الكراهية الدينية حرية نستطيع الاستغناء عنها بالتأكيد
06-03-2006 12:00 am
مات العشرات بسبب النشر الأحمق للرسوم التي تعبر عن الرهبة من الإسلام.
وقد تكون الحصيلة بضعة ملايين أخرى إذا نشب صراع حضارات يبدو أن البعض
يتوق إليه.
حسناً، ستذهب حرية ثمينة أخرى. فاعتباراً من العام المقبل، حسبما حكم
المشرعون أخيرا، ستكون إنجلترا مثل بقية بريطانيا وكثير من الأماكن الأخرى
في أرجاء العالم، إذ فرض حظر كامل على التدخين في الأماكن العامة المغلقة،
بما فيها المطاعم والحانات.
يمثل هذا، بطبيعة الحال، تحسناً في نمط الحياة لغير المدخنين الذين
سيتحررون من رائحة دخان التبغ حيثما يذهبون (فيما عدا ما هو موجود في
الهواء النقي). لكن عندما يتم حظر شيء ما، فإن حرية تفقد. فقد كانت حقوق
المدخنين في السابق متوازنة مع حقوق غير المدخنين في الأماكن العامة، لكن
غير المدخنين يملكون الآن كل الحقوق بينما لا يملك المدخنون أي حقوق.
ما يهمني إزاء حظر التدخين هو أنه يعكس فيما يبدو لا مبالاة متزايدة
بقضايا مبدئية في السياسة العامة. فالأمر يبدو وكأن الديمقراطية
الليبرالية موجودة منذ وقت طويل بالقدر الذي يكفي لنشعر بأننا نستطيع أن
نعتبرها الآن مضمونة ولا نقلق كثيراً إذا تم التخلي عن حقوق أو حريات
معينة من أجل مصلحة أكبر متصورة.
وأحد الأمثلة على ذلك أنه قبل بضعة أسابيع تم تركيب سارية سوداء مشؤومة
على شكل حرف L مقلوب، خارج نافذة المكتب الذي أجلس فيه، تتدلى فوق الطريق
المزدحم. وبعد ذلك وصل بعض الرجال وبدأوا في تركيب كاميرات على السارية،
ليس فقط واحدة أو اثنتين، وإنما عشر كاميرات. وهي حسبما يبدو تخص وكالات
حكومية مختلفة تريد مراقبة المركبات التي تمر تحتها.
يعيش البريطانيون في ظل مستويات استثنائية من المراقبة. فأنت بالكاد تفلت
من كاميرا في وسط لندن. لكن هذا الغزو للخصوصية مقبول دون اعتراض، لأنه
يروج له على أنه جزء من المعركة ضد الجريمة والإرهاب.
ولنأخذ مثالاً مختلفاً جداً. ففي الوقت نفسه الذي كان يجري فيه تركيب
السارية، طرح منظمون أوروبيون خطة على الطراز الأمريكي، تسمح بوضع منتجات
مقابل رسوم في البرامج التلفزيونية الأوروبية، ما يعني أن