ترى هل ما زالت اليونان أرض
الفلاسفة؟ هل الأوروبيون اليوم يحملون التصوّرات الكونيّة الموجودة في
إرثهم الفلسفي؟ أم أن رحابة الكون عند الفلاسفة القدماء ضاقت لتتمركز في
بقعة جغرافيّة محدّدة، وبالتالي ضاقت مع هذا التحديد الأسئلة الكونيّة
لتتحوّل إلى أسئلة عابرة منسيّة؟
هل هناك مجال اليوم للحديث عن وحدة الوجود في ظلّ انقسامات وصراعات وحروب
وأسلحة نوويّة وعداوات دينيّة… تفرغ الوجود من معناه؟ قد يكون أهمّ ما
يستطيعه إنسان اليوم هو العودة إلى ذاكرته الإنسانية الفلسفية التي أعطت
للوجود معنى كونيّاًّ، وإذا ماقيل أن هذه ماضويّة، فنِعْم الماضويّة أن
نعود إلى ماض ليس بماض طالما أنّ فلاسفة الإغريق فلاسفة كون، فلاسفة أسئلة
لاتنتهي بانتهاء زمان ومكان محدّدين. "بارمنيدس" واحد من أولئك الفلاسفة
العظام الذين كان لديهم تصوّر مميّز للوجود فاستحقّ أن يدعوه أفلاطون
"بارمنيدس الكبير"
وضع بارمنيدس (540-؟ق.م) كتابه (في الطبيعة) شعراً، فكان أول من نظم الشعر
في الفلسفة، وكتابه قسمان: الأول في الحقيقة، والثاني في الظن (أي العلم
الطبيعي) فالمعرفة عنده نوعان: عقلية وهي ثابتة كاملة، وظنّيّة وهي قائمة
على العرف وظواهر الحواس، فالحكيم يأخذ بالأولى ويعوّل عليها كلّ التعويل،
ثم يلمّ بالأخرى ويقف على مخاطرها ويحاربها بكلّ قواه.
الحقيقة الأولى عند بارمنيدس هي (أنّ الوجود موجود، و لا يمكن إلا أنْ
يكون موجوداً)، أما اللاوجود (فلا يُدرَك إذ أنه مستحيل لا يتحقق أبداً،
ولا يُعَبَّر عنه بالقول، فلم يبق غير طريق واحد هو أنْ نضع الوجود، وأنْ
نقول أنه موجود).
الفكر عند بارمنيدس قائم على الوجود، ولولا الوجود لما وُجدَ الفكر، (لأن شيئاً لا يوجد ولن يوجد ما خلا الوجود).
ولما كان الوجود عند بارمنيدس موجوداً، فهو قديم بالضرورة، إذ يُمتنَع أن
يحدث من اللاوجود، ويمتنع أن يرجع حدوثه مرجّح في وقت آخر، فليس الوجود
ماضياً ولا مستقبلاً، ولكنه في حاضر لا يزول، وعلى ذلك ( يُمتنع الكون،
ولايُتصوّر الفساد) وينتفي التغيّر.
الوجود والواحد عند بارمنيدس متكافئان، فيلزم أنّ الوجود واحد فقط، متجانس
(مملوء كلّه وجوداً) ويلزم أنه ثابت ساكن في حدوده (مقيم كلّه في نفسه) إذ
ليس خارج الوجود ما منه يتحرّك، وما إليه يسير.
هو كامل متناه، أي معيّن (لا ينقصه شيء) إذ ليس خارج الوجود وجوداً يُكتسب.
هو تام التناهي والتعيين في جميع جهاته، إذ لا يمكن أن يكون بعضه أقوى من
بعض أو أضعف من بعض، مثله مثل كرة تامة الاستدارة، متوازنة في جميع نقطها.
اقتنع بارمنيدس أنّ العالم واحد ورأى أنّ ما يطلق عليه بهذا الاعتبار هو أنه وجود.
تأمل بارمنيدس معنى الوجود مجرّداً ومفرغاً من كلّ مفهوم سوى هذا المفهوم
البسيط الهزيل الذي يعني الوجود بالإطلاق، فأدرك أنّ الوجود واحد قديم
كامل، وأنّ هذه الصفات لازمة من معنى الوجود، فآثر هذا اليقين العقلي وأنكر
الكثرة والتغيّر واعتبرهما وهماً و ظنّاً.
لكن بارمنيدس اضطرّ أن يتبع الظواهر المحسوسة، وقال إن الأشياء (واحدٌ في
العقل، كثيرٌ في الحس) فانتقل من يقين العقل إلى ظنّ الحواس، ومن الفلسفة
إلى العلم الطبيعي يحاول أن يفسّر الظواهر، وإنْ ورد ما يبلغ إليه الظنّ
فيها، فقبل الوجود واللاوجود في آنٍ واحد، وهو يعلم أنّ هذا طريق معارضٌ
للعقل، ولكنه يعلم أيضاً أنه أهون عند العقل من طريق الذين يعتقدون (أنّ
الوجود واللاوجود شيء واحد، ثم أنهما ليسا شيئاً واحداً) وبالطبع هو يشير
هنا إلى معاصره "هيرقليطس".
تصوّر بارمنيدس الوجود الكامل غير المنقسم كرة مادية. إنّ ميزة بارمنيدس
هي أنه فيلسوف الوجود المحض، تجاوز عالم الظواهر وعالم الأعداد والأشكال
وبلغ الموضوع الأول للعقل وهو الوجود، لقد بهره معنى الوجود فلم يعد يرى
غير أمر واحد هو (أنّ ما هو موجود فهو موجود ولا يمكن إلا أنْ يوجد) وأنّ
(الوجود موجود واللاوجود ليس موجوداً، ولامخرج من هذه الفكرة أبداً).
إنّ فلسفة بارمنيدس هذه لا تستقيم أبداً مع ما جرى ويجري في حضارتنا
الإنسانية المعاصرة فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تم ترتيب العالم في
هرميّة تشوّه استدارة وجود بارمنيدس وتفتّت العالم الواحد إلى ثلاثة
عوالم، أعطي عالمنا رقم ثلاثة فأصبحنا كائنات من الدرجة الثالثة على اعتبار
أن العالم الأول هو (الصناعي الرأسمالي) والعالم الثاني هو (الاشتراكي)،
أما نحن فنشكّل العالم الثالث.
فإذا ما انسجمنا مع نظرة بارمنيدس إلى الوجود في أنه تام التناهي والتعيين
في جميع جهاته، إذ لايمكن أن يكون بعضه أقوى أو أضعف من بعض، مثله مثل كرة
تامة الاستدارة، متوازنة في جميع نقاطها وأنّ العالم واحد، نجد أنفسنا
أمام أسئلة ملحّة :
هل يحقّ للإنسان أينما وجد في هذا العالم أن يقسمه وفق تراتبيّة تخدم
مصلحته؟ هل يحقّ لكائن موجود كوجود الآخر أن يرسم حدود وجود الآخر ويحدّد
صفات هذا الوجود؟ هل يجوز تحويل دائرة العالم إلى هرم يعلن مركزيّة جهة من
العالم وهامشيّة أخرى؟