ككل عقد ينصرم، يمضي العقد
المنصرم بما أتانا به من نائبات أو بشائر، إلا أنه يختلف عن عقود سبقته في
دلالات بعض أحداثه وأثرها، ليس على سير الحياة فحسب بل على بعض مفاهيم
ومبانٍ معرفية. ويتسع الأثر بفعل قراءات قاصدة بالأصل تسليط الضوء على حدث
بعينه أو بفعل قراءات تدليلية يُقصد بها الإشارة إلى متغير ما حصل خلال
العقد. ومع هذا يظلّ لبعض الأحداث وقعها الخاص وأثرها غير الاعتيادي، أو أن
ظواهر قائمة على محور الزمن تتخذ تجسيدا أوضح لها في مرحلة ما. وهو ما حصل
في رأينا في العقد المنصرم. وسنحاول هنا أن نشير إلى ما نعتبره استثناء في
هذا العقد يكسر رتابة الزمن أو يصدع المفاهيم ويفكّكها، في حقلين واسعين
هما حقل الدولة وحقل العنف بما تطور لهما من إرث في العصر الحديث.
دولة العقد الاجتماعي
لقد تلقّت دولة العقد الاجتماعي ضربة قاتلة في تفجيرات 11 سبتمبر لجهة
أنّ هذه التفجيرات وما أعقبها من نجاحات للإرهاب الدولي نسفت نقطة التوازن
التي تقوم عليها، وهي تنازل الفرد عن حرياته الطبيعية للدولة على أن تلتزم
بضمان أمنه الشخصيّ والأمن العامّ. فقد اتّضح أن الدولة عجزت عن منع
التفجيرات التي بدت نوعا جديدا من العنف ضدّ الدولة وضدّ العقد الاجتماعي
برمّته. فالفاعلون استهدفوا الدولة في أخطر موضع في علاقتها بمواطنيها، وهو
التزامها بضمان الأمن لهم، وضمان سير الحياة وفق ما يتوقعونه بحكم
المعاهدة الاجتماعية معها. أناس من داخل/خارج المجتمع ينسفون أحد أهمّ
مقوماته، وهو الأمن. بمعنى أنّ قوى خارجية عن الدولة استطاعت وبشكل خارج عن
المألوف في هوله وحجم التدمير الكامن فيه، أن يشوّشوا وظائف الدولة
الأساسية. فمقتضيات الأمن الذي بات مهدّدا انعكست تعطيلا لحقول الحياة
الأخرى لا سيما حرية التنقّل وسير العملية الاقتصادية. والدولة (السلطة)
محتكرة العنف والإجراءات العقابية باتت مهددة هي نفسها كإطار وناظم للحياة
الاجتماعية وحاميتها. وقد ألفت دولة العقد الاجتماعي نفسها أمام تحديات
جديدة فُقد فيها الأمن وقيّدت الحريات بدعوى استعادة الأمن الأمر الذي
ينافي تطور مفهوم العقد الاجتماعي في الدولة اللبرالية ويضعه على طاولة
التفكيك.
بناء على ما تقدّم فإنّ تفجيرات 11 سبتمبر ربما شكّلت، قصد الفاعلون أو
لم يقصدوا، بداية نهاية دولة العقد الاجتماعي في مستوى التوازن الذي أقامته
بين الحريات الشخصية وبين الأمن الشخصي والسلامة العامة.
