ديسكولاند
ديكتاتور أسعد الجبوري
فصل من الرواية
كان الرجال الثلاثة ممن تشكلت منهم لجنة متابعة الرواية ، بأمر خاص
من وزير الحواس ، يتوزعون على طاولات ثلاث في صالون التأليف . فيما جلس
آدم السومري أمامهم كتلميذ سكرّان برعبه في قاعة للامتحانات . هكذا كانت
صورته مشروخة آنذاك . رجل ممزق الأجزاء ، لا يعرف عن الرجال الثلاثة شيئاً .
فالأسئلة ممنوعة . خمن بأن من يجلسون معه في الغرفة ، هم نقاد من إدارة
الأمن العام ، من اؤلئك الذين عادة ما تتم الاستعانة بخبراتهم لإنجاز
المهمات الخاصة بعالم الكتابة والنقد والنشر وتصدير القراءة للشعوب .
المراقب
الأول ، وكما يبدو من شكله الطويل الذي يشبه شكل أفعى مستنفرّة ، يعمل في
قسم سباكة الجمل بلاغياً . فيما وجه المراقب الثاني مقدمة خنزير ، وهو على
ما يبدو من المختصين بفحص معاني الكلمات وأبعادها في الجمل . بينما الرجل
الثالث قصير مدبب الجثة ، يعمل خبيراً سيكولوجياً بتحديد تأثيرات النصّ
على القارئ . ذلك ما تخيلّه آدم وصح توقعه فيما بعد .
“ لو كان اينشتاين أمام الرجال الثلاثة ، لألقى بدماغه يسيل على المنضدة ، وغادر القاعة متبخراً “
أليس
هذا ما تفكر بقوله يا آدم ؟ سأله نفسه وهو يرتعد . فيما كانت أصوات اقدام
وزير الحواس الذي اقتحم القاعة فجأة ، تتضخم في رأس آدم كالمفرقعات . وما
أن أصبح الوزير فوق الرؤوس تماماً ، حتى ظهر صوته المتهدج قائلاً :
لقد جئت لأعطي إشارة البدء بكتابة الرواية ، وما عليك يا آدم إلا أن تكون مبتهجاً . ثم أضاف قبل خروجه موجهاً كلامه لآدم السومري:
_
اكتب لتتخلص من كل الأعباء .عليك باستدعاء الكاسحات الكبرى ، لتقذف بجثتك
في واد من الوديان المجهولة . تذكر الدقة بالعمل . فهي مطلوبة . ستأتيك
الشياطين بالأفكار والصور، لا تنسى أن تقتبس من نصوصها ما يضيف الى خيالك
الشيء المروع والقذر . نعم . فالاقتباس من الشياطين عمل مسموح به في هذا
المكان الذي يصبح الخلود فيه سهلاً . قلت الخلود، لا النوم يا آدم . فطوروس
لا ينام إلا في المناسبات .
نظر آدم الى الوزير نظرة ثاقبة وأجابه بهدوء :
أعرف
ذلك يا سيدي . ليس أسوأ من ملك يرتدي فراشه إرتداء القميص . لقد طلّق
طوروس النوم من حياته . فأنا لم أر ملكاً يتمتع بقصور خيالية ، يُشيدّها
ويهرب منها ، مفضلاً عليها غفوة سريعة في حفرة أو زريبة أو كوخ أو تحت
خيمة في صحراء .
فقاطعه وزير الحواس هائجاً:
وتبليط الشعوب ؟ لا تغفل ذلك أو تنساه . صاح به الوزير . فردّ آدم عليه قائلاً :
أجل
. فأول ما يقوم به أبطال التاريخ السياسي ، هو تبليط عقول الشعوب بزفت
الديمقراطية ، وما أن تتمكن عجلات عرباتهم الفخمة بالتقدم خطوة أو خطوتين
على الطريق ، حتى تصبح تلك الديمقراطية حفراً ومطبات يجب الحفاظ عليها
لابتلاع الشعوب من أقدامها .
الديمقراطية عند طوروس علف لا يستحقه الناس
. هكذا طورّ الرجل نفسه ضد الحريات العالية منها أو المنخفضة ، وبسرعة
خارقة . صار لا يحبذ النفاق الشعبي ولا دفاتر الفلاسفة ممن لا يرى
بأفكارهم غير ديدان تثير في نفسه الغثيان وفيضانات من العنف . فكلما طرأت
له فكرة أن يلبس الثوب الديمقراطي . سرعان ما يلتهب جسده كالفرن ، ويتسبب
له بهياجات تقوده لمحو البشر محواً سريعاً .
كف عن الهذر وكن كاتباً قذراً بجدارة . هيا يا آدم . ها أنني أعلنت بداية التأليف . سأراك لاحقاً .
يرمي وزير الحواس تلك الكلمات بوجه آدم ويخرج من الغرفة منتشياً .
عطس
الرجل الأفعى وهو يحدق بآدم الذي اندفع بالكتابة نهماً. حاول النهوض
للتأكد من مجرى الكتابة وتدفقها على أوراق المؤلف المستعار لتلك المهمة .
إلا أنه ترددّ عن تدقيق الجمل . أحس بأن الوقت مبكر على فحص ما كتبه آدم
الذي كان وقتها يخترق الورق وهو يكتب بشكل جنوني ماطر :
(( ستعجز
الانثروبولوجيا عن تفسير طوروس ، وما يمتلئ به جسده من أشياء ميتة أو حيّة
على حدّ سواء . لقد رضع الرجل من الغرب حليباً ما زال يتسبب بعسر هضم
الشقاء الإنساني والكراهية التعبيرية . لقد غسل الظلام وجه طوروس مبكراً .
تصحرت ذاته ، فأشبعت طفولته بآثار الخيبة وخيالاتها الانتقامية منذ الزمن
الأول .
فأشدّ انتقام يواجه المرء ، أن يتشبع بالخيال القمعي منذ صغره .
آنذاك
، لا يجد ذلك المخلوق فرصة لتطهير ذاته المكونّة من طبقات قهر قديم ، بل
يمضي بالاتجاه المعاكس . يُغرق نفسه بالظلام ويتشكل في نسيجه . يبتكر
عبقرية ظلامية ، تشع بجنون حادّ ، بحيث لا يعود يعرف رأفة ولا يركن الى
سكون )) .
حاول آدم تغيير الجمل الأخيرة . اعتبرها كتلة صخرية ، ربما
تفكك دماغ الملك من شدّة ما تعكسه في نفسه من البهجة . وقد لا تعجب أعضاء
اللجنة المنتخبة من قبل وزير الحواس ، فيرغم على العودة الى الغرفة
الشاقولية مرة أخرى .
لكن ..وما أن رأى المراقبون الثلاثة آدم وقد
فرغ من الصفحة الأولى ، حتى نهض أحدهم والتقطها من على الطاولة ، ثم عاد
الى مكانه ، وراح يقرأ ما كتبه المؤلف بنهم . كان المراقب يقرأ ويضع
خطوطاً وعلامات بالقلم الأحمر الذي كان يهتز كفزاعة الزرع بين أصابعه
الشبيهة بذراع طاحونة تعمل بعشرين شفرّة .
يبدو أن العمل الحقيقي قد
بدأ . فمنذ أن استلم الرجل الورقة الأولى ، وانتهى من قراءتها ، حتى راحت
يده بكتابة عشرات الصفحات تقييماً للصفحة الوحيدة التي كتبها آدم !!
(( ما الذي حدث بحق السماء ؟ هل سيكتب الرجل الأفعى مجلداً من النقد عن أفكار وضعت على ورقة واحدة كتبتها ؟
وإذا كانت مهارة الرجل وقدرته بذلك الشكل، فلماذا لم تكلفه وزارة “ الحواس “ بكتابة ما طلبته مني شخصياً ؟)).
قال ذلك آدم . فيما عيناه تسترقان النظر للتلصص على ما كان يحدث في القاعة .
بمجرد
أن انتهى الأول من قراءة الصفحة التي كتبها المؤلف المنتدب ، تناولها منه
الرجل الثاني مع ما كتبه الأول عنها من نقد وأفكار ، فراح يقرأ ويكتب ويضع
العلامات والخطوط على تلك الصفحات ، وتلك المرة بحبر من لون آخر . لم يشعر
آدم بغرابة ما كان يحدث أمامه . فقد استغرق بالكتابة دون رحمة بنفسه أو
بطوروس .
“ دعهم يكتبون تاريخ موتك . أهذا ما تخشاه ؟ طزّ . دعهم يقولون
للملك أن آدم شتمّك ومسحّ عرشك بالأرض . هل ثمة خوف أكثر مما تسبح فيه
سباحة الآن ؟ “ .
فجأة تنقطع أفكار آدم ، عندما رأى الرجل الثالث ينهض
من مقعده باتجاه جهاز الفوتوكوبي ، لتصوير الصفحة إلى نسخ عدة ، بعدها
ليعود لمكانه ويبدأ بتدقيق ما كتبه المؤلف. بالطبع مع بقية الملاحق
والتعليقات التي كتبها الرجلان من رفاق شعبة “ الصم البكم النطق “ ثم
ليبدأ هو الآخر بالكتابة الفورية ، على غرار ما فعله الرجلان من قبله .
العملية
بدأت تتكرر على المنوال نفسه . فما أن ينتهي آدم من كتابة صفحة ، حتى يقوم
الثلاثة بمراجعتها والكتابة عنها .لذلك لم يعط آدم انتباهه للرجال . ترك
أصابعه تنحت في الورق أفكاراً وصوراً وحوادث . عرف الروتين الآلي لمهمتهم :
تصحيح الأفكار بما يتماشى مع الخطط التي لديهم ، وكتابة التقارير عن عقل
المؤلف وتوجهات الرواية ومسيرة أحداثها .
هكذا خمن آدم الوضع في تلك
اللحظات . ثم غرق بكتابة الصفحات ، الواحدة تلو الأخرى . كان مناخ الغرفة
كثيفاً بدخان الحشيش وعطر الكافور والموسيقا التصورية لأفلام الرعب . وبين
الفينة والأخرى ، تدخل امرأة من طراز النساء المخيفات ببشاعتهن ، ممن
يعملنّ في ذلك المبنى ، لتقديم الأطعمة والمشروبات وشحن الموجودين بمظاهر
الطقوس الشبحية .
وفيما كان آدم منهماً بالكتابة وغارقاً بعرق جسمه،اقتحم وزير الحواس الغرفة عليه بشكل مفاجئ . ليخاطبه :
ضع
نفسك في حلبة ثيران يا آدم، وتشبه بدور المصارع الذي تلتهب بيديه النبال .
أليس اليوم الواحد تحت خيمة طوروس ، يوماً ثقيلاً ، يقف كالسيخ في
القصبة ، ويعادل قرناً من الزمن ؟
_ نعم سيدي . أنا أفكر بقلب مفتوح.
ردّ عليه آدم كمن يتوقع صفعة .
_
لا تقل هذا . فالقلب المفتوح محطة مبتذلة . أتعرف لماذا يا آدم ؟ لأنه
يصبح مكاناً تتجمع فيه الحشرات ومخالب الطاعون والنفايات . ردّ عليه
الوزير مضيفاً :
العنصرية التي عانيت منها في بلادك القديمة ، ليست أقل
ضرراً على عقلك وبنيانك وتاريخك من التعصب هنا . أتذكر كم يزخر الشرق
بالتمييز العنصري ما بين رجل والمرأة . ما بين الدولة وبين المواطن العادي .
ما بين الإقطاعي والفلاح . ما بين راكب المرسيدس والمواطن الحافي . ما بين
الباشا والمعدم . مابين لصوص الحكومات وحرامية البساتين والأسواق. ما بين
تجار السياسة ومنتجي فلسفة الطواحين . إنها الأوبئة الدائمة للفقر والجوع
والقمع والاستلاب التي لا تُردم في الذهن .
ليست عنصرية الشرق في اللون
أو العرق أو الانتماء ، كما هي في الغرب . عنصريتنا متطورة وإبداعية شكلاً
وتكويناً ومحاكاة . تتشكل في السلطة ومراتبياتها ، وفي الحبّ وعناوينه
الكثيرة . في الطعام والحوار والملبس والحلم .
أجل يا آدم . فالعنصرية تراث من طراز معقدّ . وهي ضربة قاضية لماهيّة الإنسان .
الشرق
الذي هربت من عبودياته المختلفة ، لتلتجئ للغرب الديمقراطي المفتوح ،
سيستعيدك ذات يوم ، مادمت ترفض عبودية الغرب لك . لذلك ترى الاثنين - الغرب
والشرق أقصد - يدفعان بك الى الحفرة . فحيث ترفض استعبادية الغرب ، يضغط
عليك الفرنجة ، لتعود الى مواقعك الأولى عبداً لأنظمة ما تزال مُستعبَدّة
من قبلهم . وتالياً ، لتكون منضبطاً داخل السرب . إنها ينابيع الاستبداد
القديمة . ولكن تذكر ، بأن من يبتسم لك في هذه البلاد ، إنما يشتم سلالتك
في أفضل تقدير أو احتمال .
لفظ الوزير تلك الكلمات وخرج. آنذاك قال
الرجل الأفعى لآدم : لقد أجهدت نفسك اليوم كثيراً . فرأفة بها وبنا . أجل .
كتبت ثلاثة فصول يا صديقي آدم . ولا بدّ من استراحة . هيّا . سنقوم بجولة
من أجل شحن دماغك .
__ ولكنني أملك الرغبة بكتابة المزيد . فكل ما أنجزته لا يتعدى مائة صفحة .
ردّ آدم مرتبكاً .
_
أنت كتبت مائة صفحة ، ونحن كتبنا عنها تقريراً بمئات الصفحات . لا بدّ من
التوقف لشحن عقولنا بما فقدّته من طاقات . فنحن في شعبة الحواس ، مثلنا مثل
البطاريات . تستنفذ قواها ، فيما لو استمرت بالعمل مطولاً . لذلك لا ننشد
استهلاك طاقاتنا دفعة واحدة . ليكن ذلك معلوماً لديك يا آدم . صحيح السرعة
مطلوبة بالنسبة للعدائين ، ولكن ليس لأن تصبح مقتلاً لهم .
أجابه الرجل الثالث ، وهو يجمع الأوراق ويضعها في اضبارة حمراء .
بعد
ذلك بلحظات ، يتجه المراقبون الثلاثة بمعية آدم نحو الخارج . شعر آدم ببعض
مشاعر الإرتياح تغمره من ذلك الإجراء . فكرّ بأن الرجال سيذهبون به الى
مطعم فاخر لتناول وجبة دسمة تليق بما كتبه من صفحات عن تاريخ طوروس المعتق
بالقتل والدماء والجنون والمفارقات ، وبالتالي ، ليعوض عما استهلكه من
حُريرّات في أثناء التأليف عن بعض جوانب شخصية الملك . أو ربما سيذهب به
مرافقوه الى سهرة حمراء ، تشحنه نساؤها بطاقات وطاقات اضافية لاستكمال
العمل في الغد والى ما بعد بعد بعد الغد . إلا أن الخيبة ضربت رأس المؤلف
في الزاوية الموجعة . عندما عرف بأن ما تخيله ليس إلا وهماً بوهمّ . فقد
أخذه مرافقوه لأمكنة تضج بروائح التعذيب والرعب واللاحياة . هناك امتلأت
عيناه بما كان يجري في سجون فروع الأمن وأقبيتها . أخبره مرافقوه بأن ما
كتبه في الفصول الثلاثة ، لا يرقى للمستوى المطلوب . لذلك جاءوا به في هذه
النزهة ، لتحفيز ذاكرته على تخزين صور أكثر رعباً وأشد هولاً في كوارثها ،
بهدف الاستفادة منها في عملية التفريغ، أو ما يسمى بالتدويّن الروائي