تتشابك في المستوى المنهجيّ ثلاثةُ مفاهيم أساسية هي الجنس Sex،
والجنسانيّة Sexuality، والخطاب الجنسيّ Sexual Discourse. ويحيل الجنس على
العملية الحيوية المباشرة التي تؤلّف جزءًا من رتابة الكائنات الحيّة
العضوية، وهي عند الإنسان الممارسة الحيوية، والسلوك البيولوجيّ اللذان
يضمنان له تحقّق رغباته في المتعة واللذّة والتوالد. في حين أنّ الجنسانية
تشتمل على مجمل التقنيات والآليات التي تُدارُ بها الحياة الجنسية بمعناها
الواسع والشامل؛ إنّها العلم الأركيولوجيّ الذي يسمح بالكشف عن التقنيات
التي تستطيع الذات بوساطتها الإفلات من ضغوط السُّلطات التي تجمح رغائبها
وسلوكياتها، والتمرّد على المعرفة التي تصادر حضورها ومتعها(1).
وإذا كان الجنس آلية حيوية رتيبة وسمت نشاط الإنسان بوصفه أحد الكائنات
الحيّة فإنّ الجنسانية حقلٌ تحدثُ فيه الحفريات المرتبطة بالجنس والخطاب.
أي أنّ الجنسانيّة تضمّ الخصائص البيولوجية في الذكر والأنثى، والخصائص
الاجتماعية المميزة بين الرجل والمرأة، والهويّة الجنسية، والهويّة
النوعيّة، والتوجّه الجنسيّ، والإيروسيّة، والإنجاب. وتتخذ الجنسانية
تمثيلات تشمل الاستيهامات، والرغبات، والمعتقدات، والمواقف، والقيم،
والأنشطة، والممارسات، والأدوار، والعلاقات(2). وفي هذا المجال يتشكّل
الخطاب الجنسيّ الذي يمثّل أشكال الجنسانية السائدة في الحضارات والمجتمعات
والثقافات؛ ذلك أنّ الخطاب الجنسيّ يسعى إلى المطابقة بين سلوك الأفراد
والمجتمعات الجنسيّ والمنظومات الأخلاقية والدينية والفلسفية للوصول إلى
نتيجة مفادها أنّ ممارسة تقنيات الذات تُميّزُ الإنسان المفكّر الخاضع
لبرامج الأخلاق ونُظم الدين وتقاليد الفلسفة. وهذا يعني أنّ الجنسانية،
بوصفها بناءً اجتماعيًّا تاريخيًّا، تتشكّل نتيجة تداخل المستويات
البيولوجية والنفسية والسوسيو ـ اقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،
والأخلاقيّة، والقانونيّة، والدينيّة(3).
ويجسّدُ الخطاب الجنسيّ الموقف من تعامله مع الجنسانية التي تتحدّد
طبيعتها وفقا لعوامل ومكوّنات متعدّدة؛ ذلك أنّ ارتباط الخطاب الجنسيّ
بثلاثة مفعولات مترابطة هي: السلطة، والمعرفة، والجنس، يجعله عُرضة البحث
المتواصل والكشف المستمر اللامتناهي؛ فالسلطة تمارسُ ضربًا من السيطرة
والتحكّم في تداول الجنس في المجتمع والثقافة، وتوفّرُ له سبلا من البوح
والاعتراف أو المنع والمصادرة والقمع، فأخبار الجنس وممارساته ترتبط بأنماط
الإنتاج وعلاقاته وقواه المتعدّدة. كما أنّ منحَ تاريخ الجنس رعايةً
واهتمامًا أو إقصاء وإهمالاً يكشف عن هيمنة السلطة على مفاعيل السيطرة
والتحكّم(4).
وفضلا عن ذلك فإنّ الحضارة التي تمنح أفرادها القدرةَ على الكلام عن
تجاربها الجنسية تتمتع بفعّالية معرفية عميقة؛ ذلك أنّ خطاب الجنس يسهم في
كشف الحقيقة، علاوة على أنّ خطابَ الجنس، بتفاعله مع الخطابات الأخرى،
يُقدّمُ رؤىً وتصوراتٍ شاملة عن حركة المجتمعات وفاعليتها ومواقفها من
الإنسان والدين، والسلطة، والمعرفة، وعن الآليات التي تتحكّم في صياغة
النظم الفكرية والمعرفية، والبرامج التي تعمل على إخضاعِ إرادة الأفراد
وسلوكهم وممارساتهم لمنظومات قيميّة متعالية. وفي الجهة المقابلة فإنّ
الحديث عن مصادرة خطاب الجنس ومنعه يكشف عن آليات عمل السلطة وأنظمة فعلها
في الحقول والخطابات كلّها، ومن ثمّ فإنّ الخطاب الجنسيّ يجسّدُ مصالح
السلطة الخطابية؛ ذلك أنّ إيجاد منظومات متعالية يعني أنّ هناك من يتحكم في
تسنين مبادئ هذه المنظومات وشرعنة أصولها وتأويل مبادئها وتحديد آلياتها.
ليس هذا فحسب بل إنّ هذا النهج الخطابيّ يتضمّنُ إخضاعًا لإرادات الأفراد
وتحكّما في نزعاتهم، ولعلّ من المفارقات الأساسية أنّ مؤسّسة صناعة الخطاب
التي تشرف على الخطاب وتراقبه وترعى مصالحه تمارس عملها باسم حماية الأخلاق
ورعاية الدين(5).
ولا تقتصر أهمّية خطاب الجنس عند هذه الجوانب بل تتجاوزها إلى البحث في
الاستراتيجيات والقوانين التي تتحكّم في المجتمعات والأفراد وتسيّر أنشطتها
وفاعليتها التاريخية والتأويلية، وتوجّه مواقفها الحالية والمستقبلية. إنّ
الحضارات التي مارست قمعًا تجاه الجنس وصادرت خطابه تمتاز بكونها حضاراتٍ
مضطربة سلوكيًّا ومعرفيًّا، الأمر الذي يعني أنّ مجتمعات هذه الحضارات
ستظلُّ تعاني قمعًا واضطرابًا في سلوكها الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ،
وأنّ عليها، إذ ما أرادت أنْ تسير نحو التفاعل والعقلانية والتنمية
الشاملة، أنْ تقوم بتصويب مسيرتها الجنسية ومراجعة سجلّها الجنسيّ ومساءلته
ومعالجته(6).
بيد أنّ ذلك كله لا يمنع من قراءة الخطاب الجنسيّ لدى الحضارات قراءة
مختلفة؛ ذلك أنّ معظم الحضارات أتاحت المجال للحديث حول الجنس وسمحت بإنتاج
خطاب جنسيّ لكنّ هذه الإتاحة والسماح لا يعنيان أنّ فضاءً من الحرية
والبوح والإباحة والعقلانية ساد تلك الحضارات ومجتمعاتها؛ إذ قد يحدث أنْ
تُشيعَ الحضاراتُ ذات السلطات القمعية قدرًا من التسامح في برمجة الخطابات
في محاولة منها لإخفاء حقيقتها القمعية، وطبيعتها السلطوية، وسجلّ
انتهاكاتها، في حين أنها تمارس سيطرةً على هذه الخطابات وتقوم على توجيهها
مما يعني أنّ سلوكها ذو طابع مخاتل؛ فالسيطرة والتوجيه والتحكّم والرقابة
أشدّ خطرًا من الحظر والإنكار والمنع. وهكذا فإنّ أدوات السلطة قد تتنوّع
وتتبدّل لكنّ ذلك لا يمكن أنْ يحجب حقيقة السلطة التي تعمل على إعادة صياغة
القمع بتغيير أشكاله وتنويع وسائله، لدرجة أنها قد تسمح بإنتاج خطاب نقديّ
يوجّه لدراسة ظاهرة القمع وتمثيلاته، ومجابهة آليات التسلّط في محاولة
منها لإظهار البراءة من القمع وشجبه، ونهوضها ببرامج إصلاحية. بيد أنّ
نظرةً فاحصة ودقيقة قد تكشف أنّ هذا الخطاب النقديّ جزء من شبكة القمع مما
يعني أنه لا يمكن الفصل بين برامج القمع التي تنتهجها السلطة والخطابات
النقدية التي ترعاها لمجابهة القمع(7).
ويرى ميشيل فوكو أنّ تحليل الخطاب الجنسيّ، في أيّ حضارة وثقافة، ينبغي
أنْ يبدأ بتحديد نظام السلطة والمعرفة واللذة في سيرورته ومسوّغات وجوده،
وبدلا من الحديث عن موقف الحضارات والثقافات من الجنس تحريمًا وإباحة،
شيوعًا وندرة، بوحًا واعترافًا وتصريحًا، حجبًا ومصادرةً وتدليسًا فإنه لا
بدّ من إقامة الاعتبار لحقيقة الحديث عنه وواقعه، والأشخاص المخوّلين
بالتحدث عنه، والأماكن التي تجري فيها تجارب الجنس، ووجهات النظر التي
يُنطلق منها، والمؤسّسات التي تحضّ على الحديث عنه، والدوافع التي تحكم رؤى
المؤسسات، والشخصيات المتنفّذة التي ترعاه وتتبناه، والأشكال والصيغ التي
يرد فيها، والوسائل التي أتاحت لممارسات الجنس والرغبة فرص الظهور
والإعلان. وهذا يعني أنّ معرفة "وضع الجنس في خطاب"، و"تقنيات السلطة
متعددة الأشكال" هي السبيل الوحيد والوجيه للقبض على مركز الخطاب الجنسيّ،
وإبراز "إرادة المعرفة" التي تعمل عملاً مضاعفًا في خطاب الجنس؛ ذلك أنها
الركيزة والأداة الأساسيتان القادرتان على كشف حقيقة الخطاب(8).
ويتوجب على تحليل الخطاب الجنسيّ ألاّ ينشغل بتحليل الامتيازات الممنوحة
لاقتصاد ندرة الحديث عن الجنس، بل إنّ عليه البحث في ثلاثة مكوّنات متضافرة
هي : مراتب الإنتاج الخطابيّ وما يتصل به من صوت أو صمت، والإنتاج
السلطويّ وما يرتبط به من منع أو موافقة، والإنتاج المعرفيّ وما يتعلّق به
من ترويج أخطاء أو إنكارات مطلقة(9).
والحال أنّ تقنيات السلطة الموجّهة صوب الجنس لم تخضع لمبدأ وحيد ودقيق؛
إذ أنّ خطابات الجنس لدى الحضارات كلّها تثبت أنّ هناك تنوّعًا في مبادئ
المعرفة الجنسية يمتدّ من نشر الخطابات مرّةً ومصادرتها مرّةً أخرى،
والتحفّظ على بعض أشكالها حينا، وحجبها حينًا آخر. كما أنّ إرادة المعرفة
لم تتوقّف أمّا الجنس بوصفه محرمًا (Taboo)، كما أنها لم تتبنّ منه موقفًا
محددًا ونهائيًّا بل إنها، ورغم تعثّر مبادئها وأنظمتها، سعت إلى إيجاد علم
حوله هو الجنسانية(10).
الجنسانية من الحجاب إلى الخطاب للثقافة دورٌ مهمٌّ في توجيه أنشطة الأفراد والمجتمعات وممارساتهم
الجنسية، فهي تعمل على مدّهم ببرامج غرائزية تدفعهم إلى انتهاج ضروب من
الجنسانيات. وهذا يعني أنّ الثقافة تعمل، بمرور الزمن، على تشكيل هوية
الأفراد الثقافية التي تعني إكساب الأفراد مجموعة من الخصائص التي تحدد
معايير انتماء الأفراد لها ضمن علاقة جدلية قائمة على الهدم والبناء؛
فالهوية الثقافية تشكل وعي الأفراد وتبني مفاهيمهم الكلّية في الوقت الذي
يقوم فيه الأفراد بتطوير الهوية وتعديل مبادئها وهدمها بما ينسجم مع
إراداتهم(11). ولعلّ الفيلسوف فريدريك نيتشة أوّل من مايز بين نموذجين
ثقافيين؛ الأوّل : النموذج الأبولوني Apollonian وملامحه الأساسية :
"الفردية، والتقنية، والمعرفية، والتراتبية، والنفعية"، والنموذج الثاني
الديونيسي Dionysian وصفاته الأساسية: "الجمعية، والجنسية، والعاطفية،
والصوفية، والثورية، والخصوبة"(12).
وسوف تقوم الثقافات البشرية كلها ببناء برامجها بناء على هذين النموذجين
إضافة أو تطويرًا أو تعديلا أو تركيبًا، بيد أنّ التحولات التي طرأت على
النموذجين حالت دون إلغاء القسمات الكبرى بين الثقافات التي تكاد تتمايز
فيما بينها في الرؤية العميقة لمفهوم الثقافة؛ إذ أنّ بعضها ينظرُ إلى
الثقافة بوصفها منظومة لانتقال معارف تقنية مفيدة، وتقاليد نافعة للجماعة
عبر الأجيال، وبعضها الآخر يتعامل مع الثقافة بوصفها مضمارًا للعديد
المتباين من الاستعراضات الغزلية التي يحاول من خلالها الأفراد اجتذاب رفاق
جنسيين والاحتفاظ بهم(13).
وإذا كانت الثقافة البشرية ضربًا من التّكيفات الغزلية فإنّ أفعال
الانتخاب الجنسيّ التي يقوم بها الأفراد، لاختيار شركائهم وممارساتهم،
ستكون قوّة تطوّرية أساسية في صوغ الثقافة البشرية، المتمثّلة في القدرات
الموروثة جينيًّا المُفسّرةِ سلوكيات الأفرادِ ومواقفهم وحساسياتِهم
وعلاقاتهم. وهذا يعني أنّ معرفة الانتخاب الجنسيّ وتحليله سيقدمان حلولاً
كبيرةً لتفسير التطورات والظواهر الثقافية فضلا عن كشف العوامل المؤدية إلى
توليدها وتعديلها وتعلّمها وإنتاجها(14).
بيد أنّ مسيرةَ الخطاب الجنسيّ في أية ثقافة لا تملك مسارًا واحدًا؛ إذ
إنها تُقيم حظرًا على الخطاب الجنسيّ، وتمارس بحقّه تطهيرًا صارمًا
للمفردات المسموح بها، لكنها قد تقوم بإحداث انفجار خطابيّ حقيقيّ يُجيزُ
البوح والتصريح بعد أنْ مارست أساليب بلاغية جديدة في التورية والاستعارة
بدافع الاحتشام والرقابة على التلفّظ. وعلاوة على ذلك، فإنّ الثقافات
قادرةٌ على إنشاء مناطق احتشام وذوق وصمت مطلق وصرامة حول الخطاب الجنسيّ
الذي يتعامل معه بدقة لا متناهية؛ فهي تحدّد مكان الحديث عن الجنس وزمانه،
وتعيّن مكان حظر الحديث عنه وزمانه كما أنّها تحدّد المناسبات، والروابط
الاجتماعية، والشخصيات، ومواقعها. وفي الجهة المقابلة فإنّ الثقافات نفسها
قد تدفع نحو تخصيب الخطابات ومجالاتها الأمر الذي يؤدي إلى بروز الجنسانية
والاحتفاء بها وإخراجها من الحجاب إلى الخطاب، بفعل عملية تخمير خطابيّ
تستحوذ عليه السلطة وتجعله ضمن مجالاتها ومَداراتها، بهدف السخرية من
الحشمة والاستهزاء الورع(15).
إنّ طبيعة الثقافة ومكوّناتها عنصران مهمّان في التعامل مع الجنس منعًا أو
قبولا، فالجنس في الثقافة الغربية خضع لسلطة الكنيسة المتمثّلة في إخضاع
الأفراد للاعتراف تحت ذريعة التطهير والإرشاد الروحيين، فكان الكاهن يخضع
الشخص لمساءلة دقيقة تشمل المَلكات؛ الذاكرة، والعقل، والإرادة، والحواس؛
السمع والبصر، واللمس، والشمّ، والذوق بحثًا عن أفكاره وممارساته الجنسية
صغيرةً كانت أم كبيرة حلمًا أم حقيقة. وهكذا فقد خضع حجاب الجنس لهتك نجم
عنه ملاحقتُه ومطاردته عبر خطاب لا يترك له فسحة ولا راحة، ولا غموضًا(16).
وقد بدأ الجنس في الانتقال من الحجاب إلى الخطاب في حاضنة التقاليد
الكنسية حيث خرج الاعتراف بـ"الخطيئة والانتهاك" الجنسيين من حضرة الكاهن
إلى حضرة القاضي والطبيب، فكان أنْ شكّل أرشيف الاعتراف مادة خصبة تمّ
بموجبها تحويل الرغبة والأحاسيس الجنسية الناجمة عن الاعتراف والخطيئة إلى
خطاب(17).
ويرى ميشيل فوكو أنّ التعاليم الرعوية المسيحية عندما دعت إلى الاعتراف
بالجنس جعلت منه موضوعًا مُثيرًا للقلق؛ إذ حرّضت على التكلّم عنه، وإخراجه
من الظلّ، وإبرازه بوصفه لغزًا وسرًّا مُحيّرين(18). أمّا التحريض على
الكلام عن الجنس فيرجع إلى أسباب سياسية واقتصادية وتقنية ولّدت تحريضًا لم
يكن يهدف إلى الوصول إلى نظرية جنسانية تُدرس في ضوئها أنشطة الإنسان
ودوافعه وممارساته الجنسية، وإنما كان هدفه الوصول إلى نتائج، وأرقام،
ومحاسبة، وتصنيف، ومفاضلة؛ إنه خطابٌ جنسيٌّ لا يحرص على إظهار التمايز بين
القيم الأخلاقية كما ادّعى في بداية أمره؛ وإنما قام بتوظيف نتائجه إنتاج
أحكام ميتافيزيقية تُعلي من شأن العقلانية والدّين وتُدين التجاوزات
والانتهاكات(19).
لقد منحت الثقافة الغربية الخطاب الجنسي دورًا كبيرًا وتقديرًا عاليًا؛
وكأنّ مجتمع الخطاب يطمح من هذا الخطاب التحليليّ المُتقن إلى نتائج عديدة؛
تتصل بتطوير الرغبات الجنسية وتبديل وجهتها وتغيير أحوالها؛ بهدف تطوير
الاعتراف بها وتوسيع مجاله، فكان أنْ تحوّل الأمر من الرقابة على الجنسانية
وحظرها إلى إنشاء جهاز إنتاج خطابات متنامية ومتسارعة قابلة للعمل
والتأثير في اقتصاد الخطابات ورواجها. لقد كان على الجنسانية أنْ تظلّ
محصورة ومقتصرة على أنشطة الأفراد وملذّاتهم وحيواتهم السرّية لو لم تقم
آلياتٌ فاعلةٌ بدعمها وتنشيطها وتحويلها إلى خطاب؛ إنها آلياتٌ سلطوية
تحاول استغلال اقتصاد ملذات الأفراد واستثماره وتحويله إلى خطاب(20).
لقد أحدثت تطوّرات العوامل البشرية والاقتصادية محراكًا قويًّا لإدارة
الجنسانية وإدخالها ضمن أنظمة تقوم على النفعية المجرّدة. وبفعل تسارع
وتيرة التطورات سوف يتعيّن على السلطة تفعيل تقنياتها لمجابهة التزايد
الهائل في السكان، لما يثيرونه من مشكلات اقتصادية وسياسية تُثيرُ عددًا من
القضايا ترتبطُ بالتوازن بين النموّ الذاتيّ ونموّ الموارد والممتلكات
التي يدخل مكوّناتها الموضوع الجنسيّ بتفصيلاته المعقّدة التي تشمل الزواج،
والولادات، ونسب الطلاق، وسنّ الزواج، والإنجاب الشرعيّ، وتعدّد العلاقات
الجنسية، وخصوبتها، والعزوبة، وممارسات التّحكّم في الإنجاب والإجهاض.
وهكذا أصبحت ثروات المجتمع ومستقبله لا يرتبطان بعدد المواطنين وفضائلهم،
ولا بأنظمة زواجهم، وتنظيم عائلاتهم وإنما بالطرق والعوامل التي يمارس فيها
الأفراد جنسانياتهم لأوّل مرّة، فضلا عن الأشكال المتتابعة التي ينصرفون
إليها لإشباع رغباتهم وميولهم ونزواتهم. وهكذا أصبح سلوك السكّان الجنسيّ
موضوعًا للتحليل وهدفًا للمقاربة(21).
وسينجم عن هذا التنامي الخطابي حدوث تشتيت في المراكز الخطابية أدّى إلى
انفجارها وتنوّعها؛ فالثقافة التي تعمل على توليد الخطابات الجنسية في
مؤسساتها الكاملة تقوم بتشعيب الخطابات، ولعلّ نظرة فاحصة تُبيّنُ أنّ
الخطاب الجنسيّ حاضرٌ في مؤسسات ومنظومات التربية، والتعليم، والطبّ،
والقضاء، والأخلاق، وعلم النفس، والطبّ النفسيّ، والبيولوجيا،
والديموغرافيا، والاقتصاد التي ستعمل كلُّ واحدة منها على إنتاج شروط إنتاج
خطاب خاصة، واستراتيجيات شاملة تدعم الخطاب وتتجاوزه في الوقت نفسه؛ إذ
إنّ كلّ مؤسسة ستُشرفُ على تشكيل خطابها الجنسيّ الداخليّ الذي تُلزمُ به
نفسها حيث تسري تعاليمه على القائمين عليها والخاضعين لها الأمر الذي يؤدي
إلى تكاثر الأدب والتعاليم والآراء والملاحظات الجنسية، ومُعاظمة المفاهيم
المرتبطة بالجنسانية(22).
وهكذا أصبح الجنس موضوعًا حيويًّا ينبغي على الجميع التكلّم عنه بهدف فهمه
ومعالجته بخطابات تحليلية. ليس هذا فحسب بل إنّ الجنس أضحى مجالاً رحبًا
لمشاركة الفئات والمؤسسات كلها، وأنْ يُفلت من قبضة سلطة بعينها وأنْ يُصبح
مملوكًا للسلطة العامة، وأنْ يُقال وفق منظومات خطابية متنوعة ومرجعيات
متعددة تُعيّنُ وجوده الخطابيّ، بيد أنّ هذا التهيّجَ الخطابيّ سيفاقم من
صعوبة تناول الجنس؛ لأنّ "الأمر لا يتعلّقُ بخطاب واحد حول الجنس، بقدر ما
يتعلّقُ بعدد كبيرٍ من الخطابات أنتجتها مجموعةُ أجهزة عاملة في مؤسسات
مختلفة"(