انحسار الدولة القطرية
لوحظ في العقد الأخير تسارع سيرورات انحسار قوّة الدولة القطرية أمام
عاملين اثنين هما العنف أو الإرهاب، كما بيّنا آنفا، والعولمة كسيرورة هدم
الحدود ودكّ الحصون الوطنية والهويات وإنتاج بدائل لها. بل إنّ يورغن
هبرماس حدّد جملة عوامل أضعفت الدولة القطرية الديمقراطية، تحديدا بفعل
سيرورات العولمة المتمثّلة أساسا في تراجع سيادة الدولة والحكومات أمام
هيمنة السوق والمؤسسات المالية وحركة رأس المال والعمالة. بل أمكننا أن
نضبط الدولة القطرية أحيانا في وظيفة المقاول الثانوي للسوق وقواه
المندفعة. وهذا يعني أنّ قرارات الدولة القطرية تأتي بضغط من قوى السوق
العالمية، بينما تعجز هذه الدول أحيانا عن تحديد سياسات داخلية أو تطبيق
قرارات أو تنفيذ سياسات بفعل الموانع الاقتصادية المتمثلة في قوى السوق
التي تحول دون ذلك. ويلاحظ بعض علماء الاجتماع أن قوة الاندفاع في أساس
نظام السوق العالمية من شأنها أن تعتبر الدولة حجر عثرة ينبغي تجاوزه أو
تدوير زواياه، كي تمرّ السلع والرأسمال وتتمّ التعاقدات ويتوفّر الربح. بل
يذهب هبرماس إلى الاعتقاد بأنّ ما ألفناه من صيغ متعددة للعقد الاجتماعي
إنّما يناسب الدولة الديمقراطية اللبرالية فحسب، وقد لا يكون مناسبا البتّة
لنظام العالم الدولة. بمعنى، أنه يلفت انتباهنا إلى حقيقة المتغيّرات التي
تقوّض الديمقراطية كما تعوّدنا عليها منذ الحرب العالمية الثانية. فإذا
كانت تلك الحرب أنتجت ما سمّي "ما بعد الحداثة" أو "الحداثة المدرِكة"،
فإنّ المرحلة الحالية هي في مفهوم زيغمونت باومن مرحلة "الحداثة السائلة".
وهو يلتقي في هذا المنعطف بهبرماس الذي يشير إلى قوّة الدفع الساعية إلى
تجاوز الحدود والمباني والمفاهيم المتعارف عليها في مفهوم الدولة ومحيطها
نحو آفاق مفتوحة.
تغيّرات في مفهوم العنف/الحرب
يتّصل هذا المحور بالمحور الذي سبقه إلى حدّ ما، خاصة إذا اعتبرنا أنّ
العقد الاجتماعي في منتهاه أوكل استخدام العنف والعسف والعقوبة للدولة
كمحتكرة لهذا الامتياز، تثبيتا للأمن والسلامة العامّة. فقد تمّ تحريك هذا
المفهوم في صالح الدولة أو مجموعة دول من خلال تغليب مفهوم الحرب
الاستباقية في إطار الردّ على الإرهاب، أو في إطار سعي قوة دفع العولمة إلى
التخلّص من كلّ ما يُعيق دورتها وجريانها إلى أمام. وهو ما حدث بعد 11
سبتمبر في ما أسمي ملاحقة الإرهاب ومكافحته، وفي الحرب على أفغانستان، ومن
ثمّ على العراق. وفي الحالتين عمدت الدولة أو الدول إلى مصادرة الحريات أو
تعليقها على مدى زمن طويل ومساحات بين ـ قارية. بل شكّلت الدولة المغمورة
سجونا مؤقّتة أو أقبية تعذيب لدول كبرى لا تزال دساتيرها تحرّم التعذيب
مثلا، أو مصادرة الحريات دون محاكمات علنية وإجراءات عادلة. بمعنى أنّ يد
الدولة صارت أسرع في انتهاك الحريات أو في الخروج إلى حروب استباقية من
الجوّ، بدعوى إزالة حواجز معيقة مثل الإرهاب الدولي أو دول عاصية تمنع
انسياب الموارد مثل النفط أو الرأسمال أو أفكار العولمة ومنتجاتها.
إلا أن مفهوم العنف تغيّر من الاتجاه المعاكس، أي من جهة الخارجين على
الدولة ونظام العولمة. بل إنّ اتخاذ التطور سمة العولمة أنتج عنفا يتخذ هو
كذلك سمة العولمة. فالعنف المنظّم الذي اعتمدته حركات المناهضة للعولمة
سرعان ما تلاشى أمام العنف الدموي الموجّه ضدّ الدول المعولمة أو اللاعبة
بقوّة ضمن هذه السيرورة. فقد عادت القرصنة من أوسع أبوابها في أكثر من موضع
في العالم، وازدهر نشاط إرهابي عابر للقارات باسم الإسلام أو بدعوى مناهضة
هيمنة الغرب وطغيانه! لقد قبل العالم في مرحلة التحرر وما بعد الحرب
العالمية الثانية أشكالا من العنف لغرض مقاومة الاحتلالات والتحرر، وهو ما
أقرّته قوانين وأعراف دولية ومواثيق لا تزال تتضمّن شرعنة لهذا النوع من
العنف، خاصة ذاك المقرون برغبة في إحقاق حقّ تقرير المصير للشعوب. لكن يبدو
أنّ عنف المرحلة الراهنة الذي تعتمده منظمات أصولية دينية أو باسم الدين
خرج من تعريفات المواثيق والمعاهدات وسقطت عنه الشرعية تماما، الأمر الذي
استقدم عليه مواجهة عالمية أو تنسيقا أمنيا عالميا. إلا أنّ التحدّي
بالنسبة للدولة أو مجموعات الدول لا يقتصر على الإرهاب من منطلقات
أيديولوجية، فقد سبقه أو زامنه الإرهاب الاقتصادي المتمثّل في الإجرام
المنظّم الذي حدث أن خطف الدولة أو بعض مؤسّساتها كما حصل في إيطاليا أو
غيرها.
في محصلة السيولة في المحورين المذكورين أمكننا أن نرى تطوّرا لافتا في
الشرط السياسي الذي يشهد تغيّرات أبرزها الانتقال السريع من حالة
الاستقرار إلى حالة الطوارئ، من الحالة العادية إلى الحالة الاستثنائية
التي تتيح للدولة أو مجموعة الدول تعليق العمل بالعقد الاجتماعي لصالح
تصريف أمور عالقة كالعنف. ويشهد العالم في ديمقراطياته الكلاسيكية العريقة
سرعة أكبر في تعليق العمل بالنظام الديمقراطي لغرض تفادي ضربات إرهابية أو
باسم محاربة الإرهاب. وإذا ما ذهبنا في مسار التفكير بعقلية نوعمي كلاين
و"نظرية الصدمة"، فإنّ القوى المتنفّذة عالميا تسعى مستفيدة من المتغيّرات،
إلى زيادة أرباحها أو الخروج "منتصرة" من الوضع الراهن. فهي قادرة بوجود
مراسيها ومراكز قوّتها في عدة مواقع من العالم، على استيعاب الضربات
الإرهابية أو الاهتزازات المالية أو السياسية والمضيّ قدما. وهنا تصير
الدول ركائز لها أو مراكز ثقل تساعد على احتواء التطورات. كأنّ هذه القوى
ماردٌ كونيٌّ له أطراف لا حصر لها يرتكز عليها في وقوفه أو حركة انقضاضه،
ولا ضير أن ذهبت دولة أو حكومة أو تغيّرت حدود لغرض الحفاظ على المصالح
والتوازن وسط السيولة والهيولة الراهنتين!
سأدّعي في الختام أنّ اتجاهنا نحو العالم - الدولة، من خلال التأسيس
لكيان هو الأكبر فيما عرفناه من كيانات سياسية متكاملة أو شبه متكاملة،
يُفضي بالضرورة إلى ضعف الدولة باعتبارها الوحدة السياسية الأساسية التي
عرفناها معيارا لفهم الديمقراطية والعقد الاجتماعي والعنف وسلطة القانون
وحقوق الإنسان والمواطن. وكلّما كبر الكيان السياسي واتّسعت حدوده ارتخت
أطرافه وكان أكثر عرضة لظهور مراكز قوة في مساحته. وعلى عكس الإمبراطوريات
القديمة والحديثة فإنّ هذا الكيان سيعترف ويقرّ بوجود "محميّات" أو "مراكز
مستقلّة" هي دول أو كيانات مشابهة (كثيرة هي الدول التي اتخذت هذا الشكل في
العقدين الأخيرين)، وسيكون قادرا على العيش معها طالما أنها لم تشكل عائقا
جديا لحركته واندفاعه.