إعصار ضخم ذو «عين» واضحة، صوّره مكوك الفضاء Atlantis في الشهر 11/1994. |
ولكي نفهم الأسباب التي قد تجعل الأعاصير وغيرها من
العواصف المدارية العاتية عُرضة للتدخلات البشرية، لا بد للمرء من فهم طبيعتها
ومنشئها (انظر الإطار في الصفحتين 6 و 7). فالأعاصير تنمو مثل عناقيد من
العواصف الرعدية فوق المحيطات المدارية، حيث تزوِّد المحيطات الواقعة عند خطوط
العرض المنخفضة الغلافَ الجوي باستمرار بالحرارة والرطوبة، وهذا يشكل جبهات
هوائية دافئة ورطبة فوق سطح البحر. وحالما يرتفع هذا الهواء إلى الأعلى، يتكثف
بخار الماء الذي يحويه ليشكل سحبا وأمطارا. يُطلِق هذا التكثف حرارة، هي في
الحقيقة حرارة الشمس التي أدت إلى تبخر الماء من سطح المحيط. وهذه الحرارة ـ
التي تدعى الحرارة الكامنة للتكثف
(1) ـ تجعل الهواء أكثر خفة وترفعه إلى الأعلى
أكثر فأكثر في سيرورة تغذية مرتدة ذاتية التعزيز
(2)، تؤدي في النهاية إلى نشوء
المنخفض المداري وانتظامه ونمو طاقته، مُشكِّلا ما يسمى العين المألوفة
familiar eye، وهو
المحور المركزي الساكن الذي يدوَّم spin حوله
الإعصار. لكن الإعصار يفقد، عند وصوله إلى اليابسة، مورده المستدام من الماء
الدافئ، وهذا يضعف قوته سريعا.
نظرة إجمالية/ ترويض
الأعاصير
(**) يقوم الباحثون في مجال الأرصاد الجوية بمحاكاة أعاصير سبق حدوثها وذلك باستخدام نماذج معقدة للتنبؤ بالجو تحاكي بدقة العمليات الداخلية المعقدة التي تعتبر حاسمة في تكوّن العواصف المدارية الشديدة وتطورها.
يؤكد هذا العمل أن هذه النظم الشواشية الضخمة سريعة التأثر بتغييرات صغيرة في ظروفها البدئية ـ على سبيل المثال: درجة حرارة الهواء ورطوبته بالقرب من مركز العاصفة وفي المناطق المحيطة به.
يتعلم الباحثون، باستخدامهم تقنيات الاستمثال الرياضياتي المعقد complex mathematical optimization techniques، ماهية التعديلات الممكن إدخالها على الإعصار كي تضعف رياحه أو يتحول مساره بعيدا عن المناطق المأهولة.
إذا نجحت هذه الدراسات، فلا بد لها في نهاية المطاف، أن تمهد الطريق نحو منهجيات عملية تسمح بالتدخل في دورة حياة الأعاصير لحماية الأرواح والممتلكات.
|
أحلام السيطرة على
الأعاصير
(***) ولما كان الإعصار يستمد الكثير من طاقته من الحرارة
التي تنطلق حينما يتكاثف بخار الماء الموجود فوق المحيط سحبا وأمطارا، فقد
تركَّز حلم الباحثين الأوائل على ترويض أولئك العمالقة الجامحين الصعبي المراس
من خلال محاولة التعديل في سيرورة التكاثف تلك، باستخدام تقنيات تلقيح السحب(3)
التي كانت الوسيلة العملية الوحيدة بهدف التأثير في المناخ. وهكذا قامت في
أوائل الستينات هيئة استشارية علمية جوية، عيّنتها الحكومة الأمريكية وتُدعى
مشروع ستورم فيوري Project
Storm fury، بسلسلة من التجارب الجريئة
(أو ربما المتهورة الطائشة) لتحديد إمكانية هذا النهج وجدواه.
استهدف مشروع ستورم فيوري تهدئة الإعصار وإبطاء
تطوره، عبر رفع معدلات الأمطار في حزام المطر الأول، خارج «جدار العين»
المألوفة التي تشكل محور الإعصار؛ أي حلقة السُّحب والرياح الشديدة المحيطة
بالعين(4). لقد حاول العاملون في المشروع إنجاز هذا الهدف من خلال تلقيح السحب
هناك، عبر نفث جسيمات يوديد الفضة بوساطة الطائرات، حيث تقوم هذه الجسيمات بدور
النوى اللازمة لتشكيل الثلج من بخار الماء، الذي تبرَّد تبريدا فائقا
supercooled بعد ارتفاعه إلى أعلى وأبرد ما يمكن
أن تصل إليه العاصفة. وإذا سارت الأمور كما هو متوقع، فستتنامى السحب أسرع
فأسرع مستهلكة المدد الهوائي الدافئ الرطب القريب من سطح المحيط لتأخذ مكان
الجدار القديم لعين الإعصار. وهكذا، تسهم هذه السيرورة في توسيع عين الإعصار
وتخفيض شدته، بطريقة تماثل فتاة تتزلج على الجليد وتدور حول نفسها بسرعة ثم
تفتح ذراعيها للتخفيف من سرعتها.
لقد كانت نتائج مشروع ستورم فيوري مبهمة غامضة في
أحسن حالاتها، ولا يتوقع الراصدون الجويون اليوم لمثل هذا التطبيق لتلقيح السحب
على وجه الخصوص أن يكون مؤثرا في الأعاصير؛ لأن العواصف، على عكس القناعات
السابقة، لا تحوي إلا القليل من بخار الماء الفائق التبريد.
طقس شواشي
(****) لقد انبثقت دراساتنا الحالية من حدس استشعرته قبل 30
عاما، حينما كنت طالبا في الدراسات العليا أتعلّم نظرية الشواش
chaos theory؛ إذ
يبدو نظام الشواش وكأنه نظام عشوائي، ولكنه في الحقيقة محكوم بقوانين ويتميز
بحساسية عالية للظروف البدئية؛ إذ إن أي مُدخلات اختيارية قد تبدو ضئيلة يمكن
أن تُحدث تأثيرات عميقة جدا، تؤدي بسرعة إلى عواقب غير متوقعة. وفي حالة
الأعاصير، فإن من شأن التغييرات الصغيرة في بعض السمات ـ مثل درجة حرارة المحيط
ومواقع تيارات الرياح الواسعة النطاق (التي تدفع حركة العواصف)، أو حتى شكل
السحب الماطرة التي تدوَّم حول عين الإعصار ـ أن تؤثر بقوة في مسار الإعصار
وشدته المحتملين.
هيكلية الإعصار
(*****) يعتقد بعض العلماء أن بإمكانهم تخفيف أخطار الأعاصير أو تحريكها في مسارات أقل خطورة، وذلك بتعديل الشروط الفيزيائية البدئية (على سبيل المثال درجة حرارة الهواء ورطوبته) في مركز العاصفة أو حتى في المناطق المحيطة به. ومن أجل تحقيق ذلك عليهم القيام بتنبؤات جوية دقيقة وتفصيلية عن الأعاصير. يوضح الشكل مخططا موجزا لكيفية تشكل مثل هذه العواصف القوية.
تبدأ الأعاصير بالتشكل حينما تُطلق المحيطات المدارية الحرارة والماء إلى الجو، منتجة بذلك كميات كبيرة من الهواء الدافئ الرطب فوق سطحها (1). يتصاعد الهواء الدافئ، وأثناء ذلك يتكاثف بخار الماء الذي يحويه ليشكل سحبا وأمطارا (2). تنتج عملية التكاثف هذه حرارة تتسبب في تصاعد الهواء أكثر فأكثر إلى الأعلى داخل السحب الرعدية النامية باستمرار (3).
يخلق إطلاق الحرارة فوق البحار المدارية منطقة ضغط منخفض سطحية، تتجمع فيها كميات إضافية من الهواء الدافئ الرطب المتدفق من المحيط الخارجي (4). تنقل هذه الحركة المستمرة، إلى داخل العاصفة الرعدية الناشئة، كميات هائلة من الحرارة والهواء والماء نحو السماء (5). إن انتقال الحرارة باتجاه الأعلى وإطلاقها يواصلان تحريض تجميع الهواء المحيط نحو المركز المتنامي للعاصفة، التي تبدأ بالدوران تحت تأثير دوران الأرض (6). وتستمر السيرورة بسرعةٍ تزيد من قوة العاصفة وتنظيمها.
ففيما تشتد العاصفة تتشكل عادة بقعة هادئة منخفضة الضغط، تسمى: «العين» (7)، تطوقها حلقات من السحب والرياح السريعة تسمى «جدار العين» (8). وهكذا تُصبح العاصفة إعصارا. وفي الوقت نفسه أصبح يتعذر على الهواء الصاعد الذي جرى تسخينه والذي فقد معظم رطوبته أن يتابع الصعود، لأن الغلاف الطبقي (الستراتوسفير) يعمل كغطاء فوق الإعصار، وهذا يؤدي إلى سقوط بعض هذا الهواء الجاف في داخل «العين» (9) وبين أحزمة السحب (10)؛ في حين أن الهواء الجاف المتبقي يتحرك في حركة لولبية مبتعدا عن مركز العاصفة ويهبط نحو الأسفل (11). وفي هذه الأثناء تقود تيارات هوائية مجاورة واسعة النطاق الإعصارَ على امتداد مساره.
|
إن حساسية الغلاف الجوي العالية للمؤثرات الضئيلة ـ
والتفاقم السريع للأخطاء الصغيرة المرتكبة في نماذج الأرصاد الجوية ـ هي التي
تجعل التنبؤ الطويل الأمد (أكثر من خمسة أيام مسبقة) بالأحوال الجوية صعبا
للغاية. ولكن هذه الحساسية جعلتني أيضا أتساءل: هل بإمكان مُدخلات طفيفة مطبقة
عمدا على إعصار أن تُحدث تأثيرات فعالة وقوية فيه، من شأنها أن تؤثر في العواصف
إما بتوجيهها بعيدا عن المراكز المأهولة أو بتخفيض سرعة رياحها؟
لم يكن باستطاعتي متابعة تلك الأفكار حينذاك، ولكن
تقانات المحاكاة الحاسوبية والاستشعار عن بعد تطورت في العقد الماضي بما يكفي
لتجديد اهتمامي بالسيطرة على الطقس على نطاق واسع. فمن خلال دعم مادي من معهد
ناسا للمفاهيم المتقدمة(5) أقوم وزملائي في شركة «أبحاث الغلاف الجوي والبيئة»(6)
باستخدام نماذج حاسوبية تفصيلية للأعاصير، في محاولة لتعرّف أنواع النشاطات
التي يمكن اختبارها في نهاية الأمر في العالم الحقيقي. إننا نستخدم على وجه
الخصوص تقانة التنبؤ أو الرصد الجوي لمحاكاة سلوك الأعاصير السابقة، ومن ثم
اختبار تأثير التدخلات المتنوعة عبر رصد التغيرات التي حدثت في العواصف التي
جرت نمذجتها.
نمذجة الشواش
(******) إن أفضل النماذج الحاسوبية المستخدمة اليوم في
التنبؤ الجوي تترك الكثير للتمني؛ ولكنها، مع بذل الجهد، قد تكون مفيدة في
نمذجة هذه العواصف. وتعتمد النماذج على منهجية رقمية تحاكي السيرورة المعقدة
لتطور العاصفة، وذلك بحساب الظروف الجوية التي تم تقديرها في خطوات زمنية قصيرة
ومتتالية، حيث تستند حسابات التنبؤ الجوي الرقمية إلى فرضية أنه: لا يمكن أن
يحدث في داخل الغلاف الجوي خلقٌ للكتلة وللطاقة وللعزوم وللرطوبة أو تدميرها.
ففي نظام مائع (مثل الإعصار)، تنتقل هذه الكميات المحفوظة على امتداد دفق
العاصفة. ولكن الأمور تصبح أكثر تعقيدا بالقرب من حدود النظام أو هوامشه. فعلى
سبيل المثال، تستطيع نماذجنا للمحاكاة أن تفسر ـ عند سطح البحر ـ اكتساب الغلاف
الجوي أو فقدانه لتلك الكميات الأربع الأساسية المحفوظة.
يُعرِّف مُعدو النماذج حالة الغلاف الجوي على أنها
تحديد كامل لمواصفات المتغيرات الفيزيائية القابلة للقياس، وتشمل: الضغط ودرجة
الحرارة والرطوبة النسبية وسرعة الرياح واتجاهها. وتمثل هذه الكمياتُ
المواصفاتِ الفيزيائية المحفوظة التي تعتمدها نماذج محاكاتنا الحاسوبية، إذ يتم
في معظم نماذج الطقس تحديد هذه المتغيرات القابلة للرصد على شبكة تمثيل ثلاثية
الأبعاد خاصة بالغلاف الجوي. وهكذا يمكن للمرء أن يرسم خريطة لكل مواصفة على كل
ارتفاع. ويسمِّي معدّو النماذج مجموع قيم جميع المتغيرات على جميع نقاط الشبكة
حالةَ النموذج model state.
ومن أجل القيام بعملية التنبؤ، يتم الإفادة من
النموذج الرقمي المعتمد، على نحو متكرر، لتحديث حالة النموذج من لحظة إلى أخرى
عبر خطوات زمنية صغيرة (من بضع ثوان إلى بضع دقائق بحسب مقاييس الحركة التي
يحددها النموذج)؛ إذ تحسب، خلال كل خطوة زمنية، تأثيرات الرياح الحاملة للصفات
الجوية المتنوعة وسيرورات التبخر وهطول الأمطار والاحتكاك السطحي والتبريد
بالأشعة تحت الحمراء والتسخين الشمسي، التي تحدث في المنطقة المعنية.
ولكن، لسوء الحظ، تبقى تنبؤات الأرصاد الجوية غير
كاملة؛ إذ تكون حال النموذج الأولية دائما وفي المقام الأول غير مكتملة وغير
دقيقة. فعلى نحو خاص، يصعب تحديد الحالات الابتدائية للأعاصير، لأن الأرصاد
المباشرة قليلة ويصعب القيام بها. ومع ذلك، فنحن نعلم من خلال صور السحب التي
تقدمها السواتل أن للأعاصير بنى تفصيلية ومعقدة. ومع أن تلك الصور ذات فوائد
محتملة، فمازلنا بحاجة إلى معلومات أكثر. أما في المقام الآخر، فإن النماذج
الحاسوبية للعواصف المدارية الشديدة نفسها، حتى مع وجود حالة ابتدائية كاملة،
تكون عرضة للخطأ. فعلى سبيل المثال، تتم نمذجة الغلاف الجوي بناء على شبكة من
النقاط فقط، يصعب عندها التعامل على النحو الصحيح مع السمات الأصغر من فرجة
الشبكة (المسافة ما بين نقطتين متجاورتين على الشبكة)؛ إذ تصبح بنية الإعصار
بالقرب من جدار العين ـ وهي أهم صفاته» ـ غير واضحة المعالم، في حال غياب الميز
العالي جدا المطلوب تحقيقه من قبل الشبكة. إضافة إلى ذلك، تسلك النماذج، كما
الغلاف الجوي الذي تحاكيه، سلوكا شواشيا تتنامى فيه بسرعة الأخطاء الناجمة عن
هذين المصدرين معا، فيما تُجرى حسابات التنبؤ بحالة الجو.
ومع محدودية تلك التقانة، فإنها تبقى مفيدة
لأغراضنا. فقد قمنا من أجل تجاربنا بتعديل نظام تمهيدي عالي الفعالية للتنبؤ
بحالة الجو، يسمى تمثيلا رباعي الأبعاد للبيانات التغيرية
four-dimensional
variational data
assimilation DVAR4 ؛
أما البعد الرابع، الذي يعود إليه الاسم فهو الزمن. إن باحثي المركز الأوروبي
للتنبؤات الجوية المتوسطة المدى (أحد مراكز الأرصاد الجوية الرائدة في العالم)
يستخدمون هذه التقنية المتطورة للتنبؤ بالطقس يوميا. ولتحقيق الفائدة القصوى من
جميع الأرصاد، التي تم جمعها عن طريق السواتل والسفن والعوامات والمجسات
المحمولة جوا قبل البدء بعملية التنبؤ، يزاوج النظام
DVAR4 المذكور آنفا، هذه القياسات، مع تخمينٍ أول مبني على الخبرة
والمعلومات educated first
guess عن الحالة الابتدائية للغلاف الجوي (وتسمى
هذه السيرورة تمثيل البيانات). ويكون هذا التخمين الأول عادة تنبؤا جويا صالحا
مدة ست ساعات من وقت إجراء الأرصاد الأصلية. ونشير إلى أن النظام
DVAR4 هذا يمثل كل رصد عند أخذه مباشرة، بدلا من
تجميع الأرصاد في مدة زمنية تصل إلى عدة ساعات. بعد ذلك يتم استخدام نتيجةَ دمج
بيانات الأرصاد التي تم تسجيلها في بيانات التخمين الأول، للبدء بمدة التنبؤ
اللاحقة التي تصل إلى ست ساعات.
نظريا، يوفر تمثيل البيانات التقريب الأمثل للطقس،
يكون فيه طباق تمثيل النموذج للأرصاد المُسجَّلة متوازنا مع طباقه للتخمين
الأول. ومع أن النظرية الإحصائية لهذه المسألة واضحة، تبقى الافتراضات
والمعلومات المطلوبة لتطبيقها على نحو صحيح تقديرية فقط. ونتيجة لذلك يعتبر
التمثيل العملي للبيانات ضربا من ضروب الفن من جهة، وعِلْما من جهة أخرى.
وتحديدا، يقوم النظام DVAR4
بإيجاد الحالة الجوية التي تُرضي معادلات النموذج والقريبة من التخمين الأول
ومن الأرصاد المُسجلة في العالم الحقيقي في آن معا؛ إذ يقوم النظام بإنجاز هذه
المهمة الصعبة عبر إعادة ضبط حالة النموذج الأصلية في بداية مدة الست ساعات،
تبعا للفروق بين الأرصاد والمحاكاة التي يقوم بها النموذج والتي تتم خلال تلك
المدة. إن هذا النظام يستخدم، على نحو خاص، تلك الفروق لحساب حساسية النموذج:
كيف لتغييرات بسيطة في كل عنصر أن تؤثر في درجة طباق المحاكاة الحاسوبية مع
الأرصاد التي يتم تسجيلها. وباستخدام ما يسمى النموذج المعدل المصاحب
adjoint model،
تعود تلك الحسابات إلى الوراء في الزمن على مدار الست ساعات. ومن ثم يقوم
برنامج للأمثلة (اختيار الأمثل) optimization
program بتحديد أفضل التعديلات الواجب إدخالها
على حالة النموذج الأصلي من أجل الوصول إلى المحاكاة التي تطابق (على نحو أفضل)
تطور الإعصار الحقيقي خلال مدة الست ساعات.
لقد تغير اتجاه النسخة
المعدلة من إعصار إينيكي بعيدا،
ونجت بذلك جزيرة كُوآي من
رياح العاصفة الأكثر تدميرا.
ولأن هذا التعديل قد أجري عبر تقريب المعادلات
الحسابية للنموذج، فإن السيرورة كلها: المحاكاة الحاسوبية والمقارنات والنموذج
المعدل المصاحب وبرنامج الأمثلة ـ لا بد أن تعاد مرارا وتكرارا من أجل تحسين
دقة النتائج. وحينما تكتمل السيرورة، فإن ظروف وبيانات المحاكاة الحاسوبية التي
تم بلوغها بنهاية مدة الست ساعات ستقدم التخمين الأول للست ساعات التالية.
وهكذا نستطيع بعد إجراء محاكاة حاسوبية لإعصار حدث
في السابق، أن نغير، في أي وقت، واحدا أو أكثر من سماته المميزة وأن نفحص آثار
تلك الاضطرابات. ويتبين لنا في النهاية أن معظم مثل هذه التغييرات يتلاشى
ببساطة. وحدها التدخلات ذات السمات الخاصة (مثل نمط خاص أو بنية خاصة تحرِّض
التعزيز الذاتي self-reinforement
تستطيع أن تتطور على نحو كاف لإحداث تغيير رئيسي في عاصفة ما. ولأخذ فكرة عما
يعنيه هذا الأمر، تخيل شوكتين رنانتين، الأولى تهتز والأخرى ساكنة. فإذا كانت
للشوكتين ترددات مختلفة، فإن الشوكة الثانية لن تتحرك مع أن الموجات الصوتية
الصادرة عن الشوكة الأولى تطرقها مرارا وتكرارا. ولكن إذا كان للشوكتين التردد
نفسه، فإن الشوكة الثانية ستتجاوب بفعل الرنين وتهتز أيضا. وبأسلوب مشابه، فإن
التحدي الذي يواجهنا هو إيجاد المُحفز المناسب (مثلا تغييرات معينة في الإعصار)
الذي سيفضي إلى استجابة قوية توصلنا إلى النتائج التي نتطلع إليها.
تهدئة العاصفة
(*******) للكشف عن إمكانية استغلال حساسية النظام الجوي
لإحداث تعديل في ظواهر جوية قوية مثل الأعاصير، أنجز فريق عملنا في شركة أبحاث
الغلاف الجوي والبيئة (AER) تجارب محاكاة حاسوبية
على إعصارين حدثا عام 1992. كان أولهما هو الإعصار إينيكي
Iniki الذي ضرب في الشهر 9/1992 جزيرة كُوآي
Kauai، إحدى جُزر هاواي، وحصد العديد من الأرواح
وأحدث خسائر مادية جسيمة، كما أدى إلى تسوية غابات بكاملها بالأرض. أما الآخر
فهو الإعصار أندرو Andrew الذي ضرب ولاية فلوريدا
إلى الجنوب مباشرة من ميامي في الشهر 8/1992 وخلَّف دمارا هائلا في المنطقة.
ومع أن تقانات الرصد والتنبؤ الجوي المتوافرة لم تكن
كاملة، فقد أدهشنا أن حققت أول تجربة محاكاة حاسوبية قمنا بها نجاحا فوريا. فمن
أجل تعديل مسار إعصار إينيكي، حددنا أولا الموقع الذي أردنا أن ينتهي إليه
الإعصار بعد ست ساعات، وكان في حدود 60 ميلا غرب المسار المتوقع؛ ومن ثم قمنا
باستخدام هذا الهدف لخلق أرصاد صنعية، غذّينا بها النظام
DVAR4، وأعملنا الحاسوب في حساب أقل تغيير في المجموعة الابتدائية
للمواصفات الأساسية المُحدِّدة للإعصار يمكن له أن يوجه المسار نحو الموقع
الهدف. وقد سمحنا، في هذه التجربة المبكرة، لأي نوع من التعديلات الصنعية
المحتملة في نظام العاصفة بأن يحدث.
وتبين أن أهم التعديلات كانت هي درجة الحرارة
الابتدائية والرياح، إذ بلغت التعديلات النموذجية في درجة الحرارة عبر الشبكة
مجرد أَعْشار من الدرجة، لكن التغير الأكثر وضوحا (زيادة قاربت درجتين
سيلزيتين) حدث في طبقة النموذج الأكثر انخفاضا غرب مركز العاصفة؛ كما أفضت
الحسابات إلى تعديلات في سرعة الرياح بلغت ميلين أو ثلاثة أميال في الساعة. ومع
ذلك تغيرت السرعات في مواقع قليلة بحدود 20 ميلا في الساعة، بسبب تغيرات طفيفة
في توجهات الرياح حدثت بالقرب من مركز العاصفة.
ومع أن النسختين الأصلية والمعدلة من إعصار إينيكي
بدتا متطابقتين تقريبا في البنية، فقد كانت التفاوتات في المتغيرات المفتاحية
(الدليلة) كبيرة بما يكفي لجعل الإعصار المُعدل يجنح بعيدا إلى الغرب للست
ساعات الأولى من المحاكاة الحاسوبية، ومن ثم يرحل باتجاه الشمال؛ وبذلك نجت
جزيرة كُوآي من أخطار الرياح الأكثر تدميرا. لقد امتدت التعديلات الصنعية
الصغيرة نسبيا التي أدخلت على الظروف الابتدائية للعاصفة من خلال المجموعة
المعقدة من المعادلات غير الخطية التي كانت تحاكي العاصفة، لتقودها إلى الموقع
المرغوب بعد الست ساعات. لقد أعطانا هذا المنحى ثقة بأننا نخطو في المسار
الصحيح لتحديد التغييرات اللازمة لإحداث تعديل في الأعاصير الحقيقية. وفي
المحاولات اللاحقة لمحاكاة الأعاصير، استخدم فريق عملنا مستويات ميز أعلى
higher resolutions
للشبكة في نمذجة الإعصار، وأعمل النظام DVAR4 في
تحقيق هدف التقليل من الخسائر المادية في الممتلكات.
التحكم في الأعاصير التي
تمت محاكاتها
(********) يستخدم الباحثون نماذج حاسوبية لمحاكاة إعصارين مدمرين حدثا عام 1992 وهما: إعصار إينيكي Iniki وإعصار أندرو Andrew؛ إذ تمثل الألوان درجات (فئات) سرعة الرياح، في حين تشير الخطوط الكفافية (الكنتورية) السوداء إلى رياح هوجاء عاصفة بسرعة 56 ميلا في الساعة، وهي ـ على نحو عام ـ السرعة الأدنى للرياح التي تسبب الدمار.
في نموذج المحاكاة لإعصار إينيكي (في اليمين) يقود المسار الأصلي «للعين» (الخط الأسود المُتقطع) الرياح السريعة للعاصفة فوق جزيرة كوآي (إحدى جزر هاواي). ولكن بعد التعديل الطفيف للعديد من ظروف النموذج الابتدائية (تشمل درجة حرارته ورطوبته في نقاط متنوعة) انحرف مسار العاصفة التي تمت محاكاتها (الخط الأحمر المتقطع) بعيدا إلى الغرب من جزيرة كوآي، بمقدار 60 ميلا، عابرا فوق الموقع الهدف، ومن ثم استمر باتجاه الشمال متحركا أبعد وأبعد إلى الغرب من الجزيرة.
تصف خرائط البحار المحيطة بولاية فلوريدا وجزر البهاما (في الأسفل) نماذج محاكاة إعصار أندرو في حالته غير المعدلة (في اليسار)، وفي هيئته التي تم تغييرها صنعيا عن طريق تدخل الباحثين (في اليمين). ومع أن الرياح المدمرة تبقى في الحالة التي تم التحكم فيها، فقد تقلصت السرعات القصوى للرياح بوضوح، ومن ثم أمكن تهدئة الإعصار من الدرجة (الفئة) الثالثة إلى الدرجة الأولى.
|
في إحدى التجارب قمنا باستخدام الكود المُعدل لحساب
الزيادات في درجة الحرارة اللازمة لتحجيم الدمار السطحي للرياح، الذي سببه
إعصار أندرو حين ضرب ساحل ولاية فلوريدا. كان هدفنا من ذلك الإبقاء على
الاضطرابات الابتدائية في درجة الحرارة في حدها الأدنى (كي يصبح تحديدها في
الحياة الحقيقية أسهل ما يمكن)، والتقليص من الرياح الأكثر دمارا على مدار
الساعتين الأخيرتين من الساعات الست الأولى. وفي هذه المحاولة تمكن النظام
DVAR4من الوصول إلى أن أفضل طريقة للحد من الدمار
الذي تسببه الرياح تتمثل في إجراء أكبر التعديلات في درجة الحرارة الابتدائية
بالقرب من عين العاصفة. فقد أفضت المحاكاة هنا إلى تغيرات بلغ أقصاها درجتين أو
ثلاث درجات سيلزية في بعض المواقع القليلة؛ أما التغيرات الأصغر (أقل من 0.5
درجة سيلزية)، فامتدت إلى مسافات تبعد عن العين ما بين 500 و6000 ميل. تبدي هذه
الاضطرابات الحرارية نمطا شبيها بالموجات، مؤلفا من حلقات متبادلة من التسخين
والتبريد تتمركز في الإعصار. ومع أن درجة الحرارة فقط هي التي تم تغييرها في
البداية، فقد تأثرت أيضا جميع المتغيرات المفتاحية (الدليلة) أيضا في الحال.
وفي حالة الإعصار الأصلي المحاكَى، ضربت الرياح المدمرة (التي تفوق سرعتها 56
ميلا في الساعة) مناطق آهلة بالسكان في جنوب ولاية فلوريدا مع نهاية الست
ساعات، في حين لم تفعل ذلك وفق النموذج المُعدل.
التدخل في الإعصار(*********)
ولاختبار وثوقية هذه النتائج، طبقنا الاضطرابات
نفسها على نسخة من نموذج المحاكاة أكثر تعقيدا وأعلى ميزا، وحصلنا على نتائج
مشابهة جدا، وهذا يشير إلى أن تجاربنا غير حساسة لتشكيلة
confinguration النموذج الخاص الذي اخترناه؛ أي إنها لا تتأثر به كثيرا.
ولكن على أي حال عادت الرياح المدمرة بعد ست ساعات إلى الظهور مرة أخرى في
نموذج المحاكاة المعدل، وهذا كان يتطلب إجراء تدخلات إضافية للإبقاء على جنوب
ولاية فلوريدا آمنا. وفي الحقيقة يبدو أن الأمر يتطلب سلسلة من اضطرابات سبق
التخطيط لها للسيطرة على إعصارٍ ما لأي مدة زمنية ـ طالت أو قصرت.
من يستطيع أن يوقف المطر؟
(**********) إذا كان صحيحا، كما تشير النتائج التي حصلنا عليها،
أن تغيرات طفيفة في درجة الحرارة داخل الإعصار وحوله بإمكانها أن تُغيِّر مساره
إلى اتجاه معين متوقع أو تقلل من سرعة رياحه، يبقى السؤال المطروح: كيف يمكن
تحقيق مثل تلك التغيرات؟ بالطبع لا يستطيع أحد تعديل درجة الحرارة في اللحظة
والتو في وسطِ شيء ضخم بضخامة الإعصار، ولكن من الممكن تسخين الهواء حول
الإعصار، ومن ثم تعديل درجة الحرارة بمرور الوقت.
يخطط فريقنا لإجراء تجارب نحسب فيها بدقة نمط تسخين
الغلاف الجوي وشدته اللازمين لتخفيف حدة الإعصار أو تعديل مساره. وما لا شك فيه
أن الطاقة اللازمة لذلك ستكون هائلة، ولكن استخدام مجموعة كبيرة من محطات القوى
التي تستخدم الطاقة الشمسية والمنتشرة كسواتل حول الأرض سوف تمدنا في نهاية
المطاف بالطاقة الكافية لتحقيق غايتنا. إن بإمكان هذه السواتل المنتجة للطاقة
استخدام مرايا عملاقة تستجمع ضوء الشمس وتركزه في خلايا شمسية، ومن ثم ترسل هذه
الطاقة التي تم تجميعها إلى مستقبلات الموجات الميكروية الموجودة على سطح
الأرض. ومن شأن التصاميم الحالية لمحطات الطاقة الشمسية الفضائية أن تبث
الموجات الميكروية بترددات تعبر الغلاف الجوي من دون أن تسخِّنه، لكي لا تضيع
طاقتها. على أي حال، فمن أجل التحكم في الطقس بالإمكان تسخين مستويات مختلفة من
الغلاف الجوي (بحسب الرغبة)، إذا حوَّلنا الحلقة الأدنى من الموجات الميكروية
إلى ترددات يمتصها بخار الماء على نحو أفضل. ولأن قطرات المطر تتميز بقدرتها
العالية على امتصاص الموجات الميكروية، فستتم حماية أجزاء الإعصار الواقعة داخل
السحب الماطرة وأسفلها، وبذلك تبقى بعيدة عن التسخين.
وفي تجاربنا السابقة تَمكَّن النظام
DVAR4 من تحديد تغيرات كبيرة في درجات الحرارة في
المواقع عينها التي لم يكن التسخين بالموجات الميكروية يعمل فيها. ولذلك أجرينا
تجربة قمنا فيها بتثبيت درجة حرارة مركز الإعصار خلال حسابنا للاضطرابات المثلى
الممكن إحداثها، وقد كانت النتائج النهائية مشابهة لتلك الأصلية، ولكن للتعويض
عن عدم إجراء أي تغيرات في درجة الحرارة الابتدائية في مركز العاصفة كان لا بد
للتغيرات الحرارية المتبقية أن تكون أكبر. وجدير بالذكر أن التغيرات في درجة
الحرارة تطورت سريعا بالقرب من مركز العاصفة أثناء المحاكاة.
تغيرات صغيرة يمكن أن تؤثر
بقوة في مسار الإعصار وقوته.
هناك طريقة واعدة أخرى لتعديل العواصف المدارية
الشديدة، وذلك بالتحجيم المباشر للطاقة المتوافرة، عبر اللجوء لتغطية سطح
المحيط بطبقة رقيقة من النفط، قابلة للتقوّض (التدرك) الحيوي
biodegradable، من شأنها أن تبطئ عملية التبخر.
كما يمكن التأثير في الأعاصير بإدخال تعديلات تدريجية قبل أيام من موعد
اقترابها، وعلى مسافات تبلغ آلاف الأميال، بعيدا عن أهدافها النهائية؛ إذ يمكن
لهذه الإجراءات، عبر تعديلها لضغط الهواء، تحريض تغيرات على نطاق واسع في أنماط
الرياح على مستوى التيار النفثي (المتدفق) jets-tream،
التي يمكن أن يكون لها تأثيرات رئيسية في شدة الإعصار ومساره. إضافة إلى ذلك،
من الممكن لتعديلات طفيفة نسبيا في نشاطاتنا الاعتيادية ـ مثل توجيه مخططات
مسارات الطيران بحيث تحدد بدقة مواقع آثار التكثف
contrails، وهذا يزيد من غطاء السحب؛ أو تنويع طرق ري المحاصيل لرفع
نسبة البخر أو خفضها ـ أن تفضي إلى التعديلات البدئية المناسبة.
ماذا لو نجحت السيطرة؟
(***********) إذا كان من شأن التحكم في الأرصاد الجوية أن ينجح في
نقطة ما في المستقبل، فسوف تظهر في الأفق مشكلات سياسية خطيرة. فماذا لو قادت
هذه التدخلات إلى أن يُدمر الإعصار أراضي دولة أخرى؟ ومع أنه تم تحريم استخدام
التدخل في الظروف الجوية كسلاح من خلال اتفاقية لهيئة الأمم المتحدة في أواخر
السبعينات؛ فإن بعض الدول يمكن أن يغريها هذا الموضوع.
ولكن قبل أن تظهر مثل هذه الحسابات المقلقة إلى حيز
الوجود، لا بد لمنهجياتنا أن تثبت فعاليتها في ظواهر جوية أخرى غير الأعاصير.
ففي الحقيقة نحن نعتقد أن تقاناتنا هذه لا بد لها أولا أن تثبت جدواها في جهد
يهدف إلى تحسين هطل الأمطار. ويمكن لهذا النهج حينئذ أن يخدم مقدمةً لاختبارات
يمكننا إجراؤها على مفاهيمنا تلك في منطقة صغيرة نسبيا، بعد أن يتم تجهيزها
بكثافة بالمجسات. وسيسمح لنا هذا التقليص في مقاييس وأحجام مناطق التطبيق
بإدخال التغيرات (أو الاضطرابات) المطلوبة من الجو بالطائرة أو من اليابسة.
فإذا كان لفهمنا لفيزياء السحب والمحاكاة الحاسوبية لتلك السحب وتقنيات استيعاب
البيانات أن يتقدم بالسرعة التي نأملها، فإن هذه المحاولات المتواضعة يمكن أن
تُدشن ربما في غضون عشرة أعوام أو عشرين عاما. وبتحقيق مثل هذا النجاح، يمكن أن
يصبح التحكم في الظروف الجوية على نطاق أكبر، باستخدام التسخين الذي توفره
المحطات الصنعية الفضائية، هدفا معقولا يمكن للشعوب والأمم أن تتفق على المضي
قدما في تحقيقه.