مزح هو روح الجد) لذلك كان المزاح الذي جرى بين وزراء الخارجية العرب في
لجنة المبادرة العربية معنى يكشف جوهر مواقف هؤلاء المسؤولين.
وتفاصيل
هذا المزاح هي كما يلي:
محمود عباس وبلهجة ساخرة يقول للمجتمعين: إذا
رفضتم التفاوض مع اسرائيل، وقررتم الحرب فسأكون معكم أول المحاربين.
ومباشرة
تلقف وزير الخارجية القطري مزاح عباس ورد عليه بنفس اللهجة: نحن نحارب
بالفلوس يا أبو مازن...
فما كان من وزير الخارجية المصري إلا أن عقب
بمزحة واضحة: لا يحارب إلا من لم يوقع على معاهدة سلام.
وإضافة للمزاح
الرسمي عالي المستوى هذا فإن الصحف العربية نشرت صورا للأمين العام لجامعة
الدول العربية وهو يكاد يقلب على قفاه وهو يضحك.
هذا المزاح والضحك ربما
يكشف جانباً جوهرياً من اهتمام الوزراء العرب بحال أمتهم، وبما تتعرض له
حقوق العرب والمسلمين على يد اسرائيل التي ما زالت تحاصر غزة، وتهود القدس
وتضم الحرم الابراهيمي ومسجد بلال إلى التراث اليهودي.
لجنة المبادرة
العربية، والروح الرياضية الضاحكة والمازحة لبعض وزراء الخارجية العرب هي
بمقابل تحضير الاسرائيليين للاحتفال بما يسمونه (اليوم العالمي لبناء
الهيكل الثالث).
حيث أن تل أبيب ستفتتح (كنيس الخراب) في الخامس عشر من
الشهر الجاري (آذار) وهو أكبر كنيس منذ الهيكل الثاني وقد بني هذا الكنيس
على بعد أمتار من الجدار الغربي للمسجد الأقصى.
وقررت اسرائيل أن يكون
الاحتفال بافتتاح كنيس الخراب مناسبة لاعلان نواياها ضد المسجد الأقصى حيث
سيعتبر هذا اليوم 16 آذار (اليوم العالمي لبناء الهيكل الثالث) على حساب
المسجد الأقصى.
وهكذا فإن اسرائيل ضمت قبل أيام الحرم الابراهيمي ومسجد
بلال إلى التراث اليهودي وهكذا فإن اسرائيل ستفتتح كنيس الخراب الذي أقيم
على أرض تابعة للمسجد الأقصى بعد أيام، وستعلن اليوم العالمي لبناء الهيكل
الثالث (الذي سيهدم المسجد الأقصى)...هكذا تفعل اسرائيل بكل جد...بينما
وزراء الخارجية العرب في لجنة المبادرة يتمازحون حول القضية الفلسطينية؛
وعلى الأمة أن تفرح بمسؤوليها الذين يواجهون الجد الاسرائيلي العدواني
بمزاح يكشف مدى التزامهم بحقوق أمتهم ودينهم ومقدساتهم...(نيال العرب على
هيك مسؤولين).
ومن يدقق بطريقة الأمين العام للجامعة العربية في قراءته
للبيان الصادر عن لجنة المتابعة سيجد أنها قراءة تمثيلية يمكن اعتبارها
طريقة تكشف كم المزاح في هذا البيان خاصة عندما شدد عمرو موسى على أن (هذه
هي الفرصة الأخيرة التي يعطيها العرب لاسرائيل) وكرر موسى الجملة دون أن
يضحك (هذه هي الفرصة الأخيرة...).
ومن يتابع ما جاء في البيان الصادر عن
لجنة المبادرة يحس بطريقة واضحة ان البيان حفل بمتناقضات تستخف بعقول
العرب، لأنه وبناء على مقدمات تؤكد استهتار اسرائيل بالسلام وبالمطالب
الدولية لتحقيق السلام وبعد ان حفلت مقدمات البيان بما تقوم به اسرائيل من
استيطان وتهديد للقدس والحصار على غزة، بعد هذه المقدمات، فإن البيان (وحسب
منهجية بناء النكتة أو المزحة) ينتقل لنقيض هذه المقدمات، أي بعد أن كانت
المقدمات تقود منطقياً لرفض التفاوض مع اسرائيل، يخلص البيان إلى قبول
التفاوض غير المباشر مع اسرائيل-بحجة أن لا ندير ظهرنا للرئيس أوباما- الذي
أدارت اسرائيل ظهرها له بوقاحة.
ومن المفروض على العاقل أن لا يمزح في
موضع الجد، وإن فعل فلا بد أن مداركه قد ابتعدت عن العقل إلى ما ينافيه، في
هذا الإطار فإن عمرو موسى قام بقراءة لجنة المبادرة (المزحة) في بداية
اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، وقاطعه الوزير السوري وليد المعلم ليرفض
المفاوضات مع اسرائيل دون مرجعية ولا ضمانات...وقد أكد الوزير السوري أن
اسرائيل تستغل الأوضاع (والمفاوضات) لتصفية القضية الفلسطينية، لذلك فإن
المعلم دعا إلى موقف عربي حاسم...وبعد أن أنهى المعلم مطالبته بموقف حاسم،
وبدل أن يبحث الأمين العام بما قاله الوزير المعلم حول (الموقف الحاسم)
تجاه اسرائيل، بدل ذلك، (وعلى نهج المزاح)، تابع عمرو موسى تلاوة البيان
ليعطي لمحمود عباس غطاءً عربياً ليتخلى عن شروطه للتفاوض بوقف الاستيطان
والاعتراف بحدود 4 حزيران (يونيو).
إن الجدية التي طرح فيها الوزير
المعلم مخاطر الانخراط العربي في (تصفية القضية) لم تؤثر في بقية الوزراء
العرب الذين مرروا موافقتهم لمحمود عباس لإجراء المفاوضات غير المباشرة مع
اسرائيل..وفي تصريح للمستشارة الإعلامية والسياسية د. بثينة شعبان أكدت
فيها رفض سورية لقرار لجنة المبادرة لأنها غير مخولة بمثل هذه القرارات،
ولأن هذا القرار والعودة إلى التفاوض مع اسرائيل يساعد اسرائيل على تبييض
وجهها والتغطية على جرائمها في غزة وفي اغتيال المبحوح.
وبالفعل وعوضاً
عن أن يذهب وزراء المبادرة العربية لإتخاذ موقف جدي من ممارسات اسرائيل
سواء منها اغتيال المبحوح أو حصار غزة أو تهويد القدس أو ضم الحرم
الابراهيمي للتراث اليهودي، بدلاً من هذا الموقف الجدي ذهب العرب لإعطاء
اسرائيل فرصة أخرى، ولينقذوها من تبعات تقرير غولدستون وفضيحتها في اغتيال
المبحوح في دبي.
إن هذه المفاوضات هي مطلب أمريكا، فقد نقلت (رويترز)
يوم 28/2/2010 عن مسؤولين امريكيين أن الإدارة الأمريكية تأمل أن تقوم
الدول العربية بتأييد محمود عباس ليقوم بالتفاوض مع اسرائيل، وأكد هؤلاء
المسؤولون الأمريكيون (حسب رويترز) أن القمة العربية ستنجز اقناع محمود
عباس بالعودة للتفاوض دون شروط، وستعطيه الغطاء العربي اللازم.
وهناك من
يقول أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون هي من دفعت الوزراء
العرب الموالين لواشنطن ليتخذوا قرار العودة للتفاوض غير المباشر مع
اسرائيل، والدليل على أن كلينتون هي من دفعت إلى هذا القرار مسارعتها إلى
شكر لجنة المبادرة العربية، وكأنها كانت تنتظر عند الباب لتعلن تأييدها،
ويبدو أن كلينتون فاعلة ومؤثرة حتى داخل لجنة المبادرة وطبعاً لمصلحة
اسرائيل...
وحول موضوع إعطاء اسرائيل فرصة أخيرة، جاء رد نتيناهو
سريعاً، حيث قال بعد وقت قصير من صدور قرار لجنة المبادرة، قال في الكنيست
(إن العالم كله بات يعرف أن الحكومة الاسرائيلية تسعى للسلام، بينما يعرقل
الفلسطينيون المفاوضات بوضع شروط ومطالب لم يطالبوا بها من قبل..).
ببساطة
العرب يعطون نتنياهو فرصة اخرى، وهو يتهم الفلسطينيين بعرقلة التفاوض
وعرقلة السلام، ألا يدل كلام نتنياهو على نتيجة الفرصة التي أعطاها العرب
له.
هيلاري كلينتون سارعت بدفع عربها في لجنة المبادرة لإتخاذ قرار
العودة للتفاوض مع اسرائيل كرد على قمة دمشق والتي شارك فيها إضافة للرئيس
الأسد الرئيس الايراني أحمدي نجاد، والسيد حسن نصر الله، وخالد مشعل.
كلينتون
عمدت لإطلاق المفاوضات غير المباشرة (لأربعة أشهر) لتشعر العالم والعرب
بان عملية السلام تسير بشكل جيد وبما أن العملية السلمية مستمرة فإن
اسرائيل في طرقها إلى السلام مع العرب... أي أنه لم يبق من عدو للعرب إلا
ايران.
وفكرة المفاوضات من أجل السلام (بدل السلام)، هي ما طرحه الوزير
السعودي سعود الفيصل على كلينتون عندما زارت الرياض، وكانت وجهة نظر الفيصل
أن العقوبات ضد ايران عملية طويلة، والأفضل منها تفعيل عملية السلام مع
اسرائيل، لأن هذه العملية تهيىء بيئة المنطقة (البلاد العربية) لمواجهة خطر
البرنامج النووي الايراني بشكل أفضل وأكثر جدوى.
وهناك من يرى المدة
التي حددها قرار لجنة المبادرة العربية والمحددة بأربعة أشهر هي لإفساح
المجال لعملية ما ضد ايران أو ضد حزب الله أو ربما ضد سورية أي أن قرار
لجنة المبادرة هو مساهمة من بعض العرب في مواجهة ايران وخطرها.
وما يؤيد
هذا التفسير هو قيام سعود الفيصل بالتوجه إلى الصين بعد اجتماعات لجنة
المبادرة مباشرة، بهدف اقناع بكين بتأييد الإجراءات ضد ايران، وسيعمد
الفيصل إلى عرض بيع النفط السعودي للصين بأسعار مخفضة كشكل من أشكال
الترغيب للمساهمة في الجهود الأمريكية ضد طهران.
إن بيع السعودية نفطها
للصين بأسعار مخفضة هو شكل من أشكال الحرب بالفلوس كما قال رئيس وزراء قطر
في ممازحته لمحمود عباس، الذي ظل يمازح الوزراء العرب في موضوع الحرب ولم
يتخل عن المزاح إلا عندما سمع من الوزير المعلم أن قرار استئناف المفاوضات
مع اسرائيل هو قرار الفلسطينييين، حيث كان رد عباس (إذا كان هذه قرار
الفلسطينيين فلا تتدخلوا بشؤوننا...).
وهذا يعني أن محمود عباس لا يريد
من سورية أن تتدخل في شؤونه، (لأن سورية تطالب بالتمسك بالحقوق وبمقاومة
المخاطر الصهيونية) ويريد أن تبقى القضية الفلسطينية حقاً حصرياً للتوجيه
المصري السعودي، الذي يشكل له الغطاء اللازم لمسايرة الإدارة الأمريكية
ويظن محمود عباس أن الغطاء المصري السعودي يعطيه شرعية بدل شرعيته التي
انتهت منذ أكثر من عام.
ولكن نسي عباس أنه يطلب الشرعية ممن فقد شرعيته
عندما أغلق المعابر على غزة وحارب المقاومة واعتبرها مغامرة غير محسوبة.
إن
تصفية القضية الفلسطينية هي جوهر ما يجري، وبين مزاح الوزراء العرب وهذرهم
في التعاطي مع القضية وبين جدية نتنياهو والصهاينة للقضاء على فلسطين،
يتحقق هدف سياسات الإدارة الأمريكية والحكومة الاسرائيلية بإنهاء القضية
الفلسطينية.
وكل ذلك يتحقق للأسف عبر خفة ظل ومزاح الوزراء العرب، وعبر
جدية نتنياهو العدوانية، وكلاهما مزاح الوزراء العرب وجدية نتنياهو
الصهيوني كلاهما عدوان وقح.
كاتب واعلامي من سورية