بقلم: هاشم صالح
ديكارت، سبينوزا، كانط، نيتشه…وماذا عن المرأة؟ هل لها من وجود؟ما
هو دور المرأة في تحريك عملية الإبداع لدى الرجل الموهوب وبالأخص لدى
العباقرة من الرجال؟ بشكل سريع يمكن القول بأن هناك موقفين اثنين للعباقرة
من المرأة : إما الاهتمام الزائد، وإما الإهمال الزائد. فالعباقرة متطرفون
في مواقفهم عادة على عكس الناس العاديين. فاذا ما نظرنا الى حياة كبار
الفلاسفة من أمثال ديكارت او كانط وجدنا ان المرأة لا تكاد تلعب دورا يذكر.
فديكارت كان متزوجا، لفترة قصيرة، من امرأة عادية تشبه الخادمة ولم تلعب
أي دور في حياته العامة،أقصد الفكرية.ولكن يبدو انه كانت له مغامرات عديدة
مع عشيقات ليس أقلهن أميرات!أما المسكين سبينوزا فقد أحب فتاة في مستهل
شبابه ولكنهم رفضوه وزوجوها لآخر فلم يعد الكرة مرة أخرى وانطوى على حبه
المغدور ككنز يغذيه مدى الحياة.وأما جان جاك روسو فقد عاش طيلة حياته مع
امرأة لا يحبها وأحب امرأة لم يعش معها يوما واحدا بل ولم يلمسها..وأما
ايمانويل كانط فلم تعرف له أي علاقة مع أي امرأة!..وهكذا كرس حياته كلها
لبلورة تلك الفلسفة النقدية العظيمة التي سيطرت على الغرب منذ مائتي سنة
ولا تزال.ويقال بأنه أعجب بامرأة مرة،ثم شغل عنها بتأليف أحد كتبه الهامة
وغطس فيه كليا. وعندما استفاق من غيبوبته وأراد العودة اليها كانت
"المحروسة" قد تزوجت منذ زمن طويل وأنجبت الأطفال!..صح النوم أستاذ! أين
كنا؟ ويبدو انه عندما تقدم في العمر نسبيا وتجاوز الخمسين او الستين وأصبح
مشهورا كان أشد ما يحرجه ان يطرح عليه هذا السؤال:لماذا لم تتزوج يا
أستاذنا الكبير؟وكان يجيب عادة:عندما كنت شابا كنت فقيرا وغير قادر على
القيام بواجب المرأة ومسؤولية العائلة.وعندما أصبحت مشهورا وقادرا على ذلك
لم تعد لي رغبة في النساء.فقد كبرت في السن وتجاوزني القطار…وأما نيتشه
التي "جننته لو أندريا سالومي" فقد أرسل لخطبتها صديقه "بول ري" ناسيا او
متناسيا انه كان هو الآخر ايضا مغرما بها الى حد الوله بل وانتحر من
أجلها!..وفي مرة أخرى أعجبته احداهن فأرسل لها أحد معارفه لمفاتحتها في أمر
الخطوبة غير مدرك ان هذا الشخص بالذات هو خطيبها بل وحتى زوجها! ولكن من
يستطيع ان يلوم نيتشه على مثل هذه الهفوات البسيطة؟ بصراحة نيتشه يحق له ما
لا يحق لغيره..
ريلكه، الفريد دو موسيه:الحب كعلاج، او كمرض لا شفاء منه… وأما
عن الشعراء والفنانين وعلاقتهم بالمرأة فحدث ولا حرج!..فالواقع انه نادرا
ما تخلو حياة شاعر ما من هوى عاصف او حب مجنون.وكثيرا ما يلعب هذا الحب
دورا كبيرا في الهام الشاعر وانطلاق عبقريته المكبوتة. يكفي ان نذكر هنا
قصة ريلكه مع تلك الروسية الحسناء التي جننت نيتشه من قبل كما ذكرنا.فقد
تعرف عليها في مطلع الشباب(عشرين سنة) وكانت هي امرأة ناضجة في الاربعين
فحلت عقدته النفسية المتأصلة وأشعلت عبقريته كالحريق…
ثم هناك قصة
ألفريد دو موسيه مع تلك الكاتبة المشهورة والمتحررة التي اتخذت اسم رجل من
كثرة تحررها وميلها للتحدي والاستفزاز: جورج صاند.فقد أحبها حبا جما،وأحبته
هي في البداية ايضا،ولكنها سرعان ما انصرفت عنه الى غيره فلوعت قلبه.وكان
ينتظرها كل الليل لكي تعود من سهرتها ومغامراتها عند أول خيوط الفجر،فيتحسر
عليها طيلة ساعات وساعات ويكتب بعضا من أجمل قصائد الشعر الرومانطيقي
الفرنسي في القرن التاسع عشر:"ليالي موسيه".ذلك ان عذاب الحب مفيد للفنان
فهو يشحذ العبقريات.بل ان النجاح في الحب قد يشكل خطرا على الابداع. فأهلا
وسهلا اذن بالفشل والهجران..نشفوا دموعكم أيها الأصدقاء!..رب ضارة
نافعة!صحيح ان الحب الفاشل يخلف وراءه أنقاضا وأطلالا،وربما خرائب على مد
النظر،صحيح انه يدمرك تدميرا ويستنزفك تماما،صحيح انه "لا أبرد من حب مات"
كما تقول رومي شنيدر.ولكنه يطهرك من الداخل تطهيرا، وينظفك تنظيفا،ويجعلك
أفضل مما كنت عليه بألف مرة.أليس هذا مكسبا؟ انه يعمق انسانيتك ويتحول
بمرور الزمن الى كنز دفين.الحب الفاشل بهذا المعنى هو اكثر أنواع الحب
نجاحا في التاريخ! وعلى أي حال فان قصص الحب الكبرى نادرا ان تنجح.نجاحها
يكمن في أنها حصلت وأججت النيران في الداخل. مجرد حصولها يعتبر معجزة. ليس
في كل يوم تحصل قصة حب. ياريت! وعموما فان الحب بالضربة القاضية او بالضربة
الصاعقة كما يقول الفرنسيون لا يحصل الا مرة واحدة في الحياة،هذا اذا ما
حصل! ووحدهم النخبة المصطفاة ينالون هذا الحظ او ذاك الشرف الأعظم. انظروا
دانتي وبياتريس،او بترارك ولورا،او قيس وليلى، او جميل وبثينة، او هولدرلين
وسوزان، او روميو وجولييت، او ابن زيدون وولادة،الخ.. وفي العموم يمكن ان
نطيل الحديث الى ما لا نهاية عن هذا الموضوع الغائر في الأعماق والأقاصي.
ولكن يكفي أننا أزعجناكم بما فيه الكفاية..سامحونا!
الفاتنات الروسيات وعباقرة فرنسا لكن
لنتوقف قليلا هنا عند الحسناوات الروسيات اللواتي هاجرن الى فرنسا بعد
الثورة البلشفية او قبلها بقليل بحثا عن الأمان والاطمئنان،ثم بحثا عن الحب
والحرية، والشهرة والعباقرة.فقد فتحت الأرشيفات الروسية مؤخرا أمام
الباحثين بعد سقوط الشيوعية،بل واستطاعوا التوصل الى ألارشيفات السرية لل
ك.ج.ب أثناء تلك الفترة.وهي مليئة بالمعلومات والمعطيات عن شخصيات عديدة من
فنانين وكتاب وشعراء وفلاسفة وحسناوات مغريات جاذبات.هذا ما يسرده لنا
الكتاب الشيق الذي نثرثر على هامشه الآن بكل حرية.ويبدو ان بعض الجميلات
الفاتنات لعبن دورا سياسيا او حتى مخابراتيا لصالح الأجهزة السوفياتية.(ما
أجمل الجاسوسة الناعمة التي تنزلق بين يديك كالحرير وتسقيك السم والعسل في
ذات الوقت! من منا لم يحلم، في هلوساته الغرامية،بعشيقات جيمس بوند
وحسناوات الأفلام السينمائية؟هذا ناهيك عن فتيات القذافي!! لم أر أجمل منهن
في حياتي..). وليس سرا على أحد ان ايلزا التي سلبت عقل أراغون وقلبه كانت
متهمة من قبل الأوساط الفرنسية بأنها عميلة روسية. والواقع انها هي التي
أدخلت زوجها في الحزب الشيوعي بعد ان كان سرياليا لا يعرف معنى
الانضباط..وهي التي جعلته يوقع على بيان الانضمام الى المعسكر السوفييتي
ويؤيده على طول الخط حتى بدون تفكير تقريبا.من قال بأن المرأة ليست قادرة
على كل شيء؟ والشيء الذي يلفت الانتباه بعد الاطلاع على هذه الوثائق هو ان
معظم عباقرة فرنسا في مطلع القرن العشرين او منتصفه كانوا متعلقين عاطفيا
بروسيات.فهناك أولغا زوجة بيكاسو.وهناك غالا التي أحبت بول ايلوار قبل ان
تقع في شباك سلفادور دالي.وهناك ايلزا التي ألهمت أراغون ديوانه
الشهير:مجنون ايلزا.وقد أصبحت قصتهما شهيرة في الأوساط الأدبية الى درجة
انه يمكن مقارنتها بمجنون ليلى في الأدب العربي.وهناك ليديا التي ألهمت
الفنان الكبير ماتيس.وهناك مايا التي سلبت قلب رومان رولان الى درجة انه لم
يتورع عن تقديم الولاء والخضوع لجوزيف ستالين.حقا ان الحب يعمي ويصم! ثم
ينبغي الا ننسى زعيم الوجودية الفرنسية جان بول سارتر.فقد كانت له مغامرات
عديدة من بينها قصة حب مكتومة او شبه سرية مع حسناء روسية تدعى لينا
زونينا.وهي التي أهداها كتابه الشهير الذي يشبه السيرة
الذاتية:الكلمات.ولكنه لم يذكر الا الحرف الأول من اسمها لكيلا ينصب عليه
غضب سيمون دو بوفوار.فقال في الاهداء المختصر والغامض:الى السيدة ز…وطالما
تخبط المعلقون والنقاد في شرح هذا الحرف "ز" ولمن يرمز دون ان يتوصلوا الى
نتيجة.ذلك ان سارتر نجح في المحافظة على سرية العلاقة،ولم يكن يلتقي
بعشيقته الروسية الا على شواطيء بحر البلطيق،او في زوايا العاصمة
السوفييتية عندما كان يزور موسكو فتكلف بمرافقته رسميا وكأن شيئا لم يكن…
لكن لنتوقف قليلا عند علاقتين اثنتين:الاولى هي علاقة غالا ببول ايلوار ثم بسلفادور دالي،والثانية هي علاقة ايلزا بأراغون.
غالا من بول ايلوار الى سلفادور دالي… عندما
وصلت غالا الى باريس عام 1918 لكي تلتقي ببول ايلوار وتستقر في فرنسا الى
الأبد كانت البلاد خارجة للتو من حرب مدمرة.وكانت الحرب العالمية الاولى
تدعى بالحرب الكبرى او حتى المجزرة الكبرى.وقد شارك فيها ايلوار نفسه وجاء
بالبزة العسكرية الى الكنيسة لكي يتزوج من تلك الفتاة الروسية التي
أحبها.ولكنه كبقية أبناء جيله كان قد خرج محطما من تلك الحرب
المروعة.فنادرا ما كان يخلو بيت فرنسي من قتيل او مفقود او جريح.ويمكن
القول بأن الحركة السريالية التي انفجرت مباشرة تقريبا بعد الحرب العالمية
الاولى بزعامة أندريه بريتون لم تكن الا رد فعل على تلك الحرب ومآسيها.فقد
أراد الشباب الفرنسي في تلك الفترة ان يروّح عن نفسه،ان يتنفس الصعداء،ان
ينسى مآسي الحرب وما رآه من فظائع في ساحات الوغى.فلم ير أمامه من وسيلة
الا ان ينخرط في حركة فنية عبثية وتحررية في آن معا.انها لا تقل عبثية عن
الحرب الكبرى نفسها.وعبثية الفن هنا ينبغي ان تكون على مستوى عبثية الحرب
ذاتها والا فان شحنة الحرية لن تكون كافية.لهذا السبب جذبت السريالية معظم
فناني فرنسا وشعرائها.فقد كانت تلبي حاجة تاريخية آنذاك تماما كالوجودية
السارترية بعد الحرب العالمية الثانية.ألا تتيح السريالية للفنان،شاعرا كن
أم أديبا،ان ينسى نفسه قليلا،أن يسرح في الحلم،ان يتحرر من رقابة العقل
الواعي ويرتفع من مستوى الواقع الى ما فوق الواقع؟وهذا هو المعنى الحرفي
لكلمة سريالية.نعم لقد لبت السريالية حاجة تاريخية لأنها جاءت في الوقت
المناسب وساعدت المبدعين الفرنسيين على التحرر من أنفسهم،من الاكراهات التي
تضغط عليهم،من جحيم الواقع الذي لا يرحم.وهكذا أطلقوا لطاقاتهم العنان لكي
تنفجر في كافة الاتجاهات..وتركوا اللغة تنفجر ايضا وتتحرر من عقالها،أي من
معانيها القاموسية او الشرعية لكي تكتسب معاني أخرى وتكسر القوقعة. تركوا
اللغة تتجاوز نفسها وتعبر ليس فقط عن المعنى وانما ايضا عن اللامعنى والعبث
واللامعقول.ورأوا ان الواقعية الحقيقية هي ان تكون لاواقعيا!فهل الحرب
المدمرة واقعية او معقولة او ذات معنى؟هل يمكن التعبير عن عبثية الحرب بلغة
منطقية،قاموسية،محافظة؟ألا ينبغي على الفن ان يعبر عن جنون الواقع بلغة
أكثر جنونا منه.من هنا ظهر ايضا موضوع تفجير اللغة الذي انتقل الى ساحة
الشعر العربي في الستينات…هذه هي بعض الأسباب والبواعث العميقة التي أدت
الى انطلاقة الحركة السريالية في العشرينات من القرن الماضي.ثم توسعت فيما
بعد وانتشرت حتى اصبحت حركة فنية بحجم العالم كمعظم الحركات الاصيلة التي
ظهرت في عاصمة النور والحرية:باريس.
ولكن السريالية تطرفت فيما بعد في
سلوكها وتعبيرها حتى وصلت لدى الأتباع الصغار الذين لايبدعون شيئا الى درجة
مقيتة من التهتك والغثاثة والتكرار.أيا يكن من أمر فان غالا ألهمت قريحة
بول ايلوار الذي قال فيها هذه الأبيات من قصيدة بعنوان:أغنية الى غالا:
لم أحب في حياتي الا غالا
واذا كنت أنكر النساء الأخريات جميعا
فلكي اؤكد بأني لم أجد امرأة في العالم الا غالا
التي تعطيني قليلا من الرغبة في الحياة
وكثيرا من الرغبة في الموت
هكذا
دخل ايلوار وغالا في حلقة السرياليين وانضما الى أندريه بريتون ولويس
أراغون وفيليب سوبول ورينيه شار وآخرين عديدين.وهكذا شكلت الحركة السريالية
الطليعة الابداعية المثقفة في فرنسا آنذاك،تلك الطليعة التي تريد تغيير
الحياة.وأصبح أندريه بريتون يتصرف كرئيس حركة او كزعيم عصابة.وأصبح حي
المونبارناس في باريس بكل مقاهيه مركزا للحركة الجديدة التي تريد ان تكتسح
العالم.
ولكن غالا تعبت من تقلبات ايلوار وجنونه السريالي.ثم الأهم من
ذلك هو ان الحب نفسه تعب ومل.فالحب يبتديء قويا عاصفا ثم يتراخي شيئا فشيئا
بمرور الايام والسنوات.هذه هي سنة الحياة وطبيعة الأشياء.الحرمان هو وحده
الذي يجعل جذوة الحب متقدة تتحدى الزمن.وأما الوصال-وبخاصة العيش المشترك
الدائم- فيؤدي الى خفوت جذوة الحب،الى انطفاء الحب،الى ذبول الحب. وللأسف
فان الحب يذبل كما تذبل الورود…وهكذا انتهت العلاقة بين غالا وبول ايلوار
بعد سنوات عديدة من الحب والوئام والخصام.وراحت الروسية الحسناء تبحث في
أعماقها عن علاقة جديدة،او بالاحرى عن عبقرية جديدة.ووقعت على شخص آخر لا
يقل جنونا وعبقرية عن ايلوار ان لم يزد أضعافا مضاعفة هو سلفادور دالي.ولكن
دالي لم يكن قد أصبح بعد دالي الذي نعرفه.وانما كان شابا مغمورا لما تتفتح
عبقريته بعد.وقد جاء الى باريس بحثا عن الالهام والشهرة والغنى ايضا.فقد
كان فقيرا مدقعا تفوح منه رائحة الفقر عن بعد ستين كيلو متر على الأقل..كان
يخجل من كثرة فقره.كان شابا اسبانيا يجوب شوارع باريس طولا وعرضا دون ان
يملك شيئا آخر في جيبه غيرعبقريته الكامنة التي لم تنفجر بعد.فجاءت غالا
لكي توقظه وتقدح شرارة العبقرية فيه.عندما سألوا الروسية الحسناء عن سبب
اختيارها لشاب فقير معدم أجابت:لأني أدركت فورا انه عبقري.وغالا مثل ايلزا
مثل بقية الروسيات الملهمات كانت تبحث عن الشهرة والعبقرية.فهي لم تترك
بلادها وأسرتها هربا من الحرب الأهلية والثورة البلشفية فقط،وانما بحثا عن
تأكيد الذات وفعل شيء كبير يعوض عن فقدان الوطن والأهل والأحبة.وهكذا رافقت
غالا سلفادور دالي طيلة السنوات الصعبة:سنوات الحرمان ومحاولة
الوصول.فعملت على ادخاله في الجماعة السريالية وبذلت كل جهودها لاقناع
اندريه بريتون به.وهكذا انضم اليهم وقدم لهم أعماله الكبرى الاولى الى جانب
مخرج سينمائي عظيم هو بونويل.وشيئا فشيئا راح دالي يخرج من خوفه المزمن من
الفقر حتى اشتهر وأصبح من أغنى الفنانين في العالم.وأصبحت لوحاته تباع
بمئات الالوف ان لم يكن بملايين الدولارات في باريس او نيويورك او غيرهما
من العواصم العالمية.ولكن عندما وصل دالي الى ما يبتغيه أصبح يهذر ويخرف
ويتطرف في جنونه المفتعل او الحقيقي،لا أحد يعرف…ووصل الأمر به الى حد مدح
هتلر وفرانكو علنا في احدى السهرات!وعندئذ طرده بريتون شر طردة من جماعة
السرياليين.
أراغون وايلزا: مجنون ليلى على الطريقة الفرنسية؟ متى
التقى أراغون بايلزا لأول مرة؟أو بالاحرى متى التقت ايلزا بأراغون؟ذلك
انها هي التي كانت تبحث عنه،تريده،تطارده.فقد كان أراغون في أوج شبابه
وذروة عبقريته.كان أمير الشعراء.كان طويلا،جميلا،تنثال عليه النساء من كل
حدب وصوب.وما كان من السهل على تلك الروسية المهاجرة ان تخترق الصفوف لكي
تصل الى قلبه.يضاف الى ذلك ان أراغون كان خارجا للتو من قصة حب كبيرة مع
سيدة اميركية معروفة تدعى:نانسي كونار. لقد خرج محطما،مستنزفا،فارغا.ومعلوم
ان الحب السابق لا يخرج من القلب بسهولة،وفترة النقاهة قد تطول او
تقصر،وكثيرا ما تترك وراءها جراحات وندوبا يصعب لأمها.فالحب الكبير نادر
ويدفع ثمنه غاليا:أي عدا ونقدا.الحب مسألة خطرة على عكس ما يتوهم
الكثيرون.صحيح ان له طعم العسل في البداية، ولكن قد يكون له طعم العلقم في
النهاية.وهناك شعراء وفنانون كثيرون انتحروا من اجل قصة حب.ولكن أراغون
المعتد بجماله وشبابه وموهبته لا يمكن ان يسقط من أول ضربة.فالمستقبل أمامه
والفرص كثيرة.من يعرف؟قد يجيء الحب من حيث ندري ولا ندري،وفي معظم الأحيان
من حيث لا ندري..الحب لا يجيء عندما نريده او نتمناه او نطلبه.الحب يجيء
عندما يريد هو،وفي غفلة من الزمان والوشاة،وربما حيث لا نريد او لا نتوقع
على الاطلاق.ولكنه عندما يجيء فانه يفرض نفسه كالملك المتوج لا يناقش ولا
يرد.في تلك الأمسية الجميلة،وفي احد أجمل مقاهي باريس الواقع على منتصف
الطريق بين المونبارناس والبور رويال كان لويس أراغون على موعد مع القدر،مع
اكبر قصة حب في حياته.فعندما دخل الى مقهى لاكلوزري دو ليلا(أي بستان
الليلك!)كانت ايلزا تريوليه جالسة وكأنها تنتظره..كان لقاء بمحض الصدفة،
بدون ترتيب ولا ميعاد.ولكنه بدا وكأنه كان مرتبا منذ سنوات وسنوات:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللقيا بلا ميعاد
شكرا نزار قباني،شاعر سوريا والعرب…
هناك
مواعيد سرية لا ندري بها ولا نعرفها،انما تنعقد خارج ارادتنا، وتبدو
وكأنها محتومة اكثر من المواعيد الحقيقية.ذلك ان يد القدر تسوقنا اليها
شئنا ام أبينا.من بين هذه المواعيد ذلك اللقاء بين أراغون وايلزا.أراغون
الذي كان يتسكع في الحارة مع زميلين له من المجموعة السريالية قال
فجأة:لماذا لا ندخل ونشرب شيئا؟وايلزا التي كانت قد ملت من اقامتها في
باريس وأوشكت على جمع حقائبها والعودة الى موسكو،نهضت من غرفتها في احد
فنادق المونبارناس وقادتها قدماها على غير وعي منها الى هذا المقهى الجميل
والشهير.كانت تريد ان تروح عن نفسها،ان تفكر بمصيرها ومستقبلها.قلنا بأنه
مقهى شهير لأنك عندما تجلس على مقاعده وتنظر أمامك على الطاولة تجد أسماء
كبار شعراء فرنسا وفنانيها منقوشة على الخشب.فهنا جلس بودلير او
فيرلين.وهناك جلس سارتر او سيمون دو بوفوار.وفي مكان ثالث جلس بريتون
وأراغون وايلوار…ذلك ان المقهى لا يزال موجودا وبامكانك ان تزوره متى شئت
وتتعرف على الزوايا والخبايا التي جلس فيها كبار أدباء فرنسا.وهكذا انعقدت
عرى قصة حب شهيرة ابان النصف الاول من القرن العشرين.
ايلزا التي يقول فيها لويس أراغون:
سوف أقول لك سرا كبيرا:
الزمن هو أنت
الزمن هو امرأة بحاجة لمن يغازلها ويجللها
الزمن كشعر كثيف متموج لا نهاية له…
سوف أقول لك سرا كبيرا:
اني أخاف منك
أخاف مما يصحبك نحو النوافذ مساء
أخاف من حركاتك،من اشاراتك،من الكلمات التي لا تقال
أخاف من الزمن السريع والبطيء.
أخاف منك
لقد أفشيت لك سرا كبيرا
فأغلقي الأبواب
أسهل على المرء ان يموت من ان يحب
ولهذا السبب فاني أعيش بصعوبة كبيرة
يا حبيبتي…