انشغلت بعض وسائل الإعلام العربيّة خلال الفترة الأخيرة بحادثة تفجير
كنيسة "سيّدة النجاة" في العراق، وذهبت بعض التحليلات عن حقّ إلى استكشاف
أثر مثل هذا العمل الإرهابيّ على علاقة المسلم بالآخر، خاصّة مع اتّساع
الهوّة بين ما بات يُصنّف بـ"شرق إسلاميّ" و"غرب مسيحيّ"!. إلا أنّ الخبر
السيّء هو كون تفجير الكنيسة ليس سوى مناسبة أخرى إضافيّة لنرى نتائج العنف
الدينيّ والطائفيّ، لكنّها ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة ما دامت
النعرات الدينيّة والطائفيّة تتصاعد في العراق وما حوله من دول المنطقة،
وربّما بدت حادثة الكنيسة تنويعاً مفاجئاً وبارزاً على حرب لم تتوقّف بين
شيعة العراق وسنّته، وهي الحرب التي أوقعت حتّى الآن أكبر عدد من القتلى
الأبرياء، مع أنّ وصف "الأبرياء" هنا ليس إلا من مظاهر التعاطف والاستنكار
الإنسانيّين؛ هو وصف يفتقد الدقّة المنهجيّة في مثل هذه الحروب، أسوة
بأوصاف قد نعتقد أنّها تعبّر عن انحطاط فئة شاذّة قامت بعمل همجيّ فنعزل
بذلك ما قامت به عن سياقه المشحون بالكراهية أوّلاً وبالدم تالياً.
يكتسي الحديث عن أبرياء في الحرب الأهليّة طابعاً أخلاقيّاً صرفاً، أي
أنّه يفتقر إلى السند الفكريّ والحقوقيّ ويخالف "فلسفة" الحروب الأهليّة؛
هو بالأحرى مستمدّ من قواعد الحروب الدوليّة وقوانينها، وهذا ما لا ينطبق
على الحرب ضمن الدولة ذاتها. ويتجلّى الفارق الأساسيّ بين الحروب الدوليّة
والحروب الأهليّة في أنّ الأولى هي حروب مصالح استراتيجيّة للدول، أي هي
استخدام ممنهج للعنف من أجل انتزاع تنازلات محدّدة من الخصم أو إخضاعه، أو
اكتساب مناطق جغرافيّة جديدة بما تعنيه من قيمة اقتصاديّة أو معنويّة، وحتى
إن أدّى ذلك إلى تهجير السكّان فالغاية ليست إبادتهم. أمّا الحروب
الأهليّة فيمكن وصفها بأنّها صراع وجود، حيث الغاية المثلى هي تدمير الخصم
وإبادته أو إبادة أكبر قدر متاح من جمهوره، لذا لن يكون من المصادفة أن
تشهد الحروب الداخليّة أعتى أنواع الإبادة والترويع والتنكيل بما أنّ
الغاية ليست الانتصار على الخصم بل التخلّص منه نهائيّاً. ولنا أن نسترجع
في هذا السياق المذابح الجماعيّة التي شهدتْها دولٌ مثل يوغسلافيا السابقة
ورواندا وبوروندي ومن ثمّ العراق لنتأكّد من مركزيّة فكرة الإبادة في هذه
الحروب، ولنتأكّد من الغياب شبه المطلق للنوازع الأخلاقيّة الإنسانيّة
عندما يتعلّق الأمر بالحروب الأهليّة، مع أنّ ذلك قد يكون مفاجئاً للوهلة
الأولى على اعتبار أنّ الفئات المتقاتلة جمعتها شراكة تاريخيّة طويلة في
الحيّز الجغرافيّ نفسه!.
لا يكفي في الحروب الأهليّة ألا يشارك البعض فيها ليتمّ تحييده عن مآسيها،
فهي حرب الجميع ضدّ الجميع ولا استثناءات تمنح حصانة لأحد ما دام ينتمي،
ولو اسميّاً، إلى جهة ما، فالقتل على الهويّة لا يميّز بين الضحايا إلا
لجهة وقوعهم في كتلة أو جماعة معيّنة ولا يعترف بفردانيّة أحد. وإذا لم
يتمّ التعرّض للمجموعات الهامشيّة أو الأقلّيّات الصغيرة فليس ذلك
لأخلاقيّات تحكم الحرب، وإنّما بحكم عوامل ظرفيّة، وما دامت الحرب الأهليّة
تبتغي أكبر قدر من "النقاء" فالغاية هي التخلّص من كلّ ما هو "ليس منّا"،
ثمّ إنّ عدم مشاركة أقلّيّة صغيرة في الحرب لا يُفهم إلا دلالة على ضعفها
وعدم مقدرتها على الانخراط في مواجهة غير متكافئة، وهذا ما قد يكون أدعى
إلى استهدافها بثمن زهيد، خاصّة إن كان صغرها لا يضعها بمرتبة الحليف
المحتمل لإحدى الجهات المتحاربة.
القتل والترهيب هما سمتان أساسيّتان في هذه الحرب والغاية واحدة، فإبادة
الخصم والتخلّص منه يمكن أن يُستعاض عنهما بترهيبه ودفعه إلى هجرة البلد؛
المهم هو تخفيض عدد أفراد الخصم إلى أقصى حدّ ممكن. وإذا أدّت توازنات
ظرفيّة، داخليّة كانت أو خارجيّة، إلى توقّف المعركة فهذا لا يعني انتفاء
العنف الأهليّ الذي يبقى في انتظار جولة جديدة من الحرب، ما دامت الطائفيّة
السياسيّة فاعلة بالمجتمع بتمظهرات سلميّة لكنّها تضمر كافّة أشكال العنف
المعنويّ الذي يتحيّن الفرصة ليصبح عنفاً تدميريّاً. بل إنّ الشحن الطائفيّ
المستمرّ يجعل من الخصم الداخليّ عدوّاً أخطر من العدوّ الخارجيّ، ويصوّر
المعركة مع الأخير على أنّها قابلة للهدنة أو المساومة بينما الحرب
الداخليّة لا تقبل المساومات، وقد يتمّ تصوير التهديد الخارجيّ على أنّه
تهديد مؤجّل أو عارض بخلاف التهديد الداخليّ الذي يستهدف الوجود طوال
الوقت. ولا نعدم حالات جرى فيها الاختلاف على توصيف التهديد الخارجيّ إذا
رأت فئة ما أنّ هذا التهديد يطال الآخر الخصم بالدرجة الأولى ولا يطالها
هي، فيصبح العدوّ الخارجيّ موضوعيّاً بمثابة الحليف وإن غاب التنسيق
المباشر معه أو لم تكن الرغبة في التنسيق موجودة أصلاً، ولا يبقى هنا من
معنى لمفهوم الخيانة الوطنيّة إذ ينتفي مفهوم الوطن برمّته، ولا يبقى من
تهديد خارجيّ متّفق عليه ما دام لكلّ فئة خيارها وتحالفاتها السياسيّة،
فيتحوّل ما يراه البعض خيانة إلى مجرّد خيار سياسيّ مشروع للبعض الآخر.
لقد كان واضحاً من خلال الحروب الأهليّة التي شهدتها العقود الأخيرة أنّها
لا تقع تحت طائلة القانون الدوليّ، وفي الوقت نفسه قلّما تقام محاكمات
أمام القضاء المحلّيّ للمسؤولين عنها، إمّا لأنّ الطرف المنتصر الذي ارتكب
جرائم الإبادة لن يقوم بمحاكمة "أبطاله" أو لتغليب ما يُدعى باعتبارات
السلم الأهليّ عندما لا تنتهي الحرب إلى نصر حاسم لأحد أطرافها. وقد استدعت
هذه الفجوة القانونيّة تشكيل محاكم خاصّة دوليّة وإن لم تكتسب إلى الآن
قوّة تنفيذيّة رادعة، فضلاً عمّا تخضع له من تجاذبات سياسيّة بين القوى
الدوليّة العظمى، ومع أنّ بعض الدول الأوربيّة سمحت بموجب قوانينها
المحلّيّة بملاحقة مجرمي الحرب من خارج أراضيها إلا أنّنا بدأنا نشهد
نزوعاً إلى تعديل هذه القوانين لاصطدامها أيضاً بمقتضيات السياسة؛ هذه
المعطيات جميعاً تجعل من المجازر التي ترتكب في الحروب الأهليّة خارج
المساءلة، وبالتالي بعيدة عن المعالجة الجادّة التي تحدّ من وقوعها
مستقبلاً.
لقد انساق بعض المثقّفين العرب وراء الإقرار بالطائفيّة كقدر لبعض
البلدان، متناسين التاريخ القمعيّ الذي أدّى بمكوّناتها إلى التنافر
والتحارب، وتحت مسمّى الواقعيّة السياسيّة ازدهرت الأطروحات التي تنتقد
الطائفيّة ظاهراً وتروّج لها ضمناً تحت زعم أنّ المحاصصة السياسيّة هي
الحلّ الوحيد الممكن حاليّاً، ولا يغيب عن هذه الأطروحات زعمٌ آخر هو
الاعتراف بالحقوق الثقافيّة والسياسيّة لفئات مهمَّشة تاريخيّاً، وكأنّ هذا
الاعتراف يتناقض بالضرورة مع مفهوم الدولة. يتناسى هؤلاء أنّ الديمقراطيّة
هي الابنة الشرعيّة للدولة، وأنّ التعدّدية الحقّة من أهمّ ركائز
الديمقراطيّة، وربّما يكون أسوأ ما تفرزه الحروب الأهليّة هو النظر إلى
مسبّباتها على أنّها علّة بنيويّة لا فكاك منها، فيؤدّي ذلك إلى تشريع
المحاصصة الطائفيّة قانونيّاً وفكريّاً بعدّها الحلّ السلميّ الوحيد
الممكن، لكنّ هذا النوع من تقاسم السلطة والثروة في أكثر من بلد لم يثبت
إلا كهدنة مؤقّتة بانتظار معطيات جيوسياسيّة جديدة، أو بانتظار تغيّر
المعطيات الديموغرافيّة التي تتيح لطرف ما الانقلاب على التوافق السابق. لم
تؤدِّ الطائفيّة السياسيّة حتّى الآن إلى التدرّج في مشروع الدولة، بل
عملت القوى المستفيدة منها على تعزيزها وإدامتها عبر ربط أفراد الطائفة
بمصالح تضمن تماسك الجماعة وإبقاءها في حالة تأهّب تجاه الآخرين،
فالطائفيّة السياسيّة(1) تحافظ على منسوب العنف الرمزيّ بين الجماعات،
وتعيق تشكّل تجمّعات حديثة عابرة لها، وتضع الجماعات في كانتونات معنويّة
فلا تعود المطالبة بتقسيم البلد إلى كانتونات قانونيّة سوى نتيجة منطقيّة،
وما يبدو أنّه أقلّ الحلول سوءاً أثبتت التجارب أنّه مقدّمة للأسوأ مهما
طال التحايل من أجل عدم الوصول إليه.
هامش: 1- بوسعنا أيضاً أن نضيف "الطائفيّة الثقافيّة" كملمح جديد أخذ يزدهر في
أوساط بعض العلمانيّين السابقين الذين استجرّوا الانقسام الطائفيّ إلى
الحقل الثقافيّ الذي ظلّ لفترة طويلة بمنأى عن الطائفيّة، ويبرّر هؤلاء
الاهتمام الثقافيّ المستجدّ بالطائفيّة بأنّه نتيجة منطقيّة لتغييبها
سابقاً، دون التفريق أيضاً بين الاهتمام المطلوب بقضايا التعدّد الثقافيّ
والإقرار بها على قدم المساواة وبين تعميق الشرخ الموجود ولكن هذه المرّة
بأدوات ثقافيّة جديدة.