هيثم وآخرون من الأصوات السبعينية التي يشهد لها بالمغامرة التجديدية
وكتابة قصيدة الحداثة ، في واحدة من أهم متواليات تطورها، وصولاً إلى قصيدة
النثر في مرحلتها الوسطى .
مؤخراً أطلعني الصديق الفنان التشكيلي حكيم العاقل على
مسودات ديوان يجمع أشعار القاضي ، فتذكرت على الفور قصيدته عن الرسام
الرائد هاشم علي التي أسرني فيها تمثله لعالم هذا الفنان المثابر في أدق
مفرداته ، وأذكر أنني عبرت عن أعجابي بالقصيدة وإحاطتها بشخصية هاشم علي
رساماً وإنساناً لكنني لم أستطع فهم دلالة الكاذي في عنوان القصيدة (قبوة
كاذي للرسام هاشم علي) ولدهشتي فقد كان عبد الله القاضي يحمل لي (في مكان
عملي بالجامعة القديمة) صباح اليوم التالي وردة كاذي ، ظل عطرها يفوح في
غرفتي عدة أيام ، ويتوازى حضوره الفضائي في الغرفة مع جسد قصيدته على الورق
. والآن يلوذ القاضي بالصمت وكذلك تهجع أشعاره القليلة في صمت قاس ربما
سيكسره الأصدقاء بنشر ديوانه ، لكن أسمه سيظل مميزاً وخاصاً على لائحة
القصيدة الحديثة في اليمن .
أولى القصائد تحمل عنواناً طويلاً (من دونك أرسم للكون
خريطة ملونة بالدم) وهي مؤرخة في النصف الأول من عام 79م وتحمل في بنائها
إيقاعات وتراكيب تميزت بها القصيدة السبعينية التي لم تحدد هويتها بعد في
مجال اختيار الأسلوب الشعري المتأرجح بين الإبقاء على الوزنية كما في قصيدة
الرواد ، والانطلاق في مغامرة الإيقاع الجديد البديل ، وكسر الشعرية
السائدة بالصور المولدة والعلاقات التركيبية المشاكسة ، لكنها تحمل سمة
(الرفض) والتمرد إلى الحد الذي يصبغ خريطة الكون المرسومة شعراً باللون
الدموي ، حيث يجد الشاعر الخواء في كل مكان :
شفتاي ترتعشان من جدب الكون
أمطريني أمطريني قبلاً فالقبل روح المطر
تعالي .. أين تذهبين ؟
فالربع الخالي مملوء بالقيء
والبحر العربي يأكله سمك القرش
في قصائد المرحلة التالية سيحاول القاضي تهدئة الاندفاع
الموسيقي ، لاجئاً إلى نثرية مباشرة ، تشير إليها مطالع قصائده التي يتكرر
فيها النداء (يا ..) بشكل لافت ، فكأنه يستعير نثريات جبران وجيله في كتابة
مناجيات شعرية ، مستريحة لانسياب النثر وتلقائيته وإيقاعاته القائمة على
السرد ، وتوازي الأفكار ، وتقابل الصور كقوله عن هاشم علي :
أيها الطيب الذي لا يشبهه أحد
ويشبه كل الكائنات
.. حينئذ أنت أم الغابة
من منكما يصطاد الآخر
لقد كان إحساسه بالخسارة والخذلان مبكراً ، وهو ما يطبع
قصائد الديوان بهذه السوداوية ذات السمة الاستفزازية في تراكيبه التي يغلب
عليها الخطاب (النداء غالباً) والنفي والجمل الإخبارية المتوترة والمكثفة :
الحياة كذبة يا سيدي
ليس لنا في أرضنا مرقد نملة
والعالم عاقر
وبهذا الإحساس آنسحب القاضي إلى إنجاز خريطة وهمية للكون ،
استغرقت تفاصيل حياته وأقصته عنا إلى الصمت ، لكنه يظل ذا مناخ خاص في شعر
الحداثة يمنياً وعربياً ، وستكون إعادته إلى الذاكرة للشعرية عبر هذه
القصائد مناسبة لتأكيد ذلك المناخ .
وأحسب أن قصيدته (كمين) تعبر عن مركز تعبيري مهم في
الديوان ، وفي تجربة عبد الله القاضي كصوت ضائع بين أجيال قصيدة النثر
اليمنية ، شأنه شأن الراحل العزيز نبيل السروري ، ففي هذه القصيدة يكون
الزمن (الغد تحديداً) مناسبة للإعلان عن خذلان الشاعر وإحساسه بالخسارة ،
وهي خسارة تتوالد وتتناسل كل يوم فيصبح الغد (أمساً) ولكن بطعم المرارة
نفسها والخسارة ذاتها ، وهو ما طبع القصيدة نفسها بالعودة والتكرار :
غداً وغداً وغداً
كم من الوقت مر
وأنت تقول :
غداً وغداً وغداً
كم من غد مر وانطفأت شمسه
كم غد صار (أمس)
وأنت تقول : غداً وغداً وغداً
وبين غد ذاهب
وغد آيب
تظل تعد الكمائن
تجدل من خيط وهمك وعداً
ومن خيط حلمك وعداً
وقد وهن العظم
وأشتعل الرأس
والوحش محتفل
والرياح سموم
ومازلت تلقي بأوراق عمرك للريح
تحملها
عنك وهي تنوح :
غداً وغداً وغداً
إن قراءة عبد الله القاضي تؤكد
افتراضات كتابنا في كسل النقد وقصور القراءاة حيث لم يدرس القاضي وتجربته
بما يستحق وتستحق ..




5- محمد محمد اللوزي : المهمَل كمفتاح
على طاولة:
هو
عسكري في السادسة والعشرين ، كثيراً ما هرب من غبار الميدان وعرق التدريب
وأرق الجندية ، أيام دراسته في الكلية العسكرية ببغداد ، ليلحق كتيبة شعراء
ملعونين : سركون بولص ، جان دمو ، رعد عبد القادر ، عبد الزهرة زكي ، نصيف
الناصري، حسين علي يونس ، وآخرين .. يَسفّ من أصواتهم وصورهم، ويختزن إلى
جانب الخوذة والبدلة المرقطة والجعبة رؤى وقصائد وأفكاراً ظلت خامات كصور
لم تكتمل ، سيعيد تظهيرها هنا بصنعاء ، حيث يجلس صامتاً تحت شجرة (الآداب)
مكان تجمع الشعراء في الجامعة القديمة ، يخزهم بملاحظاته ، كما يفاجئ
الجميع بقصائده القصيرة المستفزة .. التي شهدت أواخر عام 2001م ولادتها في
ديوان .
ذلك هو محمد محمد اللوزي الذي أختار
الهامش عن قصد وإصرار ، عن رؤية تؤدي إلى أن الشعر يمكن أن نلتقطه في ذلك
العادي المقصى أو المنفي أو المهمل .. وأن الشاعر أكبر الخاسرين في حروب
الحقائق ومعارك الجمال .. لقد أختار إذن سلالة شعرية هامشية أو شطارية
ملعونة ، ليكون أحد أصواتها ، فيعيد إلينا أصداء من محمد الماغوط في
التقاطاته الواخزة الذكية ، وجان دمو في تماهيه بالسكون والذهول والكسل ،
وأختار عن قصد كذلك أن تكون القصيدة مثل شباك العنكبوت أو خيوطه التي كلما
اهتزت ، بشرت العنكبوت - الشاعر بأنه حي ، فابتهج لذلك وبسببه معاً .. فعمل
على الخروج منها : من الخيوط والقصيدة
معاً ..
هذا هو تفسيري لعنوان ديوانه الذي أفلح
مخرج الديوان (محمد النصيري) في قراءته فجعل الفقرتين متوازيتين بالمقلوب
أي أن الجملة الأولى على السطر والثانية مطبوعة بالمقلوب على السطر الثاني :
الشباك تهتز
العنكبوت يبتهج
ورسم آثار قدمٍ إنسانية تؤدي إلى جسد
العنكبوت الذي يوشك أن يصل إلى حافة بيته الذي ارتضاه واهياً منعزلاً ،
لكنه بعد كل شيء ظل بيته وسكنه وعزلته ، ومعبد وحدته الآهلة .
هل يصلح ذلك مدخلاً لقراءة ثماني
وأربعين قصيدة قصيرة (يصل عدد أبيات إحداها إلى اثنين فقط ، وكثير منها إلى
ثلاثة أبيات أو أربعة) ؟ أحسب أنني اخترت مدخلاً مناسباً لقراءة الديوان،
الذي يهيئ القارئ لصدمات الهامش استناداً إلى :
1- العنوان
الصادم في دلالته : العنكبوت وشباكه بما توحيه من عزلة وحيرة .
2- في التنضيد الخطي
لجملتي العنوان : الأولى المكتوبة بشكل سطري ، والثانية الممتدة تحتها
بالمقلوب ، مثل ظل صورة على الماء أو انعكاس كتابة في مرآة .. وما تحمله من
دلالة على الموازاة الضدية المخالفة للمألوف .
3- التعريف الاستفزازي
الذي يقدم الشاعر نفسه من خلاله فيذكر مثلاً إنه لم يشارك في أي مهرجان ،
ولم يحصل على أية جوائز .. فكأنه يؤكد هامشيته كرؤية وسلوك وموقف مضاد
للشعر الرسمي أو الشاعر التقليدي .
4- صفحة الإهداء الفارغة
إلا من كلمة (الإهداء) و (إلى ..) المتبوعة بفراغ يمتد إلى أربعة سطور ،
فكأن الشاعر زاهد (أو مستغن عن) المهدى إليه أو إليهم ، مكتفٍ بلمفوظة
الشعري وحده ، تاركاً للقارئ مساحة افتراضات واحتمالات ترشحها قراءته .
5- صفحة المقدمة التي
تركها الشاعر فارغة بيضاء إلا من كلمة (مقدمة) وأسمه في أسفلها ، وبينهما
عشرة أسطر فارغة منقوطة ، وفيها علامات ترقيم وبدايات ونهايات فارغة كلها .
6- قصر القصائد وتكثيفها
على مستوى أبنيتها الشكلية (السطرية) وكذلك في توتراتها الجملية أو
النحوية .. فكأنها تطلق أبياتها أو عباراتها كالرصاص : مرة واحدة ، فهي
مكتفية بهذا الاقتصاد اللغوي والخطّي دون ثرثرات أو تفاصيل .
7- اختيار قصيدة النثر
شكلاً شعرياً بما يعنيه من تنازل عن الموسيقى التقليدية المتولدة عن
التفعيلات والقوافي ، وما يرتبه بالمقابل من بحث عن إيقاعات بديلة ، من
أبرزها إيقاع التناظر الصوري أو المطابقة بالصورة : أعني الاعتماد في إنجاز
النص على تقابل صوري ضدي بين حالتين أو شعورين أو موقفين ، ويتولد عن ذلك
صدم القارئ بنهاية غير متوقعة ، سواء كانت حدثاً أو صورة أو شعوراً موصوفاً
.
8- الإكثار من
الانزياحات أو استبدال العبارة واستكمالها بالإضافة أو الوصف بما لا يتوقع
القارئ أو ينتظر .. وأكثر ما يحدث ذلك على مستوى الوصف كقوله (سواء أصفر ،
سواء أحمر ..) .
9- الاعتماد على العفوية
والاسترسال اللغوي والصوري ، مما يخلق بساطة (خادعة) ، تنقل شعوراً أولياً
بالبراءة والتساؤل العادي ، لكنها تخفي احتجاجاً أو اعتراضاً شديداً على
العالم كوجود ومحيط وأحداث وبشر .
10- ملامسة قضايا الحرية
وحق الإنسان في الوجود الكريم والحب والعدالة ، مما تُعد موضوعات جاذبة
لاهتمام القارئ ، وتغدو ملامستها – بهذه الطريقة الطفولية الساخرة – ضرباً
من (جماهيرية) تعوض الحماسة والنظم الزاعق والهيجانات اللغوية والصورية في
الشعر التقليدي الذي يقترب من الموضوعات نفسها بكيفيات مختلفة .
لقد كنت حتى هذه اللحظة (أبرر) ما أحدثه
ديوان اللوزي (الشباك تهتز – العنكبوت يبتهج) من أصداء متفاوتة ، وكأنما
سرت إلى قراءتي ذاتها عدوى الاستفزاز الذي هيمن على نصوص الديوان . لكنني
عند اللحظة نفسها من وقت أو زمن قراءتي سأتوجه إلى النصوص كوثائق : أو
مستندات لأعزّز ما ذهبت إليه في انطباعاتي العشرة الآنفة وكأنني أدلّ عليها
أو أتيقن .
سألتفت أولاً إلى عناوين القصائد وأدعو
لقراءة حكمتها أو ما تعنيه حين تكون بهذا الزهد والقصر والمباشرة : (رجم /
حبس / عصفور / قناع / جهة / سجيل / هروب / حرية / انتظار / اثنان / ذاكرة /
سرّ / صورة / بذرة / هامش / غياب / فراغ / منفذ / أمل / شيء / انكسار …) .
إن هذه العينة العشوائية سترينا ما وراء
اختيار العناوين من عفوية ومباشرة ، ربما وجد فيها قارئ آخر كسلاً أو
تكراراً أو تقليدية ، لكنني وجدتُ فيها ما يوجه قراءتي صوب موقع الهامش
الذي سكنه الشاعر واكتفى به ، فلماذا يجعل العناوين ذات فخامة فارغة أو
صياغات متحذلقة ؟ فضلاً عن أنّ هذ الاكتفاء أو الاقتصاد يناسب ما تحمله
رؤية الشاعر عبر نصوصه من اقتصاد واكتفاء وتنازل عن التفاصيل .. وكأنه يعلق
من موقع الهامش هذا ويناكد ويشاكس.
في قصيدة (أعميان) لا نجد إلا سبعة
أبيات ، يقتسمها أعمى ومبصر بعدالة (ثلاثة لكل منهما والبيت الخامس مشترك
بينهما) لكن حكمة القصيدة تقوم على الاستبدال فقط ، حيث تكون النهاية عكس
ما يحسبه كل منهما تماماً :
يحسب الأعمى
أن كل ما حوله جدران
ويحسب المبصر
أن كل ما حوله فراغ
وحين يمشيان
يصطدم المبصر بالجدران
ويتعثر الأعمى بالفراغ
إن هذه القصيدة تصلح مثالاً لما تخادع
به قصيدة النثر قارئها ، فهي تبدو لأول وهلة مجانية ، تسودها الفوضى
والتداعيات ، والعلاقات غير المقبولة لدى القارئ ، أعني انقلاب قناعاته على
وفق ما تريد القصيدة ، لكن قراءتها ثانية سترينا انضباطها الشديد:
فالأعمى يحسب شيئاً من وحي عماه ، والمبصر كذلك ، لكنهما حين يمشيان
(يصطدم) المبصر بجدران الأعمى ، بينما (يتعثر) الأعمى بفراغ المبصر . إنه
إذن هجاء لبصيرة المبصر الذي لم يكن إلا أعمى آخر ، وهذا هو تفسير التثنية
في العنوان (أعميان) .. وأحسب أن اللوزي شعر بأهمية هذه القصيدة في توضيح
رؤيته لقارئه فوضعها كاملة على الغلاف الأخير ، وكأنها ظهر لبطاقة تعارفه
مع هذا القارئ .. القصيدة الأخيرة (الشباك تهتز) هي الأخرى تحمل روح
المشاكسة التي في الديوان ، فهي تحتل نصف العنوان – عنوان الديوان – بينما
جعلها الشاعر آخر القصائد في ترتيب الديوان .. هذا من حيث تأخر موقعها
المتعارض مع تقديمها كلافتة على غلاف الديوان ، أما داخلها فيتسلم القارئ
خلاصة :
لا أمل في النسيان
لا أمل في المحاولة أيضاً
لقد وقعنا
واهتزت الشباك
إن النفي (نفي جدوى النسيان وجدوى
المحاولة معاً) هو أحد مراكز التعبير عن رؤية الشاعر ، واختياره – على
مستوى التركيب – يبلور علاقة الشاعر بالعالم ، ولعل صيغ النفي والاستفهام
الكثيرة في الديوان تعكس موضع الشاعر إزاء العالم : كمتسائل وكائن رافض ..
محاور كثيرة يمكن أن يألفها القارئ
ويأنس بها : مهنة الجندية حين تصبح مناسبة للتفلسف والسؤال حول الموت مثلاً
:
ما قبل الخوذة
سوى أمنية الجندي
ما بعد الخوذة
وهي تتدحرج بسرعة
إلى جهة خامسة
سوى دهشة الجندي
إن اللوزي يصور هنا بداية ونهاية
يتوقعهما في حياة الجندي ومهنته ، لكنه يشير ويؤشر ويصور دون تفاصيل ،
مكتفياً بالظرفين الزمانيين (ما قبل / ما بعد) وعلاقتهما الضدية زمنياً ،
ثم بالنهايتين اللتين تبعتهما : أمنية وموت ، لكنه اكتفى بصورة الموت (خوذة
تتدحرج مسرعة) أما وجهتها فهي (جهة خامسة) تعني الموت الذي يستقبله الجندي
بالدهشة .
ثمة أكثر من نص حول مهنة الجندية تؤكد
موقف الشاعر من الموت بهذه الطريقة .
وللحرية موضوعاتها أيضاً وتشكلاتها
الصورية وسأختار منها – كخاتمة – قصيدة (سجين) :
الإسم المحفور
على جدران الزنزانة
هل يحلم أيضاً بالحرية ؟
حين أطلق سراح
جميع السجناء
بقي الإسم سجيناً
ولعل هذا (الاسم السجين) هو اسم إنسان
الهامش : الشبيه بتمثال ، أو المهمل كمفتاح على طاولة ، كما يقول الشاعر .
ومادام ديوان اللوزي هو سجلّ محاولاته
الأولى في الكتابة الشعرية ، فلا غرابة أن حمل عثرات البدايات أو سقطات
التعرف على قوانين هذا النوع الشعري الصعب الذي اختاره ، فقصيدة النثر تحمل
لكاتبها – كما لقارئها – مزالق وفخاخاً ، يجدر به أن يحتاط لها .
فانسيابها النثري وإمكان السرد فيها
وحرية المخيلة وإيديولوجيتها الجاهزة – لعل اختيار النثر هو موقف ضدي من
الكون في الأساس – إلى جانب مجافاتها للوضوح الساذج والإسراف اللغوي
والصوري ، كل ذلك سيوحي بالخطر من كتابتها بوعي ناقص أو زائف (أعني
امتثالاً لموضة ما أو انسياقاً لحداثة متوهمة أو انتماءً قطيعياً) ومن
مظاهر ذلك تعثر العبارة بطنين أو هيجان لا يقل خطورة عن النظم التقليدي ..
وفي ديوان اللوزي ثمة تكرار لبعض الثيمات التي أحسّ الشاعر بذكائه وحساسيته
أنه موضع جذب وإغراء للقراءة .. لكن كتابتها أكثر من مرة تجر ذاكرة القارئ
إلى ملل متعب (أضرب مثلاً لذلك بصورة السجن المرسوم على الورق أو السبورة
واستحالته لسجن حقيقي) فضلاً عن أن الصورة ذاتها مكررة ومنقولة عن شعراء
عالميين (الطائر والقفص لدى جاك بريفير مثلاً) ومن الفخاخ الأخرى ، تعمد
صدم القارئ بالقول مثلاً (هذا الحمار المربوط سيظل ينتظرك) فهي صدمة قد
تحقق فكاهة أو سخرية ما ، لكنها لا تعبر عن وعي شاعر يقرأ تاريخه ورموزه
بعمق فيقول :
كانت هنا بلد
تهجاها هدهد
فأشعل فيها الخراب
...من كتيبة الجنود وخوذهم ، إلى عشيرة الشعراء وقصائدهم ،
هكذا وصل إلينا محمد محمد اللوزي مدشناً اصطفافاً فنياً وجيلياً جديداً في
مناخ الكتابة الشعرية ، ستتخلص من أصداء أو أصوات سابقة، لتستأنف مرحلة
مختلفة تشمل زملاءه العاكفين في الوقت ذاته على إنجاز مستقبل كتابتهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

قصيدة النثر في اليمن :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

قصيدة النثر في اليمن

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
انتقل الى: