مقدمة المترجمة: يناقش رورتي في هذا المقال آراء بعض الفلاسفة الأمريكيين ونظرائهم
الأوروبيين الذين تناولوا البحث في مفهوم الحقيقة من زوايا مختلفة. وهو
يسوق في هذا العرض حجج بعضهم ليعزِّز موقفه في النظر إلى الحقيقة بوصفها
اتفاقاً متبادلاً بين الذوات، أي الحقيقة من وجهة نظر التضامن، وليؤكد على
ضرورة ردِّ الموضوعية إلى التضامن وذلك بالتخلي عن مفاهيم التمثل والتطابق.
وقد ارتأينا ضرورة التعريف بالفلاسفة الذين يناقش رورتي آراءهم، نظراً لكونها غير معروفة للقارئ العربي. ومن هؤلاء:
هيلاري بوتنام (I)(1926- Hilary Putnam): فيلسوف أمريكي بارز منذ ستينات
القرن الماضي، وخاصة في فلسفة العقل، وفلسفة اللغة، وفلسفة العلم.
تبنَّى، في البداية، النزعة الواقعية - التي توصف أحياناً بأنها واقعية
ميتافيزيقية metaphysical realism- ولكنَّه تخلَّى، في أواخر السبعينات، عن
هذه الواقعية لأنه رأى في الفجوة القائمة بين إدراك المرء للعالم وبين
الصورة التي يوجد عليها العالم بالفعل، شيئاً منافياً للعقل نظراً لعدم
امتلاك المرء وجهة النظر الإلهية، لكونه مقيداً بمخططه المفاهيمي. ومن
ثمَّ، فالواقعية الميتافيزيقية وفقاً لبوتنام، هي نظرية خاطئة، ويعزو
المشكلة الرئيسية فيها إلى إخفاقها في إيضاح العلاقة بين المعايير المرجعية
والحقيقة.
وبعد ذلك، تبنَّى "بوتنام" وجهة نظر سماها "النزعة الواقعية الباطنية
internal realism" التي تقول إنه رغم أنّ العالم مستقلٌّ، من وجهة النظر
"العلية"، عن الذهن البشري، فإن بنية هذا العالم -أي تقسيمه لأنواع وأفراد
وفصائل- هي وظيفة الذهن. ومن ثمَّ، فالعالم ليس مستقلاً عن الذهن البشري
استقلالاً "أنطولوجياً".
ولكنّ "بوتنام"، في نهاية الثمانينات، تحرَّر تدريجياً من وهم ما يسمى
بالنزعة العلموية وتخلى من جديد عن مفهوم النزعة الواقعية الباطنية، لأنها
تفترض مجالاً معرفياً مشتركاً بين الذهن والعالم الخارجي. وتحت التأثير
المتزايد لجيمس والبراغماتية، تبنَّى ما يسمى بالواقعية المباشرة التي تهدف
في نظره إلى إعادة دراسة الميتافيزيقا لطريقة تجربة البشر، بشكل فعلي،
معارضاً فكرة التمثُّل الذهني والمعطيات الحسية وجميع أشكال الوساطات
الأخرى بين الذهن والعالم الخارجي.
ويرى رورتي أنَّ «الموقف الذي يمثِّل عدم وجود اختبار مستقل لدقة التطابق،
هو صلب حجة "بوتنام"، التي تقرِّر أنَّ مفاهيم مثل "مرجع" -أي المفاهيم
الدلالية التي تربط اللغة باللالغة- هي مفاهيم باطنية بالنسبة لرؤيتنا
الكلية للعالم. ومن ثمَّ، فإنَّ محاولة دعاة النزعة التمثيلية تفسيرَ نجاح
الفيزياء الفلكية وإخفاق المنجِّمين، ما هي في نظره، إلا مجرد مجاملة
فارغة، ما لم نستطع الوصول إلى امتلاك ما أسماه نقطة ابتداء النظر الإلهية،
وهي نقطة تسمح، إلى حدٍّ ما، باستعمال لغتنا ومعتقداتنا واختبارهما، في
مقابل شيء معروف دون الرجوع إليهما. غير أنَّنا لا نعرف ما يتعيَّن علينا
فعله، لكي نصل إلى نقطة الابتداء تلك.»(II)
وتحت تأثير فجنشتين، انتهى "بوتنام"، في نهاية المطاف، إلى تبنّي الرؤية
التعددية للفلسفة، فدأب على طرح الكثير من المشكلات الفلسفية بوصفها لا
تزيد عن كونها التباسات لغوية يخلقها الفلاسفة باستخدام لغة عادية خارج
سياقها الأصلي. من أعماله
"Philosophy of Logic, 1972", "Mind, Language and Reality,
1975","Reason, Truth and history, 1981", "Philosophy of Mathematics,
1983","Realisim and reason, 1983", "Pragmatism: An open Question,
1999","Enlightenment and Pragmatism, 2001","Jewish Philosophy as a Guide
to Life, 2008".
وأما دونالد ديفيدسون (III)(1917-2003 Donald Davidson): فهو فيلسوف
أمريكي، حظيت أعماله بتأثير هام في مجالات فلسفية متعددة، وبخاصة في فلسفة
العقل، وفلسفة اللغة ونظرية الفعل. وعن موقفه من التمثُّل يرى أنه ليس
ثمَّة احتمال لأنْ يتبنَّى شخصٌ ما موقفاً نافعاً للمقارنة بين المخططات
التصورية -مثل: مخططات المنجِّمين وعلماء الفيزياء الفلكية- إلا إذا أهمل
مخطَّطه الخاص بصورة مؤقتة. من أعماله:
"Actions, Reasons, and Causes, 1963, Truth and Meaning, 1967, Mental Events, 1970"
أما ماري هيسّه (IV)(1924- Marry Hesse): فهي فيلسوفة علم إنكليزية. أهم
أعمالها: "Models and Analogies"، وتبيِّن فيه، أنَّ النماذج وقياسات
التمثيل مكمِّلة لفهم الممارسة العلمية بعامة، والتقدم العلمي بخاصة،
وخصوصاً الكيفية التي تولِّد النظريات وفقاً لها تنبؤات جديدة، على نحو
حقيقي. وترى أننا لكي نفهم نظاماً جديداً أو ظاهرة جديدة، فغالباً ما نخلق
نموذجاً تمثيلياً، يمكننا من خلاله مقارنة النظام الجديد أو الظاهرة
الجديدة مع النظام أو الظاهرة الأكثر ألفة بالنسبة لنا.
وميشيل بولاناي(V)(1891-1976 Michael Polanyi): هنغاري بريطاني من أسرة
يهودية، عمل في مجالات امتدت إلى فروع متنوعة مثل الكيمياء والفيزياء
والاقتصاد بالإضافة إلى الفلسفة. ناهض الفلسفة الوضعية، وانتقد المفهوم
القائل بوجود منهج علمي يستطيع العلم من خلاله أن يزودنا بحقائق، بصورة
ميكانيكية، مع أنه يؤيد القول بوجود حقيقة موضوعية. من أعماله:Personal
Knowledge: Towards a Post-Critical Philosophy, 1958"", Knowing and
Being, 1969"" ومجموعة مقالات نشرت بعد وفاته بعنوان: Science, Economics
and Philosophy, 1997"".
وأما ميشيل أوكيشوت (VI) (1901-1990 Michael Oakeshott): فهو فيلسوف
إنكليزي، أكثر ما اهتمَّ به هو الفكر السياسي، وفلسفة التاريخ، والتربية
والدين وعلم الجمال. وهو واحد من المفكرين المهمِّين المحافظين في القرن
العشرين. من أهم أعماله:
Rational in Politics and Other Essays, 1962"".
وأخيراً، ويلرد فان أورمان كواين (VII) (1908-2000 Willard van Orman
Quine): فهو فيلسوف ورياضي أمريكي، له إنتاج ضخم في مجالات مثل: المنطق
الرياضي، فلسفة اللغة، وفلسفة المنطق. كرس جانباً كبيراً من كتاباته
الفلسفية لمشكلات تتعلَّق بـ "الوجود والمعنى". من مؤلفاته: "Mathematical
Logic" و"The Ways of Paradox" "Word and Object".
نص رورتي: إنَّ وجهة النظر التي أدعوها "بالبراغماتية"، هي في الغالب، وليس تماماً،
تشبه ما يدعوه "هيلاري بوتنام" "المفهوم الواقعي الباطني (VIII)
للفلسفة"(1) في أحدث كتبه "العقل، الحقيقة والتاريخ". وقد عرَّف "بوتنام"
هذا المفهوم بأنَّه أحد المفاهيم التي تتخلى عن محاولة امتلاك وجهة النظر
الإلهية للأشياء، وهي محاولة متَّصلة بما هو فوق إنساني، والتي أدعوها
"الرغبة في الموضوعية". ولسوء الحظ، فقد اقترن دفاعه عن وجهات النظر التي
يتبنَّاها الفيلسوف اللاواقعي، والتي أوصيت بها، بالهجوم العنيف ضد
الكثيرين ممن يحملون هذه الآراء، أمثال: "كون" و"فيراباند" و"فوكوه" وأنا
أيضاً. إذ يُوجَّه النقد إلينا بوصفنا "نسبيين". ويُظهِر "بوتنام" "النزعة
الواقعية الباطنية" على أنَّها موقف وسط مستحسن بين النزعة الواقعية
والنزعة النسبية. فهو يتحدث عن «انتشار النظريات النسبية التي تُسوَّق في
هذه الأيام.»(2) وبخاصة عن "الفلاسفة الفرنسيين" باعتبارهم «يمزجون مزجاً
وهمياً بين النزعة النسبية الثقافية وبين البنيوية.»(3) وعندما يشرع
"بوتنام" في نقد هذه النظريات، فالشيء الوحيد الذي يوجِّه هجومه إليه هو ما
يسمَّى "بأطروحة اللاتكافؤ" أي: «لا يمكن أن تتكافأ، سواء من حيث المعنى
أو المرجع، مصطلحات مستخدمة في ثقافة أخرى، مع أيٍّ من مصطلحاتنا أو
تعابيرنا.»(4) ومن الواضح أنَّه يتَّفق مع "دونالد ديفيدسون" في القول إنَّ
هذه الأطروحة تدحض نفسها بنفسها. ويعدُّ نقد هذه الأطروحة، على أية حال،
لبعض المقاطع المتسرِّعة التي نجدها في بعض كتابات "فيراباند" الأولى،
هدَّاماً على الأغلب. ولو وضعنا هذه الأطروحة جانباً، لصار من الصعب علينا
أن نتبيَّن كيف يختلف "بوتنام" نفسه عن أولئك الذين ينتقدهم.
"فبوتنام" يقبل وجهة نظر "ديفيدسون"، ويصوغها كالتالي: «إنَّ التسويغ
الكامل للمخطط التأويلي…..يجعل سلوك الآخرين، على الأقل وبالحد الأدنى،
معقولاً في ضوء رؤانا.»(5) ومن الطبيعي أن نمضي من ذلك إلى القول : ليس
بوسعنا تخطِّي نطاق تلك الرؤى، إذ لا يمكننا أن نستند إلى أساس محايد
مُفَسَّر فقط بواسطة النور الطبيعي للعقل. ولكن "بوتنام" يتراجع عن هذه
النتيجة. وهو قد فعل ذلك لأنَّه يفسر الزَّعم القائل : ليس بوسعنا تخطِّي
نطاق تلك الرؤى، لكون فكرنا مقيَّداً بما دعاه "قواعد من صنع المؤسسات"، أي
معايير متاحة بصورة علانية لتأسيس كل المجادلات، بما فيها المجادلات
الفلسفية. وهو يقول محقاً، ليس ثمَّة معايير كهذه، مجادلاً إنَّ القول
بوجودها يدحض نفسه بنفسه، تماماً كما هو الحال بالنسبة "لأطروحة
اللاتكافؤ". وأنا أظنُّ أنَّه محق تماماً في القول: أن تكون الفلسفة أو
تصبح بمثابة تطبيقٍ للمعايير الواضحة، هي فكرةٌ تناقض فكرة الفلسفة
ذاتها.(6) ويمكن التعليق على رأي "بوتنام" بالقول إنَّ "الفلسفة" هي بدقة،
ما تستطيع ثقافة ما أن تكون قادرة عليه، عندما تكفُّ عن التعريف بنفسها
بواسطة قواعد واضحة، وتصبح مرهفة ومتحضِّرة، بقدرٍ كافٍ، يمكِّنها من
الاقتناع بأنَّها لم تبلغ المهارة الكاملة، كما يمكِّنها من فهم الأشياء من
الداخل بدلاً من إخضاعها للقوانين، ومن الحوار مع الأجانب بدلاً من
إخضاعهم.
ولكن القول، إنَّه لا يمكننا إرجاع كل تساؤل إلى معايير واضحة من صنع
المؤسسات في مجتمعنا، لا يعبِّر عن وجهة النظر التي يصطنعها من يدعوهم
"بوتنام" "بالنسبيين". وعلى وجه الدقة، فإنَّ أحد الأسباب التي تجعل من
هؤلاء براغماتيين، هي أنَّهم يشاركون "بوتنام" عدم الثقة بالفكرة الوضعية
القائلة إنَّ العقلانية هي مجرَّد مسألة تتعلَّق بتطبيق المعايير.
وانعدام الثقة هذا أمرٌ مشترك، على سبيل المثال، بين كلٍّ من ”كون"
و"هيسيه" و"فيجنشتين" و"بولاناي" و"أوكيشوت". وعلى من ينظر إلى العقلانية
على هذا النحو أن ينتهي إلى الحلم بأنَّ "للصادق" معنى يختلف باختلاف
المجتمعات. فلا يستطيع إلا شخص كهذا أن يتخيل بأنَّ هناك شيئاً، يمكن للمرء
أن يعتبره بالقياس إليه، صادقاً نسبياً. وإذا ما تبنَّى أحد فكرة الوضعيين
المناطقة القائلة إنَّنا جميعاً نتعامل مع الأشياء وفقاً لما يُسمَّى
"قواعد اللغة" التي تنظم القول، عندها فقط سيقترح هذا الشخص أنَّه ليس
ثمَّة سبيل للمرء أن يتجاوز ثقافته.
ويجادل "بوتنام"، في القسم الأكثر أصالة وقوة من كتابه (IX)، بأنَّ
المفهوم القائل إنَّ «العقلانية… تتحدَّد بواسطة قواعد الثقافة المحلية» هو
مجرَّد نظير شيطاني للوضعية. وهذا المفهوم في نظره، «نظرية علمية مستوحاة
من الأنثروبولوجيا تماماً مثلما أنَّ الوضعية قد كانت نظرية علمية مستوحاة
من العلوم الدقيقة». وما يعنيه "بوتنام" بالـ "علموية (X)" هو المفهوم
القائل إنَّ العقلانية تكمن في تطبيق المعايير(7). ولكن، هبْ أنَّنا أسقطنا
هذا المفهوم، وقبلنا بوجهة نظر "بوتنام" الخاصة بتصور "كواين" في البحث،
بوصفه إعادة حبك متواصلة لنسيج المعتقدات، أكثر من كونه تطبيقاً للمعايير
على الحالات، عندئذٍ يفقد مفهوم "قواعد الثقافة المحلية" معانيه الإضافية،
بصورة مزرية. ومن الآن فصاعداً، فالقول إنَّ علينا العمل وفقاً لرؤانا، أو
أنَّ علينا أن نكون مركزيين عرقيين، هو مجرَّد القول إنَّ المعتقدات
المقترحة من جانب ثقافة أخرى، يجب أن تُفحص من خلال صبِّ محتوياتها في
المعتقدات التي نؤمن بها. والنتيجة المترتِّبة على النظرة الكليَّة إلى
المعرفة، تلك التي يشترك بها "بوتنام" مع الذين انتقدهم بوصفهم "نسبيين"،
هي أنَّه لا يتوجَّب علينا التفكير بالثقافات البديلة على غرار تفكيرنا
بالهندسات البديلة. ذلك أنَّ الهندسات البديلة لا يمكن الجمع بينها،
لأنَّها تنطوي على بُنى أكسيومية، وأكسيومات متناقضة، فهي مصممة على هذا
الأساس. أما الثقافات، فليست مصممة على هذا النحو، ولا تنطوي على بنى
أكسيومية. والقول إنَّها تنطوي على "قواعد من صنع المؤسسات"، مكافئ للقول
مع "فوكوه"، إنَّ المعرفة لا تنفصل أبداً عن السلطة، ومن ثم، فإنَّ المرء،
على الأرجح، يقع في الحيرة، إذا لم يكن لديه معتقدات محددة، في أزمنة
وأمكنة محددة. ولكن مثل هذه الدعائم المؤسساتية للمعتقدات تتخذ شكل
البيروقراطيات ورجال الشرطة، لا شكل "قواعد في اللغة" و"معايير في
العقلانية". وأما التفكير على نحو مختلف، فيوقعنا في المغالطة الديكارتية
في النظر إلى الأكسيومات، على أنَّها مجرد عادات مشتركة، وفي النظر إلى
العبارات التي توجز مثل هذه الممارسات، كما لو كانت تنمُّ عن أنماط من
الإكراه لمثل هذه الممارسات. وجانب من قوة هجوم كلٍّ من "كواين"
و"ديفيدسون" على التمييز بين التصوري والتجريبي، هو أنَّ التمييز بين
الثقافات المتباينة، لا يختلف من حيث النوع عن التمييز بين النظريات
المختلفة التي يتبناها أشخاص ينتسبون إلى ثقافة بعينها. فسكان تسمانية
الأصليون والمستعمِرون البريطانيون، واجهوا صعوبات في التواصل، ولكن هذه
الصعوبات تختلف، في الدرجة فقط، عن صعوبات التواصل التي عاشها كلٌّ من
"غلادستون" و"ديزرائيلي". والمشكلة في جميع هذه الحالات، هي الصعوبة في شرح
السبب الذي يجعل الآخرين يختلفون معنا، وفي إعادة صياغة معتقداتنا بحيث
تتناسب مع المعتقدات الأخرى التي قد نتبناها. وحجج "كواين" نفسها التي
يقررها تمييز الوضعيين، بين الحقيقة التحليلية والحقيقة التركيبية، هي
نفسها التي يقررها تمييز الأنثروبولوجيين بين العلاقات فيما بين الثقافات،
والعلاقة القائمة داخل الثقافة نفسها.
وعلى أية حال، فباتخاذ هذه الرؤية الشاملة غير القابلة للانقسام للمعايير
الثقافية، لن نكون بحاجة لمفهوم العقلانية الكونية العابرة للثقافات التي
استحضرها "بوتنام" ضد من دعاهم "النسبيين". وقبل أن ينتهي "بوتنام" من
كتابه يقول : حالما نُسقِط مفهوم نقطة ابتداء النظر الإلهية فإنَّنا سندرك
أنَّه: «بوسعنا أن نأمل فقط بإنتاج مفهوم، أكثر عقلانية، عن العقلانية، أو
مفهوم أفضل عن الأخلاقية إذا ما انطلقنا من داخل تقاليدنا
في حالة
العقلانية، بما لها من أصداء في الساحات الإغريقية، وعند نيوتن، وهلم
جرا..، وفي حالة الأخلاقية، بما لها من أصداء في الكتاب المقدس، ولدى
الفلاسفة، وفي الثورات الديمقراطية، وهلم جرا… وإذن فنحن مدعوِّون بصدق للانخراط في حوار إنساني.»(8)
وهذا ما أتفق معه تماماً وأقبله، وكذلك يفعل كل من "كون"، و"هيسيه"،
ومعظم هؤلاء، الذين يسمون "بالنسبيين"، وربما "فوكوه" أيضاً. وعند هذا الحد
يمضي "بوتنام" إلى طرح سؤالٍ إضافيٍّ: "هل لهذا الحوار نهاية مثالية؟ وهل
ثمَّة مفهوم حقيقي للعقلانية وللأخلاقية المثالية، حتى ولو لم نمتلك سوى
مفاهيمنا عنهما؟"
وأنا لا أفهم هذا السؤال. فـ"بوتنام" يقترح أن الجواب السلبي -وهو الرأي
القائل إنَّ "هناك حواراً فقط"- هو مجرد شكل آخر من دحض النسبية لذاتها.
ولكني ثانية لا أفهم كيف أن ادعاء وجود شيءٍ ما غير موجود، يمكن أن يفسَّر
بوصفه ادعاءً يقرر بأنَّ الشيء يعدُّ نسبياً بالقياس إلى شيء آخر. ويقول
"بوتنام" في الجملة الأخيرة من كتابه «إنَّ حديثنا عن مفاهيمنا المختلفة
بوصفها مفاهيمَ مختلفة للعقلانية، من شأنه أن ينتهي إلى مفهوم مقيَّد عن
الحقيقة المثالية.» ولكن ما الذي بوسع ذلك أن يفعله، باستثناء القول: يمكن
للعرق البشري، من نقطة ابتداء النظر الإلهية، أن يتقدم بالاتجاه الصحيح؟
ولا بدَّ أنَّ النزعة الواقعية الباطنية "لبوتنام" تمنعه، بكلِّ تأكيد، من
قول شيء كهذا. فالقول إنَّنا نعتقد أنَّنا نتقدم بالاتجاه الصحيح، قول
مكافئ لقول "كون"، إنَّه بوسعنا، من خلال النظرة الارتدادية إلى الماضي، أن
نسرده بوصفه رواية في التقدم. والقول إنه ما زال أمامنا طريق طويل، وأنَّ
وجهات نظرنا الحالية يجب ألا تُصبَّ في قوالب برونزية، هو أمر أتفه من أن
تتمَّ البرهنة عليه باستعمال مفاهيم مقيَّدة. ولذا فمن الصعب معرفة الفرق
المترتِّب على التمييز بين القول: "هناك حوار فقط" وبين القول: "هناك ما
يدور حوله الحوار أيضاً ".
ولذا سأقترح أن "بوتنام" هنا، وفي نهاية المطاف، قد عاد إلى العلموية
التي يدينها محقاً لدى غيره. وذلك لأنَّ أساس العلموية، هو الرغبة في
الموضوعية، وهو الأمل الذي يسميه "بوتنام" "ازدهار البشرية" ذو الطبيعة
العابرة للتاريخ. ويعرَّف هذا الأساس بأنَّه الرؤية التي تقرر إنَّ
العقلانية هي مجرد مسألة تتعلق بتطبيق المعايير.
وأعتقد أن "فيراباند" على حق في اقتراحه أنَّنا، ما لم نتمكَّن من
نبذ الصور المجازية في البحث، والفاعلية البشرية عموماً، من حيث هما تجميع
أكثر من كونهما توليداً، ومن حيث يميلان نحو التوحيد أكثر من ميلهما نحو
التنوع، فلن نكون أحراراً تجاه دوافعنا التي قادتنا يوماً نحو الآلهة. ومن
شأن وضع المفهوم المقيَّد أن يبدو مجرد طريقة في إخبار أنفسنا أن الإله غير
الموجود، إن وجد، سيكون مسروراً بنا. وإذا لم نكن مدفوعين إلا بدافع
التضامن وحده، واضعين الرغبة في الموضوعية، بالكامل جانباً، عندها
سنتبيَّن، أنَّ التقدم البشري بوسعه أن يمكِّن البشر من فعل أشياء أكثر
أهمية، وأن يكونوا أناساً أشدُّ أهمية، بدلاً من الاتجاه نحو مكان أُعِدَّ
لهم بصورة مسبقة. وعلى ذلك فإنَّ صورتنا عن أنفسنا ستوظِّف الصور للخلق بدل
الاكتشاف، تلك الصور المستعملة من قبل الرومانتيكيين لامتداح الشعراء
بدلاً من الصور المستعملة من قبل اليونانيين لامتداح الرياضيين. ويبدو لي
أنَّ "فيراباند" محقٌّ في تطوير صورة كهذه عن أنفسنا، ولكن يبدو أنَّ
مشروعه، من حيث هو"نزعة نسبية"، قد أسيء وصفه تماماً، من جانبه، ومن جانب
نقَّاده، على حدٍّ سواء.(9)
والذين يؤيدون "فيراباند" في هذا الاتجاه غالباً ما يُنظَر إليهم،
بالضرورة، على أنَّهم أعداء للتنوير، وعلى أنهم أعضاء في جوقة تزعم أنَّ
الأوصاف الذاتية التقليدية للديمقراطيات الغربية، هي أنها ديمقراطيات
مفلسة، ومن ثمَّ، صُوِّرت على أنَّها ديمقراطيات "غير مطابقة" أو على
"أنَّها ضرب من خداع الذات". فجانب من المقاومة الغريزية، لردِّ الموضوعية
إلى التضامن -المتمثِّل في محاولات أتباع كل من "ماركس"، "سارتر"،
"أوكيشوت"، "غادامائير"، و"فوكوه"- ناجمٌ عن الخوف من اضمحلال عاداتنا
الليبرالية التقليدية وآمالنا نتيجة هذا الردِّ. وتظهر هذه المشاعر بصورة
واضحة، على سبيل المثال، في نقد "هابرماس" لموقف "غادامير" باعتباره نسبياً
وقمعياً بالقوة، وفي الشكِّ بأنَّ هجمات "هيدغر" على النزعة الواقعية
مرتبطة، على نحو ما، بنازيتة، وفي الشكِّ بأنَّ محاولات الماركسيين لتأويل
القيم بوصفها مصالح طبقية، لا تزيد عن كونها دفاعاً عن سيطرة اللينينيين،
وفي الايحاء بأنَّ تشكَّك "أوكيشوت" حول النزعة العقلانية في السياسة هو
مجرد دفاع عن الأوضاع القائمة.
ومن ناحيتي، أذهب إلى أن وضع المسألة وفقاً للمصطلحات السياسية
والأخلاقية، بدلاً من المصطلحات الإبستمولوجية أو الميتافيزيقية، من شأنه
أن يجعل المسألة موضع البحث، أشدّ وضوحاً. فلا يدور السؤال الآن، حول كيفية
تعريف مفردات مثل: "الحقيقة" أو "العقلانية" أو "المعرفة" أو "الفلسفة"،
بل حول ما يجب أن يكون عليه التصوُّر الذاتي لمجتمعنا عن ذاته. فمن شأن
الإلحاح الذي يشبه الطقوس على "الحاجة لتجنب النسبية" أن يكون أكثر قابلية
للفهم من حيث هو تعبير عن الحاجة لحفظ عادات محددة في الحياة الأوروبية
المعاصرة. وهذه العادات قد تعززت في عصر التنوير واكتسبت تسويغها منه،
بالاحتكام إلى العقل الذي نُظِرَ إليه على أنَّه مقدرة بشرية عابرة للثقافة
وقادرٌ على التطابق مع الواقع، وعلى أنه ملكة تتم البرهنة على احتيازها
واستعمالها من خلال الامتثال لمعايير صريحة. ولذا يصبح السؤال الحقيقي حول
النسبية: هل يمكن تسويغ عادات الحياة الفكرية، الاجتماعية، والسياسية
نفسها، بواسطة مفهوم العقلانية من حيث هو معيار أقلُّ غموضاً، وبواسطة
التصوُّر البراغماتي للحقيقة؟
وأعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال هي، أنَّه لا يمكن للبراغماتي أن يُسوِّغ
تلك العادات دون الوقوع في الدور، والأمر نفسه ينطبق على الفيلسوف
الواقعي. ومن الممكن لتسويغ البراغماتيين للتسامح، وللتساؤل الحر، وللبحث
عن علاقات غير مشوهة، أن يتَّخذ شكل مقارنة بين المجتمعات التي تمثل تلك
العادات وتلك التي لا تمثلها. والنتيجة، هي أنَّه ما من شخصٍ عايش
المجتمعين يمكن له أن يفضِّل النوع الثاني منهما. وقد تمثَّل ذلك في دفاع
"وينستون تشرتشل" عن الديمقراطية بوصفها الشكل الأسوأ للحكومة التي يمكن
تخيلها، ولكنَّها الأقلُّ سوءاً من كلِّ الأشكال الأخرى التي تمَّ تجريبها
حتى الآن. ولا يستند هذا التسويغ إلى معيار معيَّن، وإنما يستند إلى منافع
عملية كثيرة ومتنوعة. ولكنَّ هذا التسويغ يقع في الدور، من حيث أنَّ
مصطلحات التقريظ المستخدمة في وصف المجتمعات الليبرالية، مستمدَّة من
مفردات المجتمعات الليبرالية نفسها. ومع ذلك فإنَّ تقريظاً كهذا، لن يصل
إلى النتيجة المرغوبة، ولا يمكن التعبير عنه إلا من خلال اللغة، وكذلك
مصطلحات التقريظ الحالية في المجتمعات البدائية، أو الثيوقراطية، أو
التوتاليتارية. ومن ثمَّ، يعترف البراغماتي بأنه ينطلق من نقطة ابتداء
تاريخية، تمكِّنه من تقبُّل عادات الديمقراطيات الحديثة التي يميل إلى
تقريظها. وهذه النتائج مطابقة لما يتوقعه أنصار التضامن.