نعم،
الفضائح ليست فقط سياسية وإنما قد تكون أيضا فلسفية أو ثقافية عموما. ومن
الذي اكتشف الفضيحة؟ إنها الصحافية الشقراء الجميلة أود لانسلان المولعة
بملاحقة برنار هنري ليفي. نعم أحيانا تكون المرأة جميلة وذكية، لم لا؟ ليس
كل الجميلات غبيات، لحسن الحظ، وإلا لكانت الدنيا قد خربت. اللهم زد هذا
النوع من النساء الفاتنات الفاتكات. القصة وما فيها هو أن المثقف المذكور
كان قد نشر كتابا يروي فيه مساره الفلسفي منذ أكثر من ثلاثين سنة بعنوان:
«عن الحرب في الفلسفة.. أو الفلسفة كساحة حرب وصراع». الكتاب صدر هذا العام
وحظي كالعادة بتطبيل وتزمير كل وسائل الإعلام الفرنسية. ولكن دون أن يدري
أحد أنه يحتوي على فضيحة من أكبر الفضائح. لحسن الحظ، فإن الآنسة أود
لانسلان موجودة وفاتحة عينيها تماما ولا تفوتها شاردة أو واردة من ألاعيب
السيد ليفي. ومعلوم أنها خريجة قسم الفلسفة وقارئة يقظة جدا. ولم تكد تصدق
عينيها عندما وقعت على الغلطة الكبيرة التي ارتكبها برنار هنري ليفي دون أن
يدري. وراحت «تضحك في عبها» وتصفق بيديها الاثنتين غير مصدقة بأنها وقعت
على كنز ثمين كهذا الكنز ومسكت الفيلسوف المذكور بالجرم المشهود. وعندئذ
راحت تنقض عليه بكل تلذذ وتشنع به في كل الأوساط الثقافية باعتباره فيلسوفا
سطحيا، متسرعا، يلقي الكلام على عواهنه. من المعلوم أن ليفي يهاجم في
كتابه المذكور فيلسوف التنوير الأكبر، إيمانويل كانط. نعم لقد تجرأ وتطاول
عليه وكأنه في مستواه! فغرور ليفي لا حدود له.. وراح يسخر منه لأنه - بحسب
زعمه - فيلسوف تجريدي مهووس بالمصطلحات الفلسفية العويصة، ولا حياة عاطفية
له. فهو لم يتزوج ولم ينجب ولم يعشق ولا تعرف له أي علاقة غرامية. وإنما
كرس حياته كلها للفكر وهداية البشرية. لقد ضحى بسعادته الشخصية من أجل
الآخرين. وهذا شيء لا يستطيع عقل السيد ليفي أن يستوعبه. وبدلا من أن يشكره
على تفانيه في خدمة البشرية وتنويرها راح يسخر منه ويقهقه. والأنكى من ذلك
هو أنه استند في هجومه الكاسح عليه إلى كتاب مشبوه بعنوان «الحياة الجنسية
لإيمانويل كانط» لمؤلفه جان باتيست بوتول. هل سمعتم بهذا الاسم؟ حتما لا.
ولن تسمعوا أصلا؛ لسبب بسيط هو أنه غير موجود على الإطلاق! إنه من اختراع
بعض الفكاهيين الملاعين هنا في الساحة الباريسية. وهم أشخاص يريدون أن
يتسلوا ويهرجوا ويضحكوا في الجريدة الساخرة الشهيرة «الكانار أنشينيه»..
فعن طريق هذا الاسم الخيالي الذي «فبركوه» يستطيعون أن يهذوا ويهلوسوا
ويقولوا عن كانط أو سواه كل مزحاتهم ويفشوا خلقهم. ولكن بما أن برنار هنري
ليفي ليس مختصا بكانط ولا ربما بغير كانط أصلا، فإنه وقع في الفخ واعتقد
أنه شخص حقيقي من لحم ودم. ولهذا السبب تورط في الصفحة 122 من كتابه
المذكور وفتح النار على كانط قائلا: «لقد برهن البروفسور جان باتيست بوتول
بشكل قاطع في سلسلة محاضراته التي ألقاها على الكانطيين الجدد في
الباراغواي، على أن كانط شخص مزيف وتجريدي.. باختصار فإن كانط شخص تافه
ومفكر لا معنى له! لاحظ الغباء: لكأنه كان يوجد كانطيون جدد في البارغواي
آنذاك؟ ولم لا في بلاد الإسكيمو، حتى تلميذ صغير في المدارس الثانوية
الفرنسية لا يمكن أن يقع في هذه الغلطة. فما بالك بشخص يفرض نفسه على
الساحة كزعيم لمدرسة فلسفية بأسرها؟ بالطبع فإن فلاسفة فرنسا الحقيقيين
يعرفون مدى هشاشة ثقافته الفلسفية ولا يقيمون له أي وزن من هذه الناحية.
ولكن بسبب تطبيل وسائل الإعلام له فإن الجمهور العام يعتقد أنه أكبر فيلسوف
في فرنسا».
المهم أنه بعد أن انكشفت القصة وشعر
برنار هنري ليفي بحجم السقطة التي وقع فيها راح يتوارى عن الأنظار قليلا
خوفا من المواجهة. فلم يعد من حديث للأوساط الثقافية الفرنسية إلا التندر
بقصته والحكي عنه من وراء ظهره والسخرية منه ومن «ثقافته الفلسفية الواسعة
والمتينة».. وراحت أود لانسلان تلاحقه بكل خبث قائلة: «بالله عليك يا أخ
برنار ما هي أخبار البروفسور بوتول؟ هل التقيت به يا ترى؟ إن شاء الله يكون
السيد بوتول بخير؟ الله يحفظه ويطول عمره المسيو بوتول.. سلم لنا على
الأستاذ بوتول أرجوك».. إلخ. باختصار أصبح هذا الشخص الوهمي (بوتول) كابوسا
يلاحقه حتى في منامه. وويل لمن يقع في يد أود لانسلان أو بين براثنها.
إنها تشرشحه شرشحة. وعندئذ راح وجه برنار هنري ليفي يمتقع ويشعر بالرعب
كلما سمع اسم بوتول هذا، وأصبح لا يستطيع أن يخرج من بيته خوفا من الفضيحة.
ويقال إنه خاف فعلا وتوارى عن الأنظار، هو الذي كان يخيف حتى رؤساء الدول!
وعندئذ اضطر أصدقاؤه للنزول إلى الساحة للدفاع عنه بقدر ما يستطيعون. بل
وحتى سيغولين رويال اضطرت إلى نشر مقالة طنانة رنانة دفاعا عن صديقها
المغدور الذي وقع في «هفوة» غير مقصودة ولا معنى لها أصلا. والكل راح يخفف
من حجم هذه «الغلطة الصغيرة» التي لا قيمة لها في نهاية المطاف. ولكل جواد
كبوة. لم لا؟ «وحلوا عن الرجل بقى».. إلخ.. ولكن المشكلة هي أنه في كتاب
سابق ارتكب غلطة أخرى لا تقل فداحة وربما أشنع عندما استشهد برامبو في صفحة
غنائية رائعة. ذلك أن برنار هنري ليفي ذو أسلوب جميل، وينبغي أن نعترف له
بذلك. فقط هناك مشكلة صغيرة، هي أن كل الاستشهادات التي يذكرها على أساس
أنها لرامبو هي في الواقع لمالارميه! لاحظ الوضع؛ شخص يدعي أنه فيلسوف
فرنسا الأول ولا يعرف أن يفرق بين نصوص رامبو ونصوص مالارميه! والأنكى من
ذلك هي أنها استشهادات شهيرة يعرفها حتى طالب الثانوي هنا في فرنسا. إنها
سارية على كل شفة ولسان. عندما تستشهد بأبيات شهيرة للمتنبي وتنسبها لأبي
تمام ألن يستغرب ذلك الناس؟ وهكذا أثبت الرجل مرة أخرى أن ثقافته الشعرية
أيضا ضحلة وليست الفلسفية فقط. فكيف يخلط بين رامبو ومالارميه إن لم يكن
جاهلا؟ وهل يستحق لقب فيلسوف بعد كل هذه السقطات؟ لقد طفح الكيل..
حول هذه الفضائح وكثير غيرها يمكن
للقارئ أن يطلع على كتاب المفكر دانييل سلفاتور شيفر بعنوان: «نقد الجنون
الخالص.. الإفلاس الفكري للمدعوين (بالفلاسفة الجدد) وتوابعهم»، باريس،
2010. ففيه تحطيم لأسطورة برنار هنري ليفي وأندريه غلوكسمان وألان
فنكيلكروت وكل تلك الجوقة المعروفة بسيطرتها على وسائل الإعلام الفرنسية
وتأييد الباطل الإسرائيلي على طول الخط.
ما العبرة التي نستخلصها من قراءة هذا
الكتاب؟ نستخلص شيئين أساسيين؛ أولا: إن أخطر جريمة يمكن أن تحصل في
التاريخ هي أن يصل الزيف إلى الفكر نفسه فيصبح سلعة تباع وتشترى بالمال أو
بوسائل الضغط والنفوذ، والواقع أنه عندما تروج وسائل الإعلام الكبرى
لمثقفين مؤدلجين ومسيسين إلى أقصى حد ممكن فإنها تستطيع تلميعهم وفرضهم على
الجمهور العريض وكأنهم مثقفين كبار أو فلاسفة حقيقيين. وفي ذات الوقت فهي
تقوم بالتعتيم على المفكرين الحقيقيين الموجودين بكثرة في فرنسا، ولكن لا
أحد يعرفهم، اللهم إلا قلة من الاختصاصيين والمطلعين على بواطن الأمور..
هنا يكمن الخطر أو التضليل الذي تمارسه وسائل الإعلام وبخاصة التلفزيون.
إنها ترفع ما هو منخفض وتخفض ما هو مرتفع أو تسدل عليه أستارا من الصمت.
برنار هنري ليفي الذي يزعم بأنه فيلسوف بل وتقدمه وسائل الإعلام الفرنسية
التي تسيطر عليها جهة معينة وكأنه فيلسوف فرنسا الأول هو الذي دافع عن
مهاجمة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لـ«قافلة الحرية» التركية التي أدت
إلى مصرع أشخاص كثيرين. لقد دافع عن تلك المجزرة الدموية في وسائل الإعلام
الفرنسية دون أن يرف له جفن، وكانت تلفيقاته من الفداحة إلى درجة أن رئيس
تحرير جريدة «ليبيراسيون»، لوران جوفران، اضطر إلى التصدي له وفضح أكاذيبه
على الرغم من أن جوفران غير معروف بحب العرب أو الفلسطينيين بشكل خاص. بل
ربما كان معروفا بالعكس.. ولكنه يحترم الحقيقة الموضوعية ولا يقبل بأن
يشوهها برنار هنري ليفي هكذا على رؤوس الأشهاد خدمة للسياسة الإسرائيلية
الرعناء.
الشيء الثاني الذي يمكن استخلاصه من
الكتاب هو أنه ينبغي علينا نحن المثقفين أن نكون حذرين جدا في الكتابة، فلا
نلقي الكلام على عواهنه. ولا ينبغي أن نستشهد بشيء إذا لم نكن واثقين منه
تماما. وإلا فإننا سنقع في الفخ ويشهر بنا المشهرون ونفقد مصداقيتنا. درس
حقيقي للجميع، شكرا لأود لانسلان. شكرا للجنس اللطيف الذي يعرف كيف يلسع
على الناعم فيوجع.