في معرض التأريخ للفكر الغربي، حاول البعض تحديد الأسئلة الدائمة التي
يهتمّ بها الفكر الإنسانيّ عبر العصور، فحصروها في أسئلة خمسة : السؤال عن
الطبيعة، عن الله، عن الإنسان، عن المجتمع، عن التاريخ.. ولكنهم لاحظوا أنّ
هذه الأسئلة لا تثار بقدر متساوٍ في كلّ عصر.. فقد يأخذ أحد الأسئلة
الصدارة وفق احتياجات كلّ مرحلة، وغالباً ما يثار السؤال عن الإنسان في
عصور الأوجاع الحادّة، وعلى هذا لا تظهر النزعة الإنسانية مرّة واحدة، بل
تفصح عن نفسها في فترات مختلفة، وربّما بصور متعدّدة، وفقاً لظروف كلّ
حضارة.
وكان من الطبيعيّ أن يقفز السؤال عن الإنسان إلى مركز اهتمام الفكر
المعاصر، ومحاولة التعرّف على سرّ آلام هذا العصر، أهي أزمة فطام، بعد
ارتفاع صوت نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر بإعلانه الفاجع بموت الإله؟ أم
هي آلام مخاض تعلن عن ميلاد إنسان جديد؟ هذا الإنسان الذي احتارت فيه
التسميات : إنسان القطيعة، إنسان التطوّر الخالق، إنسان ما بعد الحداثة
والقلق العظيم.
وما أن أطلق باولو فاليري (1914) نبوءته بموت الحضارات، حتى حظيت هذه
النبوءة بقدر كبير من التأييد، وقبل أن يفصح إنسان العصر عن ملامحه تماماً،
تردّد السؤال المشجون "هل مات الإنسان؟" وما لبثت أن بادرت الفلسفة
البنيوية بالإجابة، لتعلن موت الإنسان، وموت الفلسفة، وموت التاريخ.. هذا
القول الذي فسّره بعض المفكرين بأنّ "موت الإنسان ليس مجرّد تعبير عن
إبستمولوجية جديدة تحرص على وحدة المقال العلمي، وإنما هي في الحقيقة
وبالأحرى تعبير أيديولوجي عن نزوع الإنسان المعاصر نحو التخلّي عن النشاط
الفعلي، في إطار ذلك المجتمع التكنوقراطي الذي أصبح يخطّط له كلّ شيء".
إلا أنّ من المفارقة أن نجد من يلقي بالتبعة في ما آل إليه العصر من موات
على النزعة الإنسانية ذاتها، بوصفها على أحسن تقدير نزعة مثالية طوباوية
أغرقت الإنسان في أوهام عظمته الزائفة، وأطلقت له العنان لما وصل إليه من
جموح، أما التقدير الأسوأ فهو أنّ النزعة الإنسانية، وما جاءت به من دعاوى
ووعود، ما هي إلا قناع أخلاقيّ زائف يخفي وراءه أخسّ النوايا في استعباد
البشر وإذلالهم، والأرجح أنّ كلا التقديرين خاطئ، وتمّ تأسيسهما على فهم
قاصر ومغلوط لمفهوم النزعة الإنسانية، إلا أنّ لهذا الخطأ ما يسوّغه في
غموض هذا المفهوم وقصور التعريفات الخاصة به، فرغم ما حظيت به النزعة
الإنسانية من تعدّد وشيوع، إلا أنّها اتّسمت بقدر كبير من العمومية
والغموض، إن لم يكن بالتناقض والتعارض أحياناً.. المؤكّد أنّ التعريفات
عموماً تشكّل عائقاً لكلّ من يتعامل معها، خصوصاً إذا كنا بصدد موضوعات
آخذة في النموّ، وتمرّ بوقائع وظروف مختلفة، وهو ما يصدق على النزعة
الإنسانية، التي لا يمكن التعرّف على كلّ ما فيها من خصائص إلا عبر مهمّة
شاقّة نرصد فيها هذه النزعة في حركتها وتاريخيتها وجدليتها، حينئذ يجب أن
يوضع في الحسبان ثلاثة اعتبارات، الاعتبار الأوّل هو ارتباط النزعة
الإنسانية بالطابع الإنساني العامّ للفلسفة.. والاعتبار الثاني هو طبيعة
هذه النزعة الإنسانية والصفة الرئيسة لها.. أمّا الاعتبار الثالث فهو طبيعة
الفيلسوف الإنساني ذاته.
الاعتبار الأول يهدف إلى تأكيد أنّ النزعة الإنسانية هي اتّجاه في
التفلسف، وليست فلسفة بالمعنى الدقيق.. فالفيلسوف الإنساني يؤمن بأنّ
الفلسفة "إمّا واحدة وإنسانية أو هي ليست شيئاً" ومن المحال في نظره أن
تتحرر الفلسفة من طابعها الإنساني، فمشكلتها الرئيسية هي الكشف عن طبيعة
الإنسان المتعالية، وتغيير ما في الحياة من تعاسة وقبح ومظالم.
ولما كان الإنسان هو الحاضر الأبديّ في كلّ تفلسف، فإنّ الإنسانيين يربطون
حضوره هذا بحياة الفلسفة، فعندما تتخلّى الفلسفة عن مهمّتها الرئيسية، وهي
نماء الإنسان، تغادرها الروح المبدعة وتصبح عاجزة عن إنتاج نوع من الفلسفة
الشعبية التي هي صانعة الحياة، وهو ما يجعل مسألة الوصول إلى انعدام
إنسانية شامل مسألة زمن فحسب.
هؤلاء، من يؤمنون بإنسانية الفلسفة، هم من يعملون دائماً من أجل أن تستردّ
الفلسفة وعيها بعملية عود أبديّ للوجود الذاتيّ الأصيل، وهو الإنسان، هذا
العود المحوريّ هو ما يسمّى في التاريخ العام بـ"النزعة الإنسانية".. وجدير
أنّ هذا الاعتبار هو المسؤول عن وجود تعريفات فضفاضة لمفهوم "النزعة
الإنسانية" بوصفها "كلّ طريقة في التفكير تجعل الإنسان محوراً لها".
الاعتبار الثاني في ما يتعلق بالنزعة الإنسانية وطبيعتها، هو ارتباطها
بفعل التفلسف ذاته، كونه وعياً قصدياً عالماً بغايته، هذا الوعي يتعامل في
صيرورته التاريخية مع محدّدات مختلفة، وغالباً ما يفترض هذا تغيير أفق
الصراع، هذه الطبيعة الجدلية الديناميكية للنزعة الإنسانية جعلت بعض
التعريفات تخلط بين الغاية والوسيلة، فمنهم من اعتبرها "نزعة إحيائية
تستهدف إحياء التراث اليوناني ومعاناة تجربة حيّة من خلاله"، في حين أنّ
عملية الإحياء لم تكن غير وسيلة لتحطيم قيود العصر الإسكولائي (المدرسي)
وسلطة رجال الدين بهدف تحرير العقل الإنساني عن طريق إحياء "النزعة
الإنسانية" الإغريقية تحديداً، أي إحياء قائم على عملية نقد وانتقاء
للتراث.
على أنّ هذه الطبيعة النقدية للنزعة الإنسانية أكسبتها طابع التمرّد
والانفلات من محاولة التحديد، فعندما احتفت النزعة الإنسانية بأهمّ
إنجازاتها، وهو تحرير العقل الإنساني من سلطة الدين وانفتاحه على الطبيعة
وازدهار النزعة العلمية، حاول البعض تعريفها بأنها نزعة علمية ترتبط
بالفلسفة الوضعية لدى أوجست كونت، رغم كونها أبعد الاتجاهات عن كل تجريبية
محضة ووضعية ضيقة، وكانت أول من اتخذ موقفاً نقدياً، إن لم يكن رافضاً،
تجاه النزعة العلمية المبالغ فيها، ومسالب التقدم التكنولوجي، عندما مالت
البوصلة بعيداً عن الإنسان.
ما تميزت به النزعة الإنسانية من موقف نقدي، يعتمد فعل النفي، جعل البعض
يعرّفها على أساس موقفها الدينيّ، ويعتبرها نزعة لادينية معارضة لكلّ
الاتجاهات الميتافيزيقية، والحقيقة أنّ الإنسانيين لهم نظرة خاصة إلى
الدين، فهم لا يرفضون المقدّسات، وإنّما لهم تأويلهم الخاص لها، كما أنّ
هذه النزعة، بما تتميز به من ليبرالية، عليها أن تقبل معتقدات الأفراد
الروحية، ولا يؤثر هذا على الأسس التي تقوم عليها هذه النزعة، فنحن لا نجد
اختلافاً جذرياً بين الفيلسوف الإنساني المؤمن والفيلسوف الإنساني الملحد،
فكلاهما ناقد ورافض لأية ممارسة دينية سلطوية، وقد يعملان جنباً إلى جنب من
أجل تحقيق هدف واحد وهو إعلاء الإنسان، ولهذا نجد بعض الباحثين يميّز بين
مذهب إنساني مفتوح ومذهب إنساني مغلق.
ومن مفارقات النزعة الإنسانية أيضاً أن تعمل على تأسيس العقل الإنساني
وترفع شعار "لا سلطة فوق العقل" ولكنها تنقلب عليه وتحارب كلّ مطلقاته،
وتكون أوّل من ينتصر لقوة الحياة في مواجهة العقل النظري وسلطة المعرفة..
هذا الميل الطبيعي للنزعة الإنسانية في تكسير أطروحاتها القديمة وتغيير
مسارها، جعل الكثير من ملامحها يستعصي على التحديد وينفلت من أية محاولة
للتنظير.
أما الاعتبار الثالث والأخير، وهو طبيعة الفيلسوف الإنساني ذاته ونفوره من
أي تصنيف وأيّة نزعة مذهبية، فالذي يعني به الفيلسوف الإنساني هو الإنسان
وليس المذهب، وهو يرتحل وراءه أينما ذهب، من دون أن يتمسّك بأية نزعة
يقينية، وبحكم رؤيته الأفقية للعالم يعتمد الحوار منهجاً وحيداً، فهو يتعرف
على أخوة له في كلّ المذاهب وشتّى التيارات، فالإنسانيون يمثلون خيطاً
مشتركاً، ونادراً ما يعلنون عن أنفسهم بوصفهم إنسانيين، وإن كان المهتمّون
بالتصنيف قد يميّزون بين إنسية ماركسية وإنسية وجودية وإنسية برجماتية
وإنسية علمية فضلاً عن إنسية دينية علمانية.. هذا الخيط المشترك بين
المذاهب، يجعل من الفيلسوف الإنساني أكثر الناس قدرة على بناء الجسور بين
المذاهب المتعارضة، وأكثرهم أيضاً إزعاجاً وإثارة للمشكلات.
وإذا كان الفيلسوف الإنساني يهدف إلى تكريس كل المعارف الإنسانية من أجل
دعوته، ما يجعله ينبذ كل تخصص دقيق، وينفر من كل نزعة نظرية خالصة، وغالباً
ما ينشط في ميادين مختلفة من العلوم والآداب والفنون، ونادراً ما يُسلط
عليه الضوء، حيث أن الإحاطة بهذا الشمول تتطلب من الباحثين الخوض في مناطق
وعرة بالنسبة لهم.
هذه الاعتبارات الثلاثة تمثل صعوبة في إيجاد تعريف دقيق وثابت للنزعة
الإنسانية، وهو ما أورث صعوبة في التعرّف عليها، إلا أنّ هذا الأمر يفترض
معه أنّ الحديث عن أفول النزعة الإنسانية دعوة لم يأت أوانها بعد. ورغم
وجود ممارسات دولية تداولت مبادئ النزعة الإنسانية، وأفقدتها قيمتها
الاستعمالية، إلا أنه يمكن وصف هذا بالنزعة الإنسانية الزائفة، ولا بأس من
بعض التفاؤل في اعتبار النزعة الإنسانية الحقة ما زالت قادرة، بما تملكه من
قوة نفي، على نقد أطروحاتها القديمة وعلى تحديد الأفق الجديد للصراع،
وبالنظر إلى أصحاب النظرية النقدية التواصلية وجماعات اليسار الجديد،
والجماعات الناقدة للعولمة، نجد ما يبشر بأن النزعة الإنسانية ما زال لها
حضور درامي في التاريخ، وما زالت قادرة على توجيه البوصلة تجاه الإنسان،
ولكنها لم تمتلك بعد الخطاب المشترك والمؤثر، والقادر على التوغل في
الفلسفة الشعبية، وهذا لأنها ما زالت فاقدة لأهمّ عناص