الذَّنب ذنب الفكرة، متى استقرَّ في ذهنك شيء ثابت ودائم وقويٌّ فسرعان ما سيملأ عليك نفسك. هذا هو محور رواية (الجريمة والعقاب ). الفكرة قد تكون وحشا قاتلا. وهذا المحور هو بدهية الرّواية وموضوعها. وبمعنى آخر المعرفة الَّتي تُلهم هذه الرّواية الخالدة.
أتذكَّر قراءتي الأولى لرواية الجريمة والعقاب. لم تكن الرّواية الأولى الَّتي قرأتها لديستويفسكي. كنت قد قرأت بعض روايته الأخرى، ولبعض من تلك الرّوايات تجربة قراءة مختلفة ربَّما أتحدَّث عنها في مقالات قادمة. أكتفي هنا بالقول: إنَّني كنت أغرق مع شخصياته في انهيار الأوطان، والحرب، وكبت الذَّاكرة، والجنون المؤدّي إلى الحريَّة. البلَه وبعد ذلك الجرائم وعقابها، والأخوة الشَّياطين. تأنيب الضَّمير، والحساسيَّة المفرطة إلى حدّ أنَّ أي شيء يمكن أن يجرح كبرياءهم. آنذاك أنا مثلهم في حالة تشوّش. لا أعرف مَنْ أنا؟ مَن أكون أو ماذا أريد؟ وفيما أنا أقرأ أتساءل ما معنى أن يكون للإنسان ضمير؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟ وما الَّذي تفعلونه بي أيُّها النَّاس؟
إلاَّ أنَّ لرواية الجريمة والعقاب وقعا خاصًّا وتجربة مختلفة، حتَّى أنَّني فكَّرت في أن أتوقَّف عن قراءتها. ليس فقط أن أتوقَّف، إنَّما أن أمزّق الرّواية؛ لكي لا أعود إلى قراءتها. فكَّرت في هذا قبل أن أنتهي من الفصل الخامس من الجزء الأوَّل؛ ذلك أنَّني شعرت بأنَّ هناك شيئا مفزعا في ذهن راسكوليكوف. ليس مفزعا فقط؛ إنَّما غير واضح لا عنده ولا عندي. فكرة أولى سينبثق منها فكرة أخرى أو ستصير إليها. روْعٌ مرتبط بأنَّه لا يحوز الإحساس الآمن بهويّته، وهو الإحساس المروّع الَّذي نُقل إليّ أثناء القراءة. ذلك الَّذي يُسمَّى ( القراءة كفعاليَّة).
لم أتوقّف عن القراءة إلاَّ في لحظات لازمة؛ لكي أستردَّ أنفاسي؛ فأنا أقرأ وألهث لأنَّني أبحث (فضول) عن الغامض المفزع المريع الَّذي يوتّر راسكوليكوف. عن ما هو موجود في عمقه. المخفيّ والسّريّ والمجهول. ما يعرفه راسكوليكوف ولا يسمّيه؛ أو لأقل ما يشعر به من دون أن يعرفه.
ولأنَّ البشر يميلون إلى البحث عن الغموض كلَّما شاعت الألفة؛ كما لو أنَّ الغموض هو وحده القادر على أن يحتفظ بالهالة الَّتي يخفيها، فقد واصلت القراءة. هل كنت أربط بين الغموض والحقيقة؟ إنَّ الغموض يطلق على السّريّ والمجهول والمخفيّ، والحقيقة هي ما قيل بطريقة غامضة، وكلاهما ( الغامض والحقيقة ) يجب أن يُفْهما فيما هو أبعد من الظَّاهر.
ثمَّ انكشف الغامض (قتل العجوز وأختها). لا مجال هنا لأن أسأل: هل حدث هذا فعلا؛ لأنَّ سؤالا كهذا خارج اهتمامي من حيث أنا قارئ. ومع ذلك فقد شعرت بارتباط الرّواية ارتباطا قويًّا بالواقع. ليس شرطا أن يكون واقع روسيا في القرن التَّاسع عشر؛ إنَّما واقعي -أنا القارئ- الَّذي أعرفه، والحالات الَّتي عرفتها أو سمعت عنها. وهكذا فالرّواية -أي رواية- لا تشير إلى الحدث الَّذي تعبّر عنه، لكنَّها في الوقت ذاته تكون فيه الرّواية إشارة غير مباشرة إلى ما يعرفه القارئ.
تلا ذلك خوف راسكوليكوف. وهو الخوف الَّذي يبدو معقَّدا للغرباء الَّذين لا يعرفون النَّفس البشريَّة. الَّذين يتساءلون في أنفسهم عن تعلّق ذلك الإنسان العميق بفكرة قتل العجوز، لكنَّ الرَّاوي تجاوز القتل، وتمتَّع بتعقيدات خوف راسكوليكوف متأكّدا من أنَّ هذا القتل قناع يخفي به خوفه وأنَّ ما يقوم به قناع لا يمكن أن يخفي طبعه؛ إذ كلّ قناع هويَّة مختلفة، طريقة خاصَّة في السُّلوك، صوت لا يمكن إنكاره بل وأكثر من ذلك له قلب وعلى القارئ أن يصل إلى قلبه. إنَّني لا أعرف مثيلا لراسكوليكوف سوى شهريار (قاتل النّساء) حيث عرفت شهرزاد أنَّ أعماقه ليست قاسية لكن حياته يسيطر عليها الخوف.
بعد أن قتل راسكوليكوف العجوز وأختها، دخل في صراع عنيف مع مخاوفه وخيالاته. ثمَّ تطوَّر الصّراع إلى تحدّي العجوز المقتولة، وأظنُّ أنَّ هذه الجمل ستلفت انتباه القارئ الفطن: " يكفيك أيَّتها العجوز! دعي لآخرين بسلام! لقد اكتسبت الآن العقل! والنُّور! الإرادة! القوَّة! ... لسوف نرى! من المنتصر منَّا نحن الاثنيْن الآن! كيف أقرّر الإبقاء على حياتي في فراغ مساحته قدمان؟.
وحين فكَّر في الذَّهاب إلى الشُّرطة ليعترف بدأ تفكيره الغامض. وتبدو براعة ديسويفسكي في أنَّ ما شعر به راسكوليكوف لم يتطوَّر فوق حدث القتل مثل نوع من الطُّفيليات الَّتي تنمو فجأة؛ إنَّما خرج الشُّعور من فكر راسكوليكوف، ووجد سببه في حالته النَّفسيَّة، ولم يكن حدث القتل سابقة لشعوره بوجوب الاعتراف إلاَّ بقدر ما كان للقتل من تأثير في تكوين حالته. ولكي نعرف الحالة الثَّقافيَّة والأخلاقيَّة والنَّفسيَّة لراسكوليكوف، ونتمكَّن من تفسيرها يجب أن ننتظر بضعة فصول لكي نقرأ المقال الَّذي كتبه والطَّريقة الَّتي عبَّر بها المقال عن أفكاره .