** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن عبد الله
مراقب
مراقب
بن عبد الله


التوقيع : الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم Image001

عدد الرسائل : 1516

الموقع : في قلب الامة
تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا
تاريخ التسجيل : 05/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم Empty
25122009
مُساهمةالإسلام والعقل، والتناقض المزعوم

لإسلام والعقل، والتناقض المزعوم.. رداً على محمد المزوغي
06 July 2008 09:53 am



الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم Jadal_1215357134_1101104






مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وبعد،
فإن
العديد من الناس يزعم وجود التعارض بين العقل أو العلم وبين الدين، ويبني
على ذلك أساطير الآخِرين، المشابهة لأساطير الأولين، ويستلزم استحالة جواز
اتباع الأديان، ولا يفرق بين دين وآخر!
وكل واحد من أصحاب هذا الاتجاه
يعتمد على جانب من الجوانب التي يراها، فبعضهم ينظر في جوهر الدين نفسه
وينكر وجود إله، وبعضهم لا ينكر الإله لكنه ينكر إنزاله للكتب وبعثه
للأنبياء والرسل ويرى العقل كافياً لتعبده لهذا الإله (الدين الطبيعي الذي
انتشر في بعض الأزمان في أوروبا)، وبعضهم يعتمد على بعض مقولات الدين
كالعبادات أو السياسات، أو العقائد أو المعاملات، وهكذا...
وما يزال
الناس في هذا العالم يتدافعون مع الإيمان بالدين الحقِّ، وهذا هو موضع
الامتحان، ولذلك فقد أمرنا أن نبين للناس أحيانا بالجدال بالتي هي أحسن،
وأحيانا بالإرشاد ابتداء، ويتضمن ذلك أيضاً الردَّ على الشبهات وإعادة نقد
الآراء والأهواء وإرجاعها إلى منابعها، أو معارضتها بمثلها مما لا يجوز
لعاقل نفيه ...وتتعدد أساليب الجدل والمناظرات مع المخالفين، ولكن هذه
الوظيفة ستبقى قائمة إلى يوم الدين، لأنها محل الامتحان، وبناء على ذلك
يتمايز بنو الإنسان.
وقد رأيتُ أن أقوم بنقد بعض المقالات التي نشرت
على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) وعلى صفحات بعض الكتب، أو مما
تتناقله الألسنة في المجالس، وأفرد لبعض تلك المقولات مقالات خاصة، أحاول
فيها أن أشرح المسألة من وجهة نظر أخرى، نقرب فيها ما نراه لعل ذلك يكون
سبباً للبيان.
ومن ذلك نقدي للمقالة التالية، لما تحويه من دعاوٍ
خطيرة، لا تقوم على أي أساس! ولغيرها من المقالات والاتجاهات الفكرية
لاحقا إن شاء الله تعالى، آملين أن لا يعتبر نقدنا هذا اعتداء على أمور
شخصية لأحد، بل هو مجرد إقدام على التعبير عما نعتقده ونراه صائبا، وندعو
الآخرين إلى إعادة النظر فيما يقولون، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فهذا
أقوم قيلا، وهدفنا من وراء ذلك ليس الاعتداء على أحد، ولا السعي وراء
الأعوان، كما قد يصور ذلك وهم البعض، إنما هو مجرد سعي إلى الإصلام ما
أمكن، عن طريق إعادة النظر وحثِّ الآخرين على ذلك لعل الله تعالى يحدث بعد
ذلك أمرا.
والله تعالى الموفق وعليه التكلان.

تمهيد
قام
الدكتور محمد المزوغي في هذا المقال ببيان معارضته للبابا بنديكت في زعمه
بأن المسيحية هي دين العقل والسلام، خلافاً للإسلام، وأثبت بقوة أن
المسيحية لا تتميز لا بالموافقة للعقل ولا بانبنائها على السلام، وأظهر أن
مقولة البابا ما هي إلا عبارة عن اتهام صارخ لا يقوم على برهان، بل على
التحكم والهوى.
ولكن الدكتور المزوغي معلنا اتجاهه الإلحادي العلماني
يصر أيضاً على أن لا فرق في ذلك بين دين ودين، وأنه لا قدسية عنده لكتاب
مقدس على آخر، فلا يقدس القرآن ولا يقدس الإنجيل ولا التوراة، ولا غيرها
من الكتب. ويزعم بكل وضوع أن جميع هذه الأديان (الأديان التوحيدية
بعبارته) تناقض العقل والسلام، ولم تجلب للإنسان إلا الأهوال والمآسي في
تاريخه، وأنه قد حان الوقت للتخلص منها جميعها.
ولذلك فقد اندفع للرد
على البابا في زعمه أفضلية المسيحية على الإسلام، فقال له باختصار إن كل
ما تنسبه إلى الإسلام موجود وبصورة أقوى في المسيحية، فلا يصح لك هذا
الزعم.
وما نقوم به في هذه المقالة، ما هو إلا محاولة لتفكيك بعض
مقولات د. المزوغي ومعارضته بنحوها مما لا يقوى على دفع إمكانها العقلي في
باب اتهامه للإسلام بالتناقض مع العقل والعلم ونحو ذلك.
ونحن نعتقد أن هذه المناقشات والردود قد يكون فيها بعض الفوائد ولعلها تكون دافعا لإعادة النظر من البعض في المفاهيم التي يحملها.

الشروع في التحليل والنقد
في
بدايات المقالة المذكورة، نجد تصريحاً خطيراً مفاده المفاصلة التامة بين
الدين وبين الفلسفة، وبما أن صاحبنا يعتبر الفلسفة هي المعبِّرة عن العقل،
فالمقصود أصالة من هذا التصريح هو المقاطعة التامة بين العقل والدين، مهما
كان هذا الدين.
قال المزوغي:" الفيلسوف، في أمور الدين، إما أن يكون
مؤمنا أو مُلحدا ولا ثالث بينهما؛ فأعسرها عليه المكوث بين الطرفين أو
محاولة التوفيق بينهما."اهـ
في الحقيقة هذه القسمة غريبة، وكأن
الاختيار بين الإيمان والإلحاد محصور على الفيلسوف فقط، بل الصحيح أن هذين
الاختيارين أمام كل إنسان، فلنا أن نقول العامي إما أن يكون ملحدا أو
مؤمنا، والنجار إما أن يكون مؤمنا أو ملحداً، وسائق القطار إما أن يكون
مؤمنا أو ملحداً، وهكذا، وذكر الكاتب لهذه القسمة على النحو الذي أوردها
فيه، توحي بأن هذين الاختيارين هما فقط للفيلسوف، وهذا غير صحيح.
ثم يعسر على هؤلاء جميعا الجمع بين الإيمان والإلحاد! وليس هذا الحكم خاصا بالفيلسوف.
ثم
على هؤلاء جميعا أن يختاروا، ويتميز العالم منهم بأن اختياره يجب أن يكون
بناء على نظر وفكر، لا على مجرد هوى، ولكن هذا لا ينفي إمكانية اختياره
بناء على الهوى والشهوة فقط، سواء اختار الإيمان أو الإلحاد!
والكاتب
يضع القسمة بين الإيمان والإلحاد في مقابل القسمة إلى النسق اللاهوتي
والنسق العقلاني المادي، وهذا يعني بصورة واضحة أن الدين لا يمكن أن يكون
في ضمن العقلاني، وبمعنى آخر، المؤمن لا يمكن أن يكون اختياره مبنيا على
عقل، وهو ما نخالف فيه الكاتب وغيره ممن يصرخون بهذه الأحكام العشوائية في
هذا الزمن.
والكاتب يقول:"الاختيار المعقول والأكثر علمية، حسب
أغلبية الفلاسفة، يذهب إلى الثاني لأسباب عديدة منها: هناك فضل منطقي نظري
للنّسق المادّي على النسق الإيماني الديني لأنه يسمح بضمان كلّيّة
القوانين الطبيعية وإرساء الفضائل الأخلاقية عن طريق الاقتصاد في المبادئ.
النسق المادي لا يفترض وجود كائن متعالٍ، مفارق للمادّة، حرّ، خيّر وحكيم
ولكن في الواقع وبحسب الكتب المقدّسة يتصرّف دون حرّية، وأفعاله خالية من
الحكمة والعناية.
هناك أيضا تفاضل على المستوى تفسير الظواهر الطبيعية:
فالمذهب العقلي المادي فقط هو القادر على أن يرسي بانسجام دعائم القوانين
التي تسيّر الطبيعة، قوانين حتميّة وضرورية، غير خاضعة للتبدّل والاعتباط
الإلهي.
أخيراً النسق المادّي فقط يسمح بإعطاء تفسير محايث عقلاني
لوجود الشرّ في العالم، تاركا وراءه كلّ الإشكالات التي تخبّط فيها
اللاهوت التبريري (La théodicée): الشرور في العالم مُتأتية مِن تسلسل
عَرضي للعلل الماديّة، دون غائية متعالية تسيّرها."اهـ
وهذا الكلام
منطو على مغالطات عديدة، منها إنكاره أن اطراد القوانين يمكن الوصول إليه
بمجرد وجود الإرادة الثابتة التي تطرد مفعولاتها على نسق واحد، ولا يشترط
عقلا لاطراد القوانين المادية ابتناؤها على الاضطرار أو الضرورة.
وأما
الموجود الذي إرادته حرَّة غير واقعة تحت نسق الضرورة من أي شكل، فإن
هؤلاء الفلاسفة يزعمون أنه لا يتيح لهم القطع بضمان القوانين الكلية، وهذا
مجرد كلام لا قيمة له، فالاطراد يمكن أن يتوصل إليه بالإرادة الحرة التي
تجري على نمط واحد، ويمكن أن يتوصل إليه عن طريق فرض الضرورة الحتمية. ولو
فرضنا عند العقل أصل الوجود، وقارنا بين كون هذا الوجود موصوفا بالإرادة
الحرة وبين كونه موصوفا بالضرورة والمشي على قوانين ثابتة، لكان افتراض
الإرادة أقرب عند العقل من فرق تلك القوانين التي تفترض نوع كثرة في
الوجود لا داعي له بعد فرضه!
ولا علاقة تربط بين الإله المتعالي عن
المادة وبين كون أفعاله غير موافقة للحكمة، بل إننا نقول إن أفعال الله
تعالى موافقة للحكمة ومع ذلك فإنه غير مادي ولا يخضع لتلك القوانين،
والنسق الظاهر من أفعاله (العالم=الطبيعة) تابع لإرادته، فهو مريد للحكمة
لا لسبق إيجاب خارج عن ذاته، بل إيجاده للحكمة والتناسق الحاصل بين أركان
العالم تابع لمقتضى اختياره المحض. ولا نرى هذا القول العقلي أبعد عند
العقل من افتراض المادة التي يلزمها الجري على نسق معين من القوانين!
وأيضا
نقول إن تفسير وجود الشرِّ في العالم، بأي معنى من معانيه، يمكن الوصول
إليه بمجرد الاعتقاد بوجود الخالق القادر المختار، الذي أراد أن يوجد
العالم على هذا النمط، ولو أراد أن يخلقه بلا شرِّ أو نقص أو أذى يصيب
الإنسان وغيره من الموجودات، لكان هذا أمرا ممكنا له، ولكنه أراد أن يوجد
العالم على هذا النحو المشاهد، وأخبر أنه يقدر على خلق عالم خالٍ من هذا
النمط من النقص والألم (وهو العالم الآخر الباقي).
ولو عرضنا كلا من
هذين التصورين لما استطاع واحد يحكم بمقتضى عقله أن يقول إن الموافق
لمقتضى عقله إنما هو الاحتمال المادي كما يقرر هؤلاء !
وبناء على ما
قررناه، فلا يحق لواحد أن يقول إن الاختيار المعقول والأكثر علمية إنما هو
الاختيار المادي! بل هذا مجرد مصادرة على المطلوب.
وإنما وقع هؤلاء في
تلك المغالطات لأنهم لم يفرقوا بين الضرورة المطلقة وبين الضرورة بشرط
الموضوع، والفرق بين هاتين الجهتين قد وضحه علماء المنطق الإسلامي الذي
يزعم العديد من المنبهرين بالغرب أن الإسلاميين لم يأتوا فيه بجديد.
ونعني
بذلك أنه ما دمنا ملاحظين لحقيقة الموضوع فإننا نستطيع أن نحكم بنوع من
الضرورة ليست تلك الضرورة المطلقة، وهي قريبة من قولنا: (ما دامت
الذات...).
وهل إذا قلنا إن الشر إنما نتج عن طريقة تسلسل عرضي للعلل
المادية يستريح ذهن الإنسان، ويطمئن قلبه، بينما إذا قلنا إن تلك الآلام
إنما ظهرت له بإرادة وخلق الفاعل المختار لا يطمئن إلى ذلك ولا يستريح له
قلبٌ؟! والحقيقة أننا إذا عرضنا هاتين الصورتين على الإنسان لاختار أن
جانب الاطمئنان يكون أقرب إذا قلنا له إن الفاعل له مريد حكيم وليس مسيرا
بمقتضى قوانين لا إرادية، فكيف إذا أتانا من هذا الفاعل الحكيم أخبار
تخبرنا عنه أنه إنما جعل ذلك دار امتحان لنا! فمن هو ذا صاحب اللب والعقل
الذي يستطيع أن يزعم أنه لا يستطيع الوصول إلى الطمأنينة في ضمن ذلك
التصور!
ويفاضل الكاتب المزوغي بين الموقف الإلحادي والموقف الإيماني
فيقول:" الموقف الإلحادي، حتى وإن صدم دائما حساسية المؤمنين، فهو موقف
واضح وصريح من حيث إن العقل، بالنسبة لكثير من الفلاسفة، قادر بمفرده أن
يُبرهن على عدم وجود الله، وعلى قدم العالم وفناء النفس. أما الإنسان
المؤمن فهو يعتقد جازما في وجود الله، حدوث العالم وخلود النفس، واقتناعه
ناتج عن إيمان وتسليم مرتبطين بالقلب وليس بالعقل."اهـ، فهو يجزم أن العقل
يستطيع إثبات عدم وجود الله تعالى، ولا أدري من أين أتى بهذا الجزم، هل من
عقله أم من رغبته بهذا الإيمان، وما معنى أن العقل يثبت العدم! هل يستطيع
العقل فعلا أن يثبت عدم وجود الله تعالى؟ وإذا استطاع ذلك، فمن أين يقال
إنه لا يقدر على إثبات وجود الله تعالى –من حيث هو عقلٌ-!! ولذلك فإنا نرى
أن الإيمان بعدم وجود الله تعالى، أولى بأن يكون تابعا للهوى أو للخطأ
النظري من الإيمان بالله على ما يزعم هؤلاء!
الحقيقة أن الموقف
الإلحادي موقف متحكم متأزم دائماً، وهو يتسلط على الإنسان فيقول له: لا
تقل كذا وقل كذا، وفي الوقت نفسه يزعم أن ذلك التسلط صادر من قبل الإيمان
فقط.
ونحن لا نسلم أن العقل ليس بقادر على إثبات وجود الله تعالى، ولا
نسلم أصلا أن العقل قادر على إثبات عدم وجود الله أصلا، بل نقول بملء الفم
إن الإيمان الكامل لا يمكن أن يبنى إلا على العقل!
ولذلك فقد كان
المتكلمون الإسلاميون يتكلمون دائما على إثبات وجود الله تعالى بالعقل،
وهذه أول خطوة تبدأ مع الإنسان الذي ينظر ويبحث ليصل إلى الحق في هذه
المسألة، أما أن يقال إن العقل لا يقدر، فهو مجرد دعوى بلا دليل.
نعم
إن الإنسان يستطيع بإرادته ورغبته أن يؤمن ويتعلق بالإيمان بالله بمجرد
هواه وتقليده لغيره، كما يستطيع بمجرد إرادته أن ينكر وجود الله تعالى
ويتعلق بالكفر والإلحاد، فلا فضل لواحد من الموقفين على الآخر من هذه
الجهة، أما أن يقال إن الإنسان يتوصل إلى الإيمان دون اللجوء إلى البراهين
العقلية، ويتم السكوت عن أن يصرَّح بنحو ذلك في جانب الإلحاد فهذا هو عين
الزيغ عن الميزان بالقسط.
فإذا كان العقل ميزاناً في هذه المسألة،
فإما أن يكون الموقف الإيماني مصيباً في القول بأن العقل قادر على إثبات
وجود الله تعالى، أو أن يكون الموقف الإلحادي مصيباً في ذلك الزعم القائل
بأن العقل قادر على إثبات عدم وجود الله تعالى.
ونحن نزعم القدرة
العقلية على إثبات وجود الله تعالى، بخلاف هذا الكاتب ومن يتعلق بهذا
الزعم ممن يوافقه من كتاب الإسلام فيزعم أن الإيمان بالله تعالى مجرد
اختيار ومسلمة من المسلمات أو مصادرة من المصادرات!
وليس التمسك بقيمة
العقل مجرد موقف اعتباطي صادر عن تأثر بعقدة نقص لازمتهم أمام الفلسفة
اليونانية، فنحن نزعم أن الإيمان قبل الفلسفة اليونانية، والاستدلال على
وجود الله تعالى بالعقل والنظر في الآفاق والأنفس هي دعوة الأنبياء قبل
وجود الفلسفة اليونانية، فأول الأنبياء جاء بالإيمان قبل الفلسفة، فمن أين
كانت تنبع هذه العقدة المزعومة عندئذ وقد كانت الأديان تنادي الإنسان بأن
يعمل عقله منذ ذلك الوقت للوصول إلى الإيمان بوجود الله تعالى، ولا معنى
لمناداة الأديان –على الأقل الدين الإسلامي- بهذه المسألة وهي تعلم أن لا
قدرة للعقل على ذلك الإثبات، أو تعلم أن تلك المناداة إنما هي نتيجة عقدة
نقص، لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بنحو تلك الأفكار الغريبة الباعثة
على العجب!
ألم يروا أن أكابر علماء الإسلام اشتغلوا بالعقل، واهتدوا
بهديه في أثناء عملهم على البرهنة على وجود الله تعالى! فهل كان ذلك منهم
نتيجة لتلك العقدة النقصية الواردة إليهم من رؤيتهم لفلسفة اليونان!
إن من يفكر بتلك الطريقة ما هو إلا مغالط!
ولم
يزل العلماء ينادون الزاعمين بوجود التعارض بين العقل والنقل لأن يأتوا
بمثال على ذلك التعارض، ومعنى التعارض أن لا يقبل العقل أمراً يقرره
النقل؟ ولن يستطيع أحد أن يزعم مثالاً واحداً يصحُّ إلا في عرفه وبحسب
هواه، وكذلك فإنا نقول: إن الإنسان لا يمكنه أن يأتي بمثال واحد يثبت به
أن العقل يأتي بأمر لا يمكن غيره في ميزانه وفي الوقت نفسه يرفضه النقل!
فهذا محال أيضا بمراعاة الشرع الصحيح.
وهذا الكاتب يزعم أنه لا يمكن
الوصول إلى التوافق بين العقل والنقل إلا إذا أضعفنا قدرة العقل أو قمنا
بتشويه الدين وأخرجناه من معناه الميثولوجي الخرافي إلى معانٍ رمزية
وأخلاقية( ). فالتعارض بين العقل والإيمان (الدين) تعارض حتمي لا يمكن
الوصول إلى إثبات التوافق بينهما موضوعياً!!
ولذلك يستغرب الكاتب من
دعوى التوافق بين العقل والنقل، والحقيقة أن دعواه مجرد وهم قائم في
خياله، فلم نرَ أمراً يزعمه القائلون بالفلسفة مقطوعاً به، ولا يمكن
توفيقه مع النقل، ولا يمكن ورود العكس أيضا، وكل ما أتوا به فإنما هو
خرافات قائمة بأوهامهم، وقد تكون نتيجة تعميمهم ما يرونه في الكتب
اليهودية والمسيحية على كل ما يسمى ديناً، وقد تكون مبنية على سوء أفهامهم
كما سنرى بعض الأمثلة في هذا مناقشتنا لهذا المقال.
وقد عارض الكاتب المزوغي البابا بنديكت عندما قال الأخير: إن العقيدة المسيحية تتوافق مع العقل اليوناني!!
ولم
يعارضه في ذلك لأنه يعتقد أن الإسلام هو المتوافق مع العقل اليوناني، بل
لأنه يعتقد أن لا شيء من الأديان يمكن أن يتوافق مع العقل اليوناني أو مع
غيره من العقول، ولذلك فتراه يناقش البابا المذكور عندما حاول أن يثبت أن
الدين الإسلامي يجيء بما هو غير معقول، بخلاف الدين المسيحي!
والكاتب
محقٌّ في أحد جوانب كلامه، فالدين المسيحي متعارض تماماً مع العقل في
دعواه التثليث على الأقل، وهذا التعارض لا ينكره حتى أتباع الدين المسيحي،
إلا من حاول تأويل ذلك بمذهب فلسفي أو آخر، أما ما زعمه من أنه لا يمكن
التوافق بين الأديان كلها وبين العقل، فهذا من طيشه وتسرعه!
ولكن العقل
اليوناني ليس هو معيار العقل المطلق حتى يقاس الصواب إليه، فلا يجوز لعاقل
أن يزعم ذلك الزعم الذي صدر من البابا، وقد كنا ناقشناه ورددنا عليه في
محاضرته برسالة تكلمنا فيها على أهم النقاط التي أفشاها، وسوف نبين هنا
بعض المعاني المتعلقة بذلك خاصة وأن الكاتب المزوغي يناقشه في بعض كلامه.
ويضرب
الكاتب مثالاً على تناقض المسيحية مع العقل وهو أول الكلمات الواردة في
يوحنا:"في البدء كان اللوغوس" فيتساءل ولكن أي لوغوس هذا؟ :" هل يَعني به
العقل المنطقي؟ هل يعني به مبادئ البرهان والقياس النظري كما عرضها أرسطو
في التحليلات الأولى والثانية؟ أم أنه يعني "عقل العالم" عند الرواقية، أي
العقل المحايث للكون؟ لا هذا ولا ذلك، إنه أبعد ما يكون عن العقل النظري
والمنطق. فكلمات يوحنا، إن قسناها بمعايير المنطق العقلاني، فهي متناقضة
سواء في المقدّمات أو النتائج، لأنها تحمل على اللوغوس صفتين متناقضتين «
في البدء كان اللوغوس، واللوغوس كان عند الله. وكان اللوغوس هو الله. هو
كان في البدء عند الله (إنجيل يوحنا، I، 1 ـ 2". اهـ
ثم زعم زعمه
الخطير فقال:" لكن الرأي النقيض، أعني ذاك الذي يقول بأن المسيحية، ككل
الأديان الأخرى، في تناقض تام مع مقومات العقل ولا ترقى إلى مرتبة
العقلانية، يأتي من المفكرين الغربيّين أنفسهم. الملفت للنظر هو أن أصحاب
الأديان بمختلف مللهم يحاولون جذب العقل لصالحهم، مدّعين أن العقل السليم
يوافق المعتقد الحق، والمعتقد الحق طبعا هو معتقدهم الشخصي المحصور في
دينهم لا يتعدّاه. لكن الفيلسوف يعارض من حيث المبدأ هذا الادعاء ومن
السهل عليه تفنيده جملة وتفصيلا."اهـ.
المشكلة الرئيسة التي أراها عند
هؤلاء الكتاب، هي أنهم يضربون كلام البعض بكلام غيرهم، ولا أحد يعتمد على
ما يسمى بالدليل والبرهان، بل تراهم دائما يقررون أمرا اعتمادا على ما
قاله غيرهم، فيقولون إن الدين يعارض العقل كما قرره فلاسفة اليونان مثلا،
أو فلاسفة الغرب، وإن قال بعض مفكري الحداثة العربية بعكس ذلك فإنهم
يستدلون بكلام غيرهم، ولا يعتمدون على براهين ولا أدلة بل يلقون بمزاعمهم
إلقاء هكذا، ولذلك فإنا نرى أن النقاش معهم –والحال كذلك- لا يكون إلا
بمعارضة دعاويهم بما يقابلها، لأنهم لم يأتوا بدليل ولا برهان لكي نشتغل
به حلا ونقضا، بل اكتفوا بإلقاء الزعم والدعوى، والدعوى تعارَضُ بمثلها!
إننا
نزعم أن أحد الأديان هو الدين الصحيح فقط، ولا يمكن أن يكون جميع الأديان
على صورتها الحالية صحيحة تماماً، ولأنه قد قام البرهان عندنا على صحة
الإسلام، فغيره من الأديان باطل، وانحصرت الصحة فيه، ولو لم يقم البرهان
على تعيين الصحة في الإسلام لكنا جزمنا بمقتضى القواعد العقلية بانحصار
الحق في واحد لا أكثر.
وما ألقيناه من حكم على الأديان نثبته بصورة
أولى على الفلسفات والأديان الوضعية أيضا، وينبغي أن لا يعارضنا الكاتب في
هذه القضية من أصلها، فلا يصح له أن يقول: إن جميع الفلسفات صحيحة إلا إذا
كان لا يعرف معنى الصحة والبطلان، فإما أن يقول: إنه توجد فلسفة واحدة هي
الصحيحة فقط، أو يقول: لا توجد فلسفة واحدة انحصرت الصحة فيها، بل كل
فلسفة وكل مذهب فما خلا من حق وباطل، فنقول له، إذا قلت بذلك: فيلزمك أنا
إما أن يمكننا معرفة الحق من كل مذهب، فيلزم إمكان معرفة الحق المطلق في
كل مسألة، أو تقول لا يمكن ذلك، فيلزمك الإصرار على أمر ينكره العقل وهو
البقاء على الجهل في جميع المسائل وعدم القدرة على إصابة الحقِّ فيها؟
فيلزمك إثبات مذهب السفسطة وعدم العلم بالأشياء.
وذكر
الكاتب بعض المحالات التي تطرحها المسيحية على العقل النظري، كما قال،
وسواء سلمنا له هذه الإشكالات أم لم نسلمها، فلا بدَّ أن يتنبه القارئ إلى
أن الكاتب إنما يريد ضرب الأديان بعضها ببعض، فيريد التوصل من نقض بعضها
كالمسيحية إلى نقض جميعها شاملا الإسلام، وقد صرَّح بأنها تشترك في كونها
غير معقولة ومخالفة للعقل.
وهو يردد في غير موضع من مقالته هذه مسألة
الشر، ويعتبر مجرد وجود الشر في هذا العالم دليلاً على عدم وجود الإله
ودليلاً على بطلان الأديان، إذ كيف يكون الإله موجوداً ويسمح بفعل الشر بل
يفعله هو نفسه، فالكاتب إذن يريد أن يحجر على الإله بحكم يعتبره عقلياً.
ومن
أين للعقل أن يقول بالوجوب على الإله إذا كان عقلاً فعلاً؟! فنحن
–باختصار- لا نسلم أن العقل يستلزم الإيجاب على الله تعالى في أفعاله،
وبناء على ذلك فلله تعالى أن يفعل ما يشاء، ولا تحجير عليه، ولا يستلزم
خلقه للشر أن يكون شريراً، إنما الشرير من يكتسب الشر ويتصف به لا من
يخلقه ويوجده.
ونحن مع الكاتب في قوله بأن الغرب المسيحي يحتكر
العقلانية لنفسه ويخرج الإسلام من كونه عقلانيا، نعم إن هذه النظرة قد
أخطأ فيها الغرب المسيحي والملحد على السواء، غير أن الكاتب يخطئ أيضا
عندما يعتبر أن الإسلام يشترك مع غيره من الأديان في كونه مخالفاً للعقل
كما صرَّح بذلك من قبل!!
والكاتب المزوغي يقارن بين الفلسفة
اليونانية التي سادتها الوثنية أو عدم الابتناء على وحي الأنبياء وبين
الأديان التوحيدية كما يسميها، فيقول: إن الفلسفة اليونانية أثرت العقل
الإنساني بمختلف البحوث في الكون الإنسان والأخلاق والسياسة...الخ، أما
الأديان فلم تعطِ الإنسان إلا فكرة التوحيد، وهذه الفكرة ليس فيها غناء
للعقل البشري!! قال:" لقد ترك لنا فلاسفة اليونان بحوثاً علمية تشمل
تقريباً كل ما يحيط بالإنسان وتعمّ كلّ مجالات المعرفة النظرية
والعَمَلية: في السماء والعالم، في الطبيعة، في الكون والفساد، في
الحيوان، في النفس، في قوانين التفكير، في معايير العلوم (المنطق
والتحليلات) في الأخلاق، في السياسة، وهي ترِكَة لم تنضب روحها ولم تستنفذ
مواردها إلى يومنا هذا؛ لكن، في مقابل ذلك، عقلية الديانة التوحيدية لم
تترُك شيئاً يُغذّي الفضول الذهني ويحثّ الناس على الفحص النظري المتجرّد،
لأن الكون والطبيعة والإنسان هي أشياء لا تستحق عناء التفكير أو الالتفات
التأملي لها في ذاتها، نظرا لأنها عديمة القيمة أمام عظمة الإله وقدرته.
ليست
وحدانية الإله بالفكرة المُتميّزة والفذّة، بل هي تَخمين متناقض ولا يفضي
إلى الثورة النظرية التي عُزيَت إليه، بل إلى نسف الفكر العلمي والقضاء
على إرادة المعرفة بالكامل اهـ.

ولا يكتفي بأن يقول إن فكرة التوحيد ليست غنية، بل إنها متناقضة أيضا ومجرَّد تخمين يفضي إلى نسف الفكر العلمي...الخ.
وهو
يعتبر أرسطو عندما عرَّف الحركة بأنها استكمال ما بالقوة، فلم يذكر اسم
الإله في التعريف، فهذا يستلزم عنده عدم ابتناء فلسفة أرسطو على مفهوم
الإله مطلقاً، وأنه لم يعتبره قطُّ ولم يلتفت إليه، وهذا غير صحيح، فأرسطو
اعتبر الإله العلة الغائية التي يسعى إليها العالم، فهو المثل الأعلى
للعالم، وحركته التي يسعى فيها إنما يسعى إلى غايته، وهي الوصول إلى
كمالاته بحسب الغاية.
المزوغي وابن حزم: الله هو الذي جعل المحال محالاً!
ابن
حزم ظلمه العديد من الكتاب في هذا الزمان بقدر الظلم الذي ألحقه هو –رحمه
الله- بعلماء الإسلام الذين شنَّع عليهم بغير وجه حقٍّ، ولذلك ترى العديد
من الناس ينسبون إليه أموراً قد يقول بها وقد لا يقول بها، وهي قضايا
وأحكام لا يملك الواحد إلا أن يتبرأ منها.
ومن الأمثلة على ذلك ما
نسبه إليه الكاتب المزوغي حين قال حاكياً عن البابا بنديكت معلقا عليه:
[لقد قال بأن في « تعاليم الإسلام، الله مُطلق التعالي، وإرادتُه ليست
مرتبطة بأيٍّ من مقولاتنا، ولا حتى بمقولة العقلانية»، ثم استشهد
بالمُستشرق روجي أرنالدز (Roger Arnaldez)، الذي قرأ في كتاب ابن حزم بأن
الله غير مُلزَم بالوفاء بكلمته، ولا شيء يُرغمه على أن يكشف لنا
الحقيقة، ولو لم تسبق إرادة الله، لكان اعتناق الشرك أمراً جائزاً!
إن
أطروحة ابن حزم هذه معروفة في العالم الإسلامي، ومتداولة قبله بقرون، وهي
أطروحة المؤمنين في الملل الثلاث، فهُم يُعلون من شأن قدرة الإله على حساب
حِكمته، ولا يثبتون للعقل الإنساني مُحالاً يمكن سحبه على الإرادة
الإلهية، ذلك لأن العقل، كما يقول ابن حزم: « مخلوق محدث خلقه الله تعالى
بعد أن لم يكن. وإنما هو قوّة من قوى النفس، عرض محمول فيها أحدثه الله
تعالى، وأحدث رتبة على ما هي عليه، مختارا لذلك تعالى ». وخَلقُ الله
للعقل لم يكن قط على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه، بل هو محض
اختيار، دون غاية ملزمة. فكما أن الله « اختار أن يفعله، فإنه قادر على
ترك اختراعه، وقادر على اختراع غيره مثله، أو خلافه، ولا فرق بين قدرته
على بعض ذلك وبين قدرته على سائره». ولذلك فإن المحالات التي يدركها عقل
الإنسان ليست مطلقة ولكنها كذلك لأن الله قررها منذ أن خلق العقل، وقد
تكون ممكنة « في عالم له آخر »، كما يقول ابن حزم. فعلا، كل ما جعله الله
محالا في العقل، وأدركناه على أنه كذلك « فإنما كان محالا مذ جعله الله
محالا، وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك، فلو شاء الله ألاّ يجعله محالا
لما كان محالا ». أن يكون الله قادرا على المحالات الواقعية والخلف
المنطقي مثل أن يجعل شيئا موجودا معدوما معا في وقت واحد أو جسما في
مكانين أو جسمين في مكان واحد، أدى بابن حزم إلى تثبيت إمكانية الاعتقاد
المسيحي في بنوّة المسيح. فعلا، من يسأل: « هل الله قادر على أن يتخذ
ولدا؟ الجواب: أنه تعالى قادر على ذلك »، وما يُدعّم هذا الرأي أن الله «
نصّ على ذلك في القرآن. قال تعالى: ﴿ لو أراد أن يتّخِذَ ولدا لاصطفى ممّا
يَخلُق ما يَشاء سبحانه هو الله الواحد القهّار﴾.]اهـ
والحقيقة أن
المقولة التي يقولها ابن حزم في هذه المسألة لم يوافقه عليها جماهير الملل
والنحل الإسلامية، بل إن أكابر الفرق كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة وغيرهم
لم يوافقوا على هذه المقولة، فلا يجوز اعتبارها حكما معبرا عن العقل
الإسلامي كما اعتبره المزوغي، موافقا البابا الذي اعتمد عليها في التنقيص
من الفكر الإسلامي، وزاد على ذلك بأن قال للبابا إنكم أيها المسيحيون
تشاركون ابن حزم في هذه المقولة، فلا تنعوا بها على غيركم، يريد بهذا
القول أن يتوصل إلى هدفه الرائد وهو نفي جميع الأديان وإثبات تناقضها مع
العقل، عين المقولة التي بدأ بها.
والإنصاف في المحاكمة يستلزم منه
ومن البابا أن لا يعمم هذه المقولة التي صدرت من فم ابن حزم، على جميع
الفرق الإسلامية، ولا على جماهير الفرق الإسلامية، لأن هؤلاء جميعا
أنكرواعلى ابن حزم لما قال ذلك، ولم يوافقه إلا بعض الذين تعرضوا أيضا
للإنكار مثل ابن عربي الصوفي بناء على قوله بوحدة الوجود، واشتمال المظاهر
الإلهية على جميع الأشياء وحتى المتناقضات منها، ولا ريب في أن أقل
الدراسين قدرا لعلم الكلام الإسلامي يعلم تماماً أن هذه المقولة لم تلاقِ
قبولا عند علماء الإسلام الذين لا يُذكَر ابن حزم إذا ذكروا!
والتحقيق
أن أحكام العقل من حيث هي غير مجعولة، فليست الإرادة هي التي جعلت الواجب
واجبا، ولا الإرادة هي التي جعلت الممكن ممكنا، ولا الإرادة هي التي جعلت
المحال محالاً. فهذه الأحكام ذاتية للأمور وليست جعلية.
والعجيب أن
هؤلاء العلمانيين يلتقطون المسائل التقاطاً -كما ترى هنا- ويبنون عليها
أصولاً عظيمة كالتناقض بين الدين والعقل على سبيل الجملة، ولا يفرِّقُون
فيما إذا كان القائل بذلك شاذاً في قوله أو أنه قد وافقه عليه علماء
الإسلام!!
وهذا مخالف لطريق الإنصاف والبحث العلمي الموضوعي الذي
يتبجحون به دائماً على غيرهم، وهم أكثر الناس تخليا عنه عند محاولتهم
تحقيق أغراضهم!

ضرورة الأفعال وعلاقة ذلك بالعلم
يرجع
المزوغي باستمرار إلى الزعم بأنَّ العلم لا يمكن بناؤه إلا على الضرورة،
وبما أن أفعال الله تعالى لا تتصف بالضرورة ولا هي صادرة عن الوجوب السابق
للإرادة، على قول الأشاعرة، وقد وافقهم على ذلك الكثير من المسيحيين، فإن
المزوغي يكتفي بذلك ليقول إن الدين يخالف العقل، ويعتبر أن هذا هو الحكم
العقلي المحض الذي لا يمكن إعادة النظر فيه ولا يمكن إلا الجزم به، ويحتج
على ذلك بقول أرسطو وابن رشد الذي وافقه عليه( )، بأن الأحداث القائمة في
الكون ضرورية دائما، والضرورة التي يشترطها لابتناء العلم، لا يمكن أن
تتوافق مع الإرادة الإلهية الحرة التي تسير بلا هدف ولا غاية، أو سيرا
اعتباطيا كما يعبر أحيانا!
وقد بينا أن العلم لا يشترط فيه أن يكون
مبنياً على الضرورة، بل يكفي الدوام والاستمرار العادي لقيامه في حكم
الإنسان، أمَّا في حق الله تعالى فلا يشترط حتى الدوام؛ لأنه فاعل كل شيء،
فعلمه غير معلل بالضرورة، وأفعاله غير معللة بغاية ولا هي صادرة لسبب!
وهذا كله لا يتناقض مع العقل ولا العلم كما يتوهم الكاتب ومن معه!
وقد
أورد د. المزوغي حديثا حول هذا المعنى في مقالته التي حلل فيها أصول محمد
أركون ومنابعه الفكرية، فذكر ما خلاصته أن ابن رشد أوجب أن تكون الأمور
المتناسبة مع بعضها البعض، وأوجب عدم افتراق المتناسبات، كما أوجب عدم
جواز اجتماع المفترقات، وزعم ابن رشد أن هذا هو أساس السفسطة التي وقع
فيها ابن حزم ومن وافقه في نفي الأسباب الطبيعية والعلل المادية.
والحقيقة
أن العقل يفرق بين اجتماع المتخالفات، وبين اجتماع واطراد وجود
المتناسبات، فاجتماع المتخالفات يحيله العقل بلا خلاف بين العقلاء،
لاستلزامه الجمع بين المتضادين أو المتناقضين، وهذا باطل، وهو مخالف أيضا
لقانون الهوية.
أما لزوم اطراد المتناسبات، فإن الموجودات الخارجية
لا يلزم اطراد وجود شيء منها عند أو مع وجود غيره إلا إذا ثبت علية الأول
للثاني، أما مع عدم ثبوت هذا الأمر، أو مع عدم تسليمه، فلا يلزم أحدا
القولُ به! ونحن نعلم أن قانون علية الموجودات الخارجية من عالم الإمكان
لبعضها البعض محل نزاع عظيم بين العقلاء، ولا يصح لواحد من أحد الطرفين أن
يقول إن البداهة العقلية تستلزم أحد الحكمين دون الآخر، فيلزمه ذلك بادعاء
تناقض الخصم مع البداهة العقلية ومن ثمَّ لزوم السفسطة له، كما فعل ابن
رشد مع الأشاعرة وكما يفعل من قلَّده في ذلك المنحى!
وقد بينا سابقا أن
هناك فرقا بين ضرورة وجود شيء في نفسه، بمعنى أن تكون الضرورة نابعة من
ذاته، وبين أن تكون الضرورة تابعة لوجوده على هيئة معينة وعلى صورة محددة،
فإن العقل لا يدَّعي بداهة وجود شيء من الموجودات بالضرورة المطلقة، لكنه
يسلم أن الأمر إن وجد على نحو من الأنحاء في الخارج، فإن ظرف الوجود
الخارجي لا يمكنه أن يتقبل التناقض أو التضاد الواقع فيه، ولذلك فإن العقل
يبطل التناقض في الخارج، ولكن ذلك لا يستلزم عنده القول بضرورة وجود موجود
ممكن في الخارج إذا وجد موجود ممكن آخر، لأنه قد يخالف في ضرورة العلية
المزعومة بينهما أو حتى تحققها.
ولذلك فإنا نرى أن الموقف العقلي
الفلسفي لا يجوز له أن يناقض موقف من قال من الأشاعرة وغيرهم بعدم وجود
الأسباب الخارجية في حيز المخلوقات العالم، وإحالة ذلك كله إلى فاعل واحد
يفعل على نمط مختار عنده دون غيره من الأنماط الممكنة، ولا ضرورة تدفعه
إلى ذلك الفعل.
وأما زعمه أن العلم متوقف على وجود الضرورة المطلقة،
فلا، بل يكفي فيه وجود الضرورة بقيد وجود الموضوع كما بيناه سابقا، بل
يكفي فيه اطراد الموجود الخارجي على نمط معين، فيمكن أن يتوصل إلى العلم
عن طريق الاستقراء التام أو غير التام، فيكون قطعيا في الحالة الأولى
وظنياً في الثانية، وكلاهما علم يمكن بناء العمل النافع عليه في الخارج،
وليس واحد منهما متوقفا على الضرورة الذاتية. كما أن العلوم العملية يكفي
فيها الظن، ولا يشترط بناؤها على القطع.
نعم إن أمكن إثبات وجود ضرورة
مطلقاً خارجية بين موجودين اثنين، فهذا قد يكون سببا لعلم قاطع تماماً،
ولكن حتى يثبت ذلك النوع من الضرورة نتكلم عليه.
وأما موضوع الحسن
والقبح الثابتين لذاتهما في الخارج، فهذا فرع إثبات الضرورة للوجودات
الممكنة الخارجية، أي أجزاء العالم، أو أصل العالم، وهذا لا يثبت مطلقاً.
وقد
يتوهم بعض النظار أن هذا فرع للنظرة العقلية في نفسها، كما توهم المعتزلة،
وغيرهم ممن يقول بذلك، ولكن هذا لا يثبت على محك النظر، ولم نرَ دليلاً
أتى به الكاتب على ذلك.
وأما مبادئ الأخلاق واستلزام نسفها إن لم نقل
بالضرورة الذاتية تلك، فهذا أمر غير مسلَّم، بل لا يمكن تسليمه إلا إذا
أثبت الخصمُ ثبوت ما سماه الكاتب بـ"الأفكار الكلية المجرّدة، أو المُثل،
هي كيانات ذات قِوام ثابت وأنها تحمِل دلالات ومَعانٍ خالدة"، فهل يوجد
دليل قاطع على أن هذه المثل العليا ثابتة على سبيل الضرورة المطلقة، أو
حتَّى الذاتية بشرط الموضوع، كيف يمكن أن يثبت الكاتب وغيره أن الأخلاق
والقيم لها وجود خارجي متشخص بحيث يلزمنا أن نؤيده في دعواه بأن إنكارها
يستلزم انهيار النظم الأخلاقية؟!
وإن ثبتت في أصلها فما الذي يجعلنا
نسلم للكاتب أن كل حكم جزئي فهو ثابت على الكيفية التي يقترحها القائلون
بذلك، يعني لو سلمنا ثبوت أصل فكرة الحسن والقبح العقليين، فما الذي
يستلزم التسليم بكل حكم جزئيٍّ من تلك الأحكام التي يدعيها الخصوم.
وبعبارة
أخرى هل يوجد لدينا من الإمكانيات النظرية ما يؤهلنا للقطع بموجب العقل
وحدَه بالأحكام الجزئية لما يُزعَمُ أن أصوله ثابتة عقلاً!
لا أعتقد
أحدا يستطيع إثبات العلل العقلية التامة الظاهرة لكل تلك الأحكام الجزئية،
ولذلك فإن المآل للترجيح فيها إما التحكم المحض أو العادة البشرية
والتواضع على نحو معين، وهو ما لجأ إليه أصحاب التقنينات الديمقراطية من
لزوم الرجوع إلى التصويت على الأحكام الجزئية، ولو وجدوا ضابطا عقلياً
تاما يقيم الحجة الظاهرة على الناس لما جاز لهم أن يتركوه.
إذن المسألة
ليست مسألة سهلة ولا هي ظاهرة كلَّ الظهور كما -يبدو لي أن الكاتب
المزوغي- يتوهمها، ولذلك يسارع باتهام المخالفين بالسفسطة وتهديم النظام
الأخلاقي! يتبع في ذلك ابن رشد!
وبذلك يتبين أن ما يسارع الكاتب إلى تسميته بالاعتباط الإلهي، لا يملك دليلا عليه قطُّ، بل حكمه هذا اعتباط بشري محض!

ملاحظة:
لا
بدَّ من أن نقول هنا إن المعتزلة والشيعة ومن تبعهم قد اقتربوا كثيرا إلى
مذهب الفلاسفة في هذه المسألة عندما اعتبروا التحسين والتقبيح العقليين،
وربما لذلك لم يلتفت إليهم المزوغي في كلامه على هذه المسألة، لم يلتفت
إليهم من جهة أنهم كيف قالوا بهذه الأقوال التي يعتقد هو أنها مخالفة
لجوهر الدين، مع أنه كان ينبغي أن يتكلم عن موقفهم وكان عليه أن يفسر
تماما كيف أمكن لهم أن يقولوا بذلك مع إيمانهم بالإله الواحد! ولكنه تجاهل
ذلك كله....! واكتفى فيما بعدُ بالإشارة إلى أن ابن حزم قد أورد أقوال
المعتزلة بكل إنصاف، ولكن المزوغي لم يشتغل بتفسير كيف قال المعتزلة هذه
المقولات وهم مستمرون على الإيمان بالله تعالى والنبوة المحمدية، ومن أكبر
المنافحين عنها، والحال أنه يعتبرها مناقضة لأصل التدين! لم يشتغل بتفسير
ذلك مطلقا مع لزومه له كما لا يخفى( )!
ولعله يتوهم أن من يقول
بالإرادة الإلهية الحرة( )، فإن ذلك يستلزم عنده نفي الوجود الواقعي
للعالم، وكم يذكرني ذلك الادعاء بدعوى الشيوعيين الماركسيين قديما أن
الأديان كلها مثالية أي لا تؤمن بالوجود الموضوعي الخارجي! وهذه دعوى
ساذجة كما لا يخفى.
ولذلك فهو يقول:" المفهوم المجرّد لا وجود له إلاّ
في الأذهان وهو كلمة مُقالة أو مكتوبة. وهذا المنحى المعرفي يقف عند حدّ
المعطيات الحسية الفردية: العقل الإنساني لا يعرف إلاّ الأعيان المشخصة
ولا يدرك إلاّ الظواهر الخارجية التي تستنفذ جميع مداركنا العقلية. أمّا
الكيانات الغيبية فالعقل غير قادر على البرهنة على وجودها والتحقّق منها:
مفاهيم الخير والشرّ، الحقيقة والخطأ ليست لها قيمة ثابتة، ولا تفرض
نفسها، بما هي كذلك، على العقل البشري، لأنها أمور جائزة، والله قادر على
تبديلها حسب إرادته الحرة. وهذا يتعارض مع آراء فلاسفة الإسلام من
الأرسطيين الذين اعتبروا تلك الكيانات لها وجود واقعي في العقل الإلهي وهو
الضامن لوجودها، ولا يمكن أن تفسد إلاّ إذا فسدت الذات الإلهية، وهذا
محال. وطبقا لهذه النظرة الواقعية يغدو نظام العالم مُصاناً من الاعتباط
لأن هناك مُثلاً خالدة يجب على الله أن يحترمها في إنشائه للعالم. الله
حرّ، لكن حريته ليست دون قواعد، والوجود مُنَظم في بنيته الداخلية ومقنن
بحيث يمكن دراسة الموجودات ومعرفة قوانينها. لكن أصحاب الإرادة من
اللاهوتيين المسلمين والمسيحيين برفضهم الكلي والمفهوم المجرّد، وبتعليقهم
كلّ شيء بإرادة إلهية حرة مَطَّطوا من مجال الإمكان لكي يشمل كل الكائنات
حتى تلك التي اكتملت وتشخّصت بالمادّة المشار إليها (materia signata)،
والفعل الإلهي أصبح فاقدا للضرورة وبالتالي غير خاضع لأي منطق عقلاني."اهـ
والكاتب
المزوغي أخطأ كثيرا في هذه المغامرة عندما لم يلتفت إلى ما قلناه سابقا من
أن الضرورة حاصلة بملاحظة وجود الموضوع، لكن لا شيء يفرض بقاءه، فأصل
بقائه ممكن، ولكنه ما دام باقيا فهناك ضرورة تتمثل في أن الشيء هو هو،
ويستحيل أن يكون غيره، ومن هنا تنشأ النظرة العلمية والجزم القاطع الذي
نراه عند المتكلمين من الأشاعرة ومن وافقهم، وإن لم يقولوا بالتحسين
والتقبيح العقليين!
وفرق بين الوجوب بفرض وجود الموضوع، وبين وجوب وجود
الموضوع نفسه، فالثاني هو الوجوب المطلق أو الضرورة المطلقة، والأول هو
الضرورة بشرط الموضوع. وقد فرَّق مناطقة الإسلام بينهما كما هو معلوم، مع
أنه كما يبدوا لنا أن الدكتور المزوغي لا يعلم شيئاً من ذلك.
ولذلك
تراه دائماً يفاخر بأن النظرة العلمية التامة لا يمكن أن تحصل إلا على يد
أرسطو ومن تبعه كابن رشد وابن سينا في مقولة الوجوب الذاتي، أما المتكلمون
الذين مشوا على إثبات الإرادة الحرة، فيستحيل بناء نظرة علمية على مذهبهم.
ولا
شيء في العقل يمكن أن يثبت الوجوب على الإله، وكل ما يقال في صدد إثبات
ذلك فإنما هو هواء، وأما كلام المزوغي هنا واستشهاده بكلام الغزالي في
جواز إيلام الحيوان البريء ولا يلزمه ثواب ولا تعويض، فلا تناقض في هذه
المقولة مع ما يقرره العقل كما نراه، ولذلك فإنا عندما نفينا مقولة
التحسين والتقبيح العقليين نفيناهما بالعقل نفسه، ولذلك اعتبر علماء
الأشاعرة نفي التحسن والتقبيح العقليين أصلا من الأصول التي لا يجوز
إهمالها، وذلك لكثرة ما ينشأ عن هذا الأصل من مفاسد إذا أهمل.
ويشرع
الكاتب باستحضار ألفاظ وعبارات من المواقف للعضد وكتب الآمدي في علم
الكلام ونحوهم، فيقتطع منها عبارات أوردها هؤلاء الأعلام وردوا عليها،
وذلك في مقام الاستدلال على عموم إرادة الله تعالى لكل موجود، ولكن الكاتب
يفضل ألا يشير إلى الردود جميعها بل يقتصر على ما يوهم عدم تمامه، ويبالغ
في إظهار وجود الإشكال، ومنها أنه زعم أن ذلك يستلزم الرضا بالكفر لأنه
مراد لله تعالى وقضاء الله تعالى ويجب الرضا به، ويهمل قصدا ذكر التفريق
بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، فاللازم إنما هو الرضا بالقضاء لا
بالمقضي، والمقضي هو حصول الكفر في العبد، أي صيرورة العبد كافرا، وهذه
الجهة لا يجوز الرضا بها، لأنها هي التي تستلزم الرضا بالكفر، بخلاف كون
الله تعالى فاعلا للكفر أصلا. ويهمل الكاتب أيضا التفريق بين الإرادة
والأمر، كما فرَّق بينهما الأشاعرة فقالوا بأنه يمكن إرادة إيجاد الكفر مع
عدم الأمر به، ولا الرضا به، بل مع النهي عنه، فالرضا مأخوذ من الأمر لا
من مجرد إرادة إيجاد الشيء!
والذي نوافق الكاتب عليه مما قاله هو:" أما
زعم البابا بأن الإله المسيحي يتصرّف بعقلانية توافق عقلانية الإنسان
(الغربي)، على خلاف الإله الإسلامي الذي يخرق قوانين الطبيعة ولا يَحتَرم
حتى إرادته، فإن هذا الاعتراض يُلزِم كلّ الملل( ) بما فيها اليهود
والمسيحيّين كما بيّنت سابقا. ولا ينجو منه حتى الفلاسفة الغربيين
المحدثين، لقد قال ديكارت بأن الله لا يمكن أن يخدع الإنسان أو يُضلّه،
وجعل من هذه الفكرة أساس يقينياته العلمية، ولكن اعتُرض عليه بأن هناك مِن
السكولاستيّين، مثل غريغوريو دي ريمني (Gregorio di Rimini) وغابريال بيل
(Gabriel Biel) وغيرهم، مِمّن يَرون أن الله يكذب على وجه الإطلاق (que
Dieu ment absolument parlant)، أي أنه: « يقول شيئا للناس ضد مقاصده،
وضدّ ما قَرَّرَه وسَنَّه، مثلا، عندما قال، دون أن يضيف أي شرط، لأهل
نينوى على لسان نبيّه بأنها ستُهلك بعد أربعين يوما، وعندما قال أيضا
أشياء أخرى لم تَتحقق ». طبقا لأقوال الكتب المقدسة، وإذا علمنا بأن الله
ذاته هو الذي قسّى وأعمى قلب فرعون، وألهَم الأنبياء روح الكذب، السؤال
الملحّ الذي يطرحه كاتب الاعتراض الثاني على ديكارت هو الآتي: « كيف
تستطيعون أن تقولوا بأننا لا يمكن أن نكون عرضة لخداعه؟"اهـ
يعني إذا
صحَّ للبابا أن يلزم المسلمين بأن الإله الحر الإرادة يستلزم تجويز خرق
قوانين الطبيعة، فهذا يلزم حتى المسيحيين أنفسهم بل حتى يلزم الفلاسفة
القائلين بذلك. وبهذا يبطل ما زعمه البابا من أن الغربي هو الوحيد الذي
يكون اعتقاده عقلانيا تاما.
ولكنا نستدرك هنا فنقول: إن قوانين
الطبيعة ليست هي المعيار للعقلانية، ونحن لا نقول بأن ما خالف قوانين
الطبيعة فهو مخالف للقوانين العقلية، لأن قوانين الطبيعة أي الصورة التي
أوجد عليها العالم هي صورة وضعية تابعة للإرادة والقصد الإلهي، وليست
ناشئة من نفسه ولا لسبق وجوب استلزم ذلك كما يزعم الفلاسفة.
وأيضاً
فإنا نقول: إن الكذب على الله تعالى محال، لأن كلام الله تعالى وما دلَّ
عليه موافق لعلمه تعالى، ولو جوزنا الكذب عليه لجوزنا الجهل، وهذا باطل
فيبطل الفرض. فكلام الله تعالى يتعلق بالأمور على ما يتعلق بها العلم،
والعلم مطابق للأمر في نفسه، فكذلك الكلام يدلُّ على ما كشفه العلم.
وأما
قدرة الله تعالى على الظلم التي يقول بها بعض المتكلمين كالمعتزلة وبعض
الحشوية، ويتعلق بهم هؤلاء العلمانية والملحدة، فإنما هو حكم يستبطن
الإيجاب على الله تعالى، ويستبطن كون أفعال الله تعالى تابعة لأحكام سابقة
على إرادته، ويستبطن استحقاق الأشياء لأحكام قبل وجودها، وغير ذلك، وهذا
كله غير مبرهن عليه ولا نسلمه لهم، فلا يمكنهم والأمر كذلك أن يقولوا
بإمكان الظلم على الله تعالى، حتى يستلزموا إمكان كونه شريرا أو ظالما!
والفاعل
بلا سبق وجوب ولا سبق حكم عليه لا يمكن أن يكون ظالما، لأن مالك كل شيء هو
المتصرف بذلك، ولا شيء يلزمه على التصرف بما يملك على وجه دون آخر.
وعارض
المزوغي من قال من المسيحيين بأن الفكر المسيحي متوافق مع العقلانية تماما
بخلاف الإسلام، بأن قدماء الفلاسفة الحذاق الذين فهموا حقيقة الديانة
المسيحية واليهودية عارضوها من جهة قدرة الإله على التصرف التام بالكون،
فاستحضر نصا لجالينوس( ) يقول فيه معترضا على ما يسميه بالاعتباط الإلهي:"
لا يُمكن لله، حتى وإن أراد ذلك، أن يُنشِىء، في الحين، مِن حَجر إنسانا
ما. هذا ما يُفرّق بين تعاليم موسى وتعاليمِنا نحن، تعاليم أفلاطون
واليونان الذين فحصوا بصواب في الطبيعة. بالنسبة لموسى يَكفي أن يُريد
الإله إعطاء نظام للطبيعة حتى تستجيب هذه مباشرة؛ فهو يعتقد أن كلّ شيء
ممكن عند الإله حتى إن أراد صنع حصان أو ثور من التراب. نحن لسنا من هذا
الرأي، لكننا نقول بأنها توجد أشياء مستحيلة بالطبع ولا يمكن للإله حتى
الاقتراب منها، لكن بين الأشياء الممكنة يختار الأفضل"اهـ.
وقارن ذلك
بما قاله ابن رشد الفيلسوف:" وأمّا أن الأمور ليست كلّها ممكنة فظاهر
جدّا: فإنه ليس يمكن أن يكون الفاسد أزليّا ولا يمكن أن يكون الأزلي فاسدا
كما أنه ليس يمكن في المثلّث أن تعود زواياه مساوية لأربع قوائم ولا في
الألوان أن تعود مسموعات، والقول بهذا ضارّ في العلوم الإنسانية جدّا."اهـ
ومع
أنا لسنا من محبي ابن رشد الحفيد الفيلسوف، ولا من أنصار المسيحية، إلا
أنا نقول إن في استشهاد الكاتب بهذين النصين نظراً، فأما كلام جالينوس،
فإن قصد أن الله تعالى لا يقدر على خلق شيء حي من شيء غير حيٍّ، فهذا
باطل، وهو مبطل لأصل وجود الإله، فلا يلزمنا إذن ما اعتقده جالينوس بناء
على تصوراته الخاصة، ولا يلزم المسيحية ولا اليه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم :: تعاليق

سميح القاسم
رد: الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم
مُساهمة الأربعاء ديسمبر 30, 2009 9:16 am من طرف سميح القاسم
نمط من النقص والألم (وهو العالم الآخر الباقي).
ولو عرضنا كلا من
هذين التصورين لما استطاع واحد يحكم بمقتضى عقله أن يقول إن الموافق
لمقتضى عقله إنما هو الاحتمال المادي كما يقرر هؤلاء !
وبناء على ما
قررناه، فلا يحق لواحد أن يقول إن الاختيار المعقول والأكثر علمية إنما هو
الاختيار المادي! بل هذا مجرد مصادرة على المطلوب.
وإنما وقع هؤلا
 

الإسلام والعقل، والتناقض المزعوم

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: