لم
تكن تكفي تسمية مغارة جعيتا، عجيبة من عجائب الدنيا السبع، ولم نكن لنوكل
إليها بالطبع أن تحسم في عجائبية لبنان. نحتاج الى تاريخ من العجائب لنفكر
في وطن سليم معافى لكل أبنائه. سقطت جعيتا في الإمتحان لكن تاريخ العجائب
في لبنان ليس عجيباً،إنه طريقة عيش بالرغم من أنف ألف عجيبة تُعيق هذا
العيش، وتجعل للقهر فيه تعريفاً ومعايير وظروفاً وتسلسلاً.
القهر في
لبنان يعمل خفية وعلناً في أكثر من مرفق حياتي ووجودي، وهو يغدو أكثر
فأكــــثر عصياً على التعريف والإنضباط، ولم تكن تسمية جعيتا 'عجيبة'
بقادرة على التخفيف من هذا القهر فهو موروث وبالغ القدم وملتبس حتى على
اللبنانيين أنفسهم.
قهر يعمل في الأجساد وفي العقول والنفوس، بل يجّر إليه بلداً برمّته.
الأرجح
ان 'العجيبة' التي تناسب اللبنانيين هي حاصلة، وممتّدة من الما قبل، من
إكتشاف الصباغ الأرجواني والأبجدية والدلعونا وغابات الأرز والدبكة
والمناقيش والبحر والجبل والتبولة والغطرسة الفارغة، وربما ما قبل أيّ شيء
في الكون.
زمن العجائب عندنا ليس الفرادة ولا التسلسل والمدى، إنه
الإيقاع الغرائبي الذي درجنا عليه، إيقاع التقاتل الطائفي بحجة الذود عن
الخصوصيات والكيانات (بلد صغير قدّ الكف) والديانات التي وجدت في لبنان
وطناً طبيعياً لها وحاضناً، وصنعها على أرضه من ولدوا فيه ومن لم يولدوا،
ومن يراشقون من خارجه ومن آخر العالم.
يمكننا تعداد عجائب كثيرة في
هذا البلد، امكن لها أن تتسيّد مشهده الحياتي وطريقة عيشه، وان تتجاوز
حاضره الى نذر عجائب مستقبلية. لبنان ومنذ زمن طويل، مختبر للعجائب، فهذه
جميعها وجدت على أرضه فرصة لتتبلور وتتجاوز الى ما هو أغرب وأدهى. مختبر
لعجائب تلاقت في هذا البلد الصغير وتعملقت، وفي وسعنا القول ان عجائب
العالم برمّتها هي جماع عجائبنا نحن وفرادتنا نحن. وسواء فازت غابة
الأمازون البرازيلية غاباتنا أحلى، أو جزيرة جوجو الكورية فجزرنا أحلى
وأحلى أو جبل الطاولة الجنوب أفريقي فجبالنا وحدها الأبهى وبوسعنا قلب
الطاولة متى شئنا والذود عن فتنتنا وجمال ناسنا وطبيعتنا. عجائب العالم
بحسبنا، جذرها لبناني صرف، ونوع من تفرعات وبلورة للعجيبة الآخذة ببلدنا.
ماذا لو غدت جعيتا عجيبة من عجائب العالم السبع؟ وماذا لو لم تنجح (كما
حصل فعلاً) في الترتيب العالمي لتعداد الجمال الرباني الطبيعي؟ الفرز شائك
وعسير!
جعيتا لبنانية ولن تتعذّب كثيراً بهويتها، وهي هوية أغنت الهوس
الطقسي اللبناني الذي شغل العام بتنوّعه من هوس التفرّد والتواصل مع
'الأنا' الى حدّ إضاعة حظوظ الوراثة وملأتها بالإنقطاعات، وكان من الصعب
بالطبع في الشأن الطائفي، إيجاد سلالات صافية، لا يشوبها التداخل. أمّا
التقاتل فكان عليه أن يطلّ برأسه، وبشراسة من 'العجيبة' الشاملة التي هي
فلسفة ولغة متكاملتان، أن يخرج من التشخيص الوطني الذي جعل الفرد اللبناني
إعلاءً لأنا تولد من نفسها، أو تدّمر بلدها في نفسها، وفي كل الأحوال تحوي
العالم والأصل.
في التقاتل اللبناني تلك الإستبدالية لجماعة منفية تجعل
التقاتل خطاباً سلوكياً كاملاً، من التعالي على الآخر، وعلى الخارج، وعلى
الذات والحياة المباشرة.
أن تُسمّى جعيتا عجيبة من عجائب العالم السبع،
أو تسقط في الإمتحان كما حصل (وهي في الحقيقة عجيبة فعلية، رائعة وليس
بوسعك سوى الخشوع في حضرتها والنظر بتبجيل الى عمل الطبيعة) فهذا بالطبع
شاغلاً لا يُشبع بعضا من اللبنانيين الخائفين من حرب وشيكة، المحرومين من
الكهرباء، ضحايا الغلاء والفساد وكل أنواع التجاوزات والموبقات.
من
زمان، لم يعد لبنان شغل العالم الشاغل كما يظن أهله. لبنان بات في ظل
مستجدات كثيرة جرت في محيطه العربي، وسيطاً إن لم يكن أسيراً. فعجيبة
التعايش السلمي على أساس طائفي لا توجد بالضرورة بقدر ما يجري اللعب على
كلماتها، فيما الطائفية تنخرها، متكاملة، مشخصة، وداخلاً مغلقاً مسرحياً
وملحمياً.
كثير من اللبنانيين اليوم، وبعد فشل مغارتهم جعيتا في جذب
إنتباه العالم، مستعدون للوقوع مجدداً وبكثافة في أكذوبة غينيس للتعويض
ربما، ولن نفاجىء إذا أفاقوا غداً باكراً للعمل على أكبر منقوشة في العالم،
أو طلع عندهم اعلى شجرة أرز على الإطلاق، او ظهرّوا ما للدربكة عندهم من
قرقعة، او حتى اكتفوا بحواضر البيت وفقعوا العالم أقوى 'سمّة بدن' مرّت
عليه. في لحظة حرجة كهذه ،لحظة إعلان تقهقر جعيتا أمام ما رأت لجنة حكّام
العجائب أنه مدعاة الى ما هو أعجب من جعيتا، سيعود ويمتثل اللبنانيون
مجدداً الى يقينهم القوي بعجائبية بلدهم، وسيرفعون كما دائماً لواء
نرجسيتهم الشخصية ونرجسية بلدهم الطبيعية. يفوتهم بالطبع، العمل على ترتيب
شؤون بيتهم ووطنهم، والعمل على تفكيك العجيبة الوحيدة التي يعيشون في فيئها
راضين، وهي الطائفية التي تنخر في أبدانهم، وتعدهم في مرحلة مقبلة وشيكة،
على إلتماس أعجوبة إلهية هذه المرّة للخلاص مما ينتظرهم من خراب، هذا إذا
بقوا.. واستمروا في النهج الطائفي العجيب.