1
لم تنقلب ثقافة المعارضة بعد أن تستلم الحكم إلى ثقافة السلطة،هل
كان المنهج الثوري التدميري مناقضا لنفسه عندما يصبح فكرا وثقافة صيانية
سلطوية وغير ثورية؟هذه البنية الجدلية لا نجد لها تطبيقا إلا في الشرق
العربي، في حين أنها في ثقافات العالم مغايرة لهذا السياق حيث يمكن للثقافة
الثورية المعارضة والتدميرية أن تستمر بمنهجيتها بالرغم من تسلمها السلطة،
والسبب الذي يجعل الثقافة الثورية التدميرية للبنى المتخلفة عند المعارضة
صيانية ثابتة وغير متحركة هو هيمنة الثقافة الدينية عليها،فقبل أن تستلم
السلطة لها هامش ثقافي من الحرية تناور عليه حتى لو لم تؤمن به،حتى لو
كانت المعارضة دينية، لكنها ما أن تستلم السلطة حتى تهيمن الثقافة الدينية
على الثقافة الثورية للفئات المعارضة لانها لا يمكن أن تطبق أفكارها
المعارضة على نفسها،أو في أحسن الأحوال انها تجهل جهلا مميتا جدلية ثقافة
المعارضة المستمرة.. هذا الوضع كما قلت لا يحدث إلا في الثقافة العربية وهو
ما نشاهده في معظم الحركات السياسية القومية والدينية التي تسلمت الحكم في
البلدان العربية بعدما كانت قوى معارضة.لمسنا ذلك في الفكر القومي الذي
حكم عددا من البلدان العربية لفترات تزيد على نصف قرن،ومن ثم نحن نلمسه في
الفكر الديني وقواه السياسية من أنها تراجعت وبخوف عن طروحاتها قبل أن
تستلم الحكم.
2
ماذا يعني ذلك ؟ يعني أن ثقافة القوى الثابتة لا يمكن أن تتحرك إلا
في الميدان الضيق لنفسها فنجدها تتيح الحرية لفئاتها بينما تمنع ذلك
وتضّيق الخناق على من خالف ثقافتها حتى لو كان ممثلو الثقافة المغايرة
حلفاء لهم بالأمس في المعارضة .
اليوم نشهد تغييرا جذريا في ثقافة
الشباب المصري وهم يطرحون مشروعاتهم في التغيير على بساط المواجهة مع ثقافة
السلطة المصرية، ويمكن أن يشمل تصورنا دولا عربية اخرى، سوريا واليمن
ولبنان والعراق ودول الخليج والمغرب العربي،وهذا الوضع مؤشر خطر جدا من أن
اي تغيير لن يأتي أؤكله الثوري مادام القائمون عليه غير ثوريين، حيث
سيعودون ثانية للخضوع تحت سلطة الثقافة الدينية المهيمنة ومن هنا تبدأ
مرحلة غاية في التعقيد وهي أن الشعب لايثق بأي تغيير مادامت القوى المغيرة
لم تضع حدا واضحا بين ثقافة التغيير المتحركة وثقافة الدولة الدينية
الثابتة. وثمة حلول وسط قد جرى تطبيقها في عدد كبير من دول العالم ومن
بينها دول اسلامية كمصر وتركيا واندونيسيا ولبنان ودول اوروبية ودول
اسيوية، في حين أن لا منهجية واضحة للقوى التي تدعي التغيير في شرقنا
العربي بعد أن تستلم الحكم.
3
ما يحدث في مصر اليوم شيء مغاير حتى لو فشلت حركة الشباب لاسمح
الله، وحتى لو أنها اتت بأكل قليل انها وفي ابسط حصيلاتها أنها حركت الشارع
العربي بالحجم الذي حركت تونس فيه السياسة العربية الجامدة والمتغيرة، أن
ما احدثه شباب مصر كبير جدا وسيكون تأثيره بليغا من أن ثقافة جديدة تتحرك
في ميدان المجتمعات العربية وتحاكي بحدود تطلعاتها التغيير العالمي وادوات
العولمة والتقنية وهذا يعني أنها ادارت ظهرها للأشكال الثقافية القديمة
التي كانت تدبج بها بياناتها، وأول شيء ملموس ليس من بيان اول ولا بيان
اخير صاحب أو سيصاحب حركة الشباب، بل أن هذه الحركة لن ترسم بيانا للتغيير
إلا بعد أن يتم التغيير وهذا يعني ان منهجية التغيير تتم عبر التجربة وليست
قبلها او بعدها، على العكس من ثقافة قوى المعارضة العربية التي تصرف وقتا
طويلا لتدبج خطابا سابقا لحركاتها ثم تتنصل عنه بعد أن تسلم الحكم لأنها لم
تغير من سياقات معرفتها المسبقة بما تريد في حين أن حركة الشباب على اطلاع
تام بما لا تعرفه السلطات عنها قبل الحركة إلا في خطوطها العامة، ولذلك
كانت السلطات تتجاهل مثل هذه الثقافة لأنها تعتبرها غير منظمة في حزب أو
اتجاه.
4
على مستوى البنية الاجتماعية والمؤسساتية، نجد أن ثقافة حركات
الشباب ليست جديدة كما انها لم تأت ببيان تجديدي بل أن خطابها المعلن هو
استقطاب فئات حيادية لصفوفها، مثل الجيش والتكنوقراط والجامعات والعاطلين
والموظفين في مؤسسات القطاع العام وغير المنضوين تحت لافتة الأحزاب الأخرى،
هذه الشرائح التي تبدو أنها غير منظمة –عدا الجيش- هي في حقيقة امرها
تنظمها مؤسسات المجتمع المدني دون أن تندرج تحت لافتة حزبية، وهذا الخط
التنظيمي الجديد يجد صداه في بنية ما بعد الحداثة حينما تتفق شرائح مختلفة
الانتماءات على قضايا جوهرية تمسها بالرغم من اختلافها في صميم حاجاتها
المعيشية والانسانية والحريات والحقوق والعدالة وتوزيع الثروات وتنظيم حرية
الناس..