** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تابط شرا
فريق العمـــــل *****
تابط شرا


عدد الرسائل : 1314

الموقع : صعلوك يكره الاستبداد
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي  Empty
02072015
مُساهمةنقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي

نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي  55897a8a637c61347564882
23 يونيو 2015 بقلم عبد الفتاح نعـوم قسم: الفلسفة والعلوم الإنسانية
حجم الخط -18+ للنشر:


نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي:
الخطاب السعيدي نموذجاً


مقدمة:
يرى مارتن برنال Martin Bernal أنّ الباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر تجاهلوا الأصول غير الأوروبية للحضارة الأوروبية نفسها، بحيث أخفوا ما تدين به حضارة اليونان "مهد الغرب" للحضارة الفرعونية[1]. وهذه الرؤية التي تبناها أولئك هي ذات اتصال بمنظور المركزية الأوروبية، وهي نظرة لا تعترف بأنّ كل الحضارات تغذي جذورها ضرورة بإنجازات أسلافها[2]، وبالقدر الذي طغت معه تلك النظرة على اتجاهات وميادين المعرفة الإنسانية في الغرب[3]، طغت أيضاً على اتجاهات النظر في الفكر العربي/الإسلامي. فمنذ أن حدث الاتصال وشرع العرب في ترجمة نصوص الإغريق وُوجهت تلك المضامين/النصوص، ادّعى الكثيرون منذ ذلك الحين وإلى اليوم بأنّ الحضارة العربية الإسلامية خالصة ومُكتفية بذاتها.
وقد كان الاستشراق[4] تعبيراً فكرياً عن انشغال أبناء أوروبا الغربية وسعيهم في فترة معينة إلى فهم كيف يفكر هؤلاء الغزاة الجدد، فكان (الاستشراق) جزءاً من الإدراك الأوروبي للعالم، ومن ضمنه الإسلام، هذا الدين الجديد الذي دقَّ أبواب أوروبا، وقاسم إمبراطورياتها الكبرى مناطق في إفريقيا وآسيا، كانت تعتبرها أكثر بعداً عن أن يتمَّ قضمها. ولم ينتبه الدارسون العرب إلى هذا المتن (الاستشراق) الذي تنوعت أساليبه وأشكاله واتجاهات من يضطلعون بمَهمَّة إنجازه، وتنوعت مواقفهم من الذي حدث نفسه، وانقسموا بين مُعجب بالحضارة العربية الإسلامية حضارة الشرق الجديدة، وبين مهاجم متشنج. لم ينتبه الدارسون العرب إلى هذا المتن إلا عندما شرعت حضارة العرب والمسلمين في الانكفاء بعد الاصطدامات المتتالية التي وجدتها مع الصلة التي ابتناها الغرب بين المعرفة والسلطة[5].
ولذلك انقسم الدارسون العرب للمتن الاستشراقي على غرار انقسام الدارسين الغربيين أنفسهم، وانقسموا إلى اتجاهات متضادة بخصوص كل المواضيع التي تُتَاخِم موضوع الاستشراق. ولذلك تريد هذه المقالة أن تسلط الضوء على مكامن الخلل في التصورات التي قابل بها الخطاب النقدي العربي المتن الاستشراقي، فثمة نوعان من هذا الخطاب: هناك الخطاب الأُصولي المتشنِّج، وهناك الخطاب النقدي التحليلي، ويحمل هذان الخطابان عقدتين: عقدة العجرفة أمام انتقادات المستشرقين ورفضها في الخطاب الأصولي المتشنج، وعقدة إدخال كل من يدرس المنطقة المسماة "شرقاً" في دائرة الاستشراق.
سنحاول في هذا المقالة تبين العقدة التي تحكمت في الخطاب النقدي العربي المتناول للنص الاستشراقي، مع النمذجة لهذا الخطاب بنص إدوارد سعيد. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ تناول الخطاب النقدي العربي سيكون بمنحى متمايز عمّا يقصد في بعض الأدبيات المعاصرة بـ"التحليل النقدي للخطاب" Critical Discourse Analysis، حيث أنه يشار به إلى مدرسة ظهرت خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بإسهام من عدد من الرواد أمثال "فان ديك" و"نورمان فيركليف"[6]، ويتفق هذان الأخيران على أنّ مهمة التحليل النقدي للخطاب تكمن في فك شفرت العلاقة بين النص/الكلام/اللغة وبين مختلف الوقائع التي تقع تحت مسمّى "السلطة"[7]. وهو اتجاه فكري يمكن اعتباره تطويراً للمنحى الذي قطعه ميشيل فوكو في مجمل أعماله، حول ربط السلطة بالمعرفة، وسلكه إدوارد سعيد أيضاً في تناوله للاستشراق[8].
وبالتالي فنحن لا نتناول الخطاب النقدي العربي باعتباره منتمياً إلى مدرسة التحليل النقدي للخطاب، وإن كان بشكل أو بآخر هو ذو صلة ببعض نواتج تلك المدرسة، إلا أنّ ما يعنينا هو التشكيل النصي النقدي الذي ينطلق من انتمائه إلى المجال الثقافي العربي، ويسعى إلى الرد على طروحات النص الاستشراقي، ويجعل هذه المهمة ذات أسبقية على تناول التراث العربي الإسلامي الذي سبق أن تناوله الاستشراق، فيكون محور هذه المقالة هو محاولة تبيان العقدة التي تولدت لدى هذا الخطاب وجعلته يساير تفضيلاته تلك، باحثين عن الإضافة التي قدمها نص كنص إدوارد سعيد على أهميته والشهرة التي حظي بها، إلى ما تراكم من رؤى في الخطاب التقليدي العربي حول الاستشراق، فننطلق من الأسئلة البحثية كالتالي:
ما هو الاستشراق؟ وكيف استقبله الخطاب النقدي العربي؟ وهل استطاع ذلك الخطاب في العصر الراهن تجاوز بعض العقبات أم أنه ظلّ حبيس الأطر القديمة نفسها بأشكال وتبريرات جديدة؟
أولاً: الاستشراق بين السياق والمفهوم
يُقصَد بالاستشراق عادة الإشارة إلى "تقليد ثقافي/أكاديمي أنتجه الغرب لأهداف تطابقت مع مصلحته"[9]. وتقع كلمة استشراق في حقل دلالي تداولي مملوء[10]، بحيث أنّ اللفظة بمعناها المتداول ذاك لم يرد ذكرها في المعاجم الكلاسيكية كلسان العرب لابن منظور والمعجم الوسيط، وباعتماد الميزان الصرفي وقواعد الاشتقاق اللغوي يمكن الوصول إلى معنى لغوي لها. وتتجذَّر الكلمة من "ش ر ق"، وبإضافة أحرف الطلب (ا س ت)، يتحول معناها إلى "كل من أدخل نفسه في أهل الشرق، وصار منهم، وطلب لغاتهم وآدابهم وعلومهم"، وقد كان أول استخدام للكلمة سنة 1630، حيث أطلق على أحد أعضاء الكنيسة الشرقية[11]، وعرفته الإنجليزية لأول مرة سنة 1779، والفرنسية سنة 1779، وأضيف بعدها مصطلح استشراق إلى معجم الأكاديمية الفرنسية سنة 1838[12].
كانت تسمية "الشرق" قد ظهرت قبل الفتوحات الإسلامية، وارتبطت بموقع بلدانه شرق البحر الأبيض المتوسط (الليفانت)[13]، وهي ذات صلة بواقع المركزية الأوروبية. أمّا الاستشراق فلم يظهر إلا بعد أن تهيأت بيئة فكرية ميْسَمُها عداءٌ شديد للإسلام باعتباره السبب في إيقاف الدفق الجغرافي المسيحي[14]، وهذا ما يفسر الخلفيات التنصيرية/التبشيرية الأولى للاستشراق[15]. لكن الاستشراق لم يتوقف عند تلك المظاهر ولم تحكمه دائماً الخلفيات نفسها، بل عرف سلسلة انتقالات انتهت بأفوله وحلول تشكيلات جديدة محله[16].
وفي وجه كل ذلك ومنذ أن وعى الدارسون العرب هذه النصوص كانت ردودهم على مقياسها، وانبرى لفترات طويلة الفقهاء في الغالب للرد على ما ينتهي إليه المستشرقون في دراساتهم للإسلام وتاريخه. وكما وضع أغلب هؤلاء كل الاستشراق في سلة العداء للإسلام، سيأتي من بعدهم دارسون آخرون وضعوا كل دراسي الشرق في سلة الاستشراق وأدانوهم جميعاً، فتغيرت وجهة الاتهام، وبقي مبدأ الاتهام قائماً. وبالمقابل ظلّ كل من حاول الاعتراف بأمراض التراث والسعي لإعادة قراءته داخلاً في دائرة الاتهام تلك، بل كثيراً ما انسحبت تهمة الاستشراق على بعض هؤلاء الدارسين للتراث، ووصل الأمر أحياناً إلى أن صنَّف بعض منهم باقي القراء في خانة التأثر بأطروحات الاستشراق لدى قراءته للتراث، وكأنّ الاستشراق كان كلاًّ منسجماً، وكأنّ التراث سليم بالمطلق، وكأنّ من قال عن العيب في التراث إنه عيب فهو مدان بدءاً وانتهاء، يكفي فقط أن يتفق في تسجيل العيب مع هذا المستشرق أو ذاك[17].
فأين تكمن عقدتا الاستشراق المشار إليهما في الخطاب النقدي العربي للاستشراق؟ ألم يكن من الأولى الانتباه في التراث إلى ما لولا وجودُهُ لما وجد المستشرقون تراثَنا مادة دسمة للدرس بصرف النظر عن الخلفيات التي حكمت درسهم ذاك؟
ثانياً: الاستشراق والخطاب النقدي العربي
بصرف النظر عن التداخل الحاصل بين موضوعي الهويّة والتراث، فإنّ قُرّاء التراث في ردودهم على متن النص الاستشراقي انقسموا بين مُصفِّق لبراعة هذا النص والسبق الذي أنجزه على صعيد تفكيك ونقد تراث هوياتي موبوء، وهؤلاء تعرضوا في الغالب إلى نقد واستهجان شديد، وكيلت لهم شتى التهم[18]، في حين وقف البعض الآخر من قراء الاستشراق موقفاً متشنجاً رافضاً للاستشراق وطروحاته[19]، كما اتجه الآخرون إلى التمييز بين الحسن والقبيح في هذا الخطاب[20].
ولأنه لا يستقيم تناول كل دارسي المتن الاستشراقي خلال هذه الورقة لكثرتهم، فإنه يحسن بنا أن نتناول إسهام إدوارد سعيد باعتباره مركزياً، وحامت حول نصه معظم الآراء الأخرى التي تَلت صدور كتابه باستثناء بعض النصوص التي سبقته، والتي أشار إليها هو في متن نصه كما هو الحال بالنسبة لمقالتي أنور عبد الملك وعبد الله العروي، زيادة على سيل الكتب السِّجالية ذات المواقف والخلفيات المتشنجة.
إدوارد سعيد هو مفكر وناقد أدبي أمريكي من أصل فلسطيني، ولد عام 1935 بالقدس وتوفي عام 2003، درس بالقدس والقاهرة ثم أمريكا، تخصص في الأدب الإنجليزي، وفاز بجائزة جامعة هارفارد كأفضل ناقد عام 1964، وأصبح بعدها أستاذاً زائراً بعدة جامعات أمريكية، لينتهي به الأمر أستاذاً للغة الإنجليزية وآدابها في جامعة كولومبيا [21]، وقد بدأ اهتمامه بالموضوعات التي احتواها كتابه الاستشراق منذ أن شرع يتأمل تجاور اسمين عربي وإنجليزي ضمن اسمه، زيادة على أنه لهج اللغتين معاً في وقت متقارب[22].
وبصرف النظر عن النقاش الذي أثارته ترجمة كتابه، يبقى من الضروري الوقوف على جوهر أطروحته التي أسسها على منهج الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في دراسة التشكيلات الخطابية، فقد قام إدوارد سعيد بدراسة الاستشراق بوصفه معرفة اتحدت بالسلطة لتقوم بتوليد إنشاء معين. بحيث يرى مصطلح الاستشراق فعلاً إبيستيمياً ظلّ غائماً نسبياً لكونه يتضمن موقفاً تنفيذياً للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وحتى إن لم يعد كما كان فإنه ظل حاضراً في الجامعات والأكاديميات الغربية كخزان للذهنيات وللأطروحات المذهبية عن الشرق والشرقي[23].
لكن حين مقابلة هذا الرأي برصد تطورات الاستشراق خطاباً وحركة نجد أنه لم ينشأ في فترة قوة هذا الغرب، بل كان رد فعل لأبناء أوروبا حيال نمط جديد للحياة اكتسح عليهم الجغرافيا، ولأنّ أوروبا في تلك الفترة كانت تعيش ظلمات العصور الوسطى التي تهيمن عليها قيم الكنيسة، فقد كان من الطبيعي أن تكون البدايات الأولى للاستشراق آخذة شكل صراع ديني بين المسيحية والإسلام، الأمر الذي أثّر على إنتاج المستشرقين لفترة ما قبل الأنوار الأوروبية، وأثّر وما يزال يؤثِّر على طبيعة سيل كتابات العرب والمسلمين حول الاستشراق ومضامينه الخطابية[24].
لا يمكن النظر إلى ذلك الخطاب خارج الشروط التي تشكل هو ضمنها، بحيث أنه وإن بدا أداة استعمارية في القرن العشرين فلا يمكن التغاضي عن أنّ ميلاده وافق فترة عاشها الغرب بكاملها في العصر الوسيط وهو ينتظر ما تجود به أقاصي الشرق، فقد كان الغربُ جائعاً في ظل تجارة دولية يقودها الشرق، وذلك منذ أوائل القرن العاشر الميلادي، بحيث كان التبضيع سياسة ينهجها الشرق، وكان يقوِّض الاحتياجات اليومية للغرب وفق ما يشاءه هو[25].
وبمجيء عصر نهضة الغرب ثم الأنوار في القرن الثامن عشر، سيوظف كلٌ مقولاته المعرفية التي أنتجها في زمن الضعف ليقدم إنتاجاً فريداً تجسده تلك العلاقة بين المعرفة والسلطة، بحيث قادت المعرفة إلى السلطة. سيتحول الأمر وسيصير الشرق في أعين أبناء الغرب مكاناً يرزح أبناؤه تحت وطأة الاستبداد، بل ستبقى تلك النظرة هي السائدة إلى اليوم[26]، وسيأتي على الغرب زمن يدّعِي فيه أنه هو الثقافة، وليس ثقافة بين الثقافات[27].
وفي تعقيباته على كتابه تناول إدوارد سعيد بعض الانتقادات التي وجهت إليه، وأهمها أنه لم يُدرج الاستشراق الألماني لأنه لم يجد فيه ما يدفعه إلى ذلك، كما يستغرب لانتقادات دنيس بورتر له، والقائمة على أنّ إدوارد لا تاريخي، تأسيساً على ذلك (على موقفه من الاستشراق الألماني)[28]. إلا أنّ السبب في نظر هشام جعيط أنّ كتاب سعيد كله مفعم بالإشارات إلى الأدب الإنجليزي، ولذلك هو لم يُضف شيئاً يُذكر، ولم يكن يَعرف الدراسات الاستشراقية، وليس هذا اختصاصه[29].
 ربما أطروحة إدوارد التي تربط بين خطاب الاستشراق وبين قوة الغرب في مرحلة معينة هي التي جعلته يهتم كثيراً بالاستشراق الأنجلو-أمريكي ويقارنه بمثيله الفرنسي[30]، وذلك كي يدافع عن أطروحته القاضية بأنّ الاستشراق موقف تنفيذي فوقي للاستعمار الغربي للشرق، فبطبيعة الحال حينما يقول إنه لا يرى هناك من أهمية للحديث عن استشراقات لبلدان أخرى لم تَستعمِر الشرق، فهو يتكلم من موقع الانسجام مع أطروحته، دون أن يقلل منها أنها لا تنسجم مع الوقائع التي يصدح بها التاريخ.
لقد تولَّد الاستشراق عن رغبة جامحة لدى أبناء أوروبا القرون الوسطى في فهم أسرار الحضارة الجديدة التي قَدِمت إليهم، واستمر الهاجس نفسه بعد أن حدثت تحولات في المجتمعات والدول في أوروبا بعد عصري النهضة والأنوار، وأصبحت معرفة الشرق ليست ردة فعل فقط، وإنما ضرورة لضمان القوة إزاءه، في حين انشغل أبناء الشرق في الرد على المستشرقين. أمّا بخصوص استشراقات الشعوب التي لم تعرف بلدانها وثقافتها حضوراً استعمارياً في الشرق، فإنّ هناك ما هو أبعد من ذلك، بحيث سنجد فيما بعد استشراقات قام بها أبناء الشرق نفسه، فالظاهرة هي نفسها ويجب النظر إليها في سياقاتها التاريخية الأوسع التي لا تَقصُر خطاب الاستشراق على موقع سيادي لبلدان بعينها في الشرق[31].
أطروحة إدوارد سعيد أغفلت تبعاً لذلك التطورات التي عرفها حقل الاستشراق في القرن العشرين والصيغ الأكاديمية التي انتهى إليها، ولم يتجاوز مؤلَّفه إشارات عامة إلى الموضوع. فالاستشراق مات نظراً لأنّ الغرب لم يعد هو الوحيد المسيطر في عالم اليوم المتعدد الأقطاب، وأيضاً نظراً لأنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية قد اتسعت وبدأت تدرس العالم الشرقي كمناطق جغرافية بعيداً عن أي اعتبارات تاريخية[32].
لقد غالى نقاد الاستشراق في نقدهم له إلى الحد الذي أصبحت معهم كل دراسة علمية لمنطقة من العالم سمّاها البشر في أزمنة معينة تسميات معينة (شرق، شرق أوسط، شرق أدنى، شرق المتوسط...) أصبحت أي دراسة للمنطقة استشراقاً مرفوضاً أو منظوراً إليه بريبة ومداناً في أحسن الأحوال. وحتى إدوارد سعيد بالرغم من كونه قدّم منظوراً نقدياً بنفَسٍ قادم من العلوم الإنسانية المعاصرة لموضوع الاستشراق، إلا أنه هو الآخر لم يتسامح مع كل من درسوا الشرق، ووضَعهم في زمرة من يمثلون ذلك الاتحاد بين المعرفة والسلطة في الغرب لإنشاء موقف تنفيذي استعماري حيال الشرق، بل كما أغفل الاعتبارات السالفة الذكر أغفل أيضاً أنّ بعضاً من هؤلاء هم ضد الغرب نفسه، أو لا يعترفون في أدبياتهم بتقسيمات للعالم ضمنها شرق أو غرب.
أدان إدوارد سعيد ماركس حينما أظهر "تسامحاً" مع الاستعمار الذي يُفصح عن وجهه المفيد، لأنّ الاستعمار تنفيذاً لمصالحه يُحدث رجّة في أنماط الإنتاج التي تكون موضوعاً له، فيدفعها إلى الأمام، كما حدث في البلدان التي جرى استعمارها على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، وهكذا يصبح ماركس بتحليله لسياق موضوعي تقتضيه الضرورات التاريخية وحديثه عنها مستشرقاً، وحينما يدين عذابات الشرقيين يصبح خارجاً عن دائرة المستشرقين، ولذلك كان مهدي عامل يرى أنّ هذا المنحى في الفهم السعيدي يعكس فقط بنية الفكر الذي يتأول عبره إدوارد النص الماركسي[33]. وربما هذا هو السبب أيضاً الذي جعله يتغاضى عن مسألة تناوب القوة والضعف بين الحضارات وصلتِه بولادة النص الاستشراقي ومضمونه الخطابي.
إذا كان هذا هو الحال مع مفكر من حجم إدوارد سعيد، فكيف هو مع البقية ممن ينظرون بعين العقيدة أو بعين الانتماء الضيق الأفق إلى نص الاستشراق؟ للأسف التناول "الشرقي" للمسألة في جميع الأحوال انصبّ على كل ما يتصل بها، إلا إذا تعلق الأمر بضرورة تنقية التراث، وهو مشروع ضخم لإعادة القراءة، عمل فيه العشرات من المفكرين العرب والمسلمين بهدف تنقية التراث من الشوائب، لكنه سار منفصلاً عن الاعتبار الواجب إقامته للنص الاستشراقي إعمالاً للحد الأدنى من الموضوعية والنزاهة[34].
ولعل كلّ القنابل الموقوتة التي كانت مخبأة في ثنايا التراث انفجرت مع ما أصبح يُسمى بالحركات الإسلامية التي تتفق جميعها على تصور للدين وللمجتمع يروم ـ عن غير قصد أحياناً- تقويض الهويّة الحضارية والثقافية للعرب والمسلمين، ورمي كلّ القيم العصرية التي فرضت نفسها في سلّم المُهملات، فأكبر خطر على الهويّة الثقافية والحضارية لأبناء هذه المنطقة يأتي من تمزيق نسيجهم الحضاري إلى خطابات تتصارع على من له الحق كي يتحدث باسم الموروث الأزلي المقدّس.
ألم يكن في انتقادات المستشرقين لتراثنا وتاريخنا الكثير من الصواب؟ هذا هو السؤال الذي يتهرب الكثيرون من الإجابة عنه، وتحاول القلة أن تميّز بين الصواب وبين نوايا قائله، وقد كتب نجيب العقيقي في موسوعته عن المستشرقين: (...تناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف، وإنما عمدوا إلى درسه مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات حتى أصبح جزءاً من تراثنا، فإن نحن طوينا هذا الجهد تنكرنا للأمانة العلمية في البحث عن الحقيقة الموضوعية)[35].
خاتمة:
لاشك أنّ المستشرقين قد دفعوا العرب والمسلمين على الأقل إلى الرجوع إلى تراثهم، ولو للبحث فيه عن ردود لتسويغ ما مضى. لكن ينبغي استعادة الفرصة لأنّ كل الأماكن التي لم تمر فيها مكنسة العقل في التراث سهلت نمو الفطريات، وها هي تلك الفطريات تتحول إلى نباتات مُمرضة تفسد على المسلمين والعرب روح العصر، وتمنعهم من التقاط أنفاس الحضارة، وتحرفهم عن صوغ رؤية حضارية جامعة، بل تقاتل المجتمعات كي تعيدها إلى عصر تظن هي أنه هو النسخة الأفضل والأحقّ من الإسلام.
هناك الكثيرون الذين بذلوا مجهوداتهم القصوى لتنقية التراث والهويّة والثقافة العربية الإسلامية من أمراضها، وواجهوا في السبيل إلى ذلك، وما يزالون، مشكلات جمّة، تبدأ بالتكفير والإقصاء المجتمعي أحياناً وتنتهي بمصادرة الحق في الحياة أحياناً أخرى[36]. لكن متى سنقتنع فعلاً أنّ وجود الشرق كان ضرورة اصطلاحية جغرافية في عصر معين، كما هو الحال للاتجاهات الأربعة للأرض، ونتعامل معه على هذا الأساس معطين الأولوية للإنسان؟ حينئذ سيعلم العرب والمسلمون أنهم ليسوا هم وحدهم من يعنيهم أمر هذا الشرق، وأنّ الأَوْلى بنا أن نعيد النظر في تراثنا بدل أن نستمر في إدانة من ينتبه إلى عواره، سواء أكان من (النحن) أو من (الهُم)، خصوصاً أنّ من نعتبرهم نحن محسوبين على الاستشراق (القديم أو الجديد) شرعوا يتنصلون منه ويمارسون النقد عليه[37].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

نقد الاستشراق بدل نقد التراث في الخطاب النقدي العربي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
انتقل الى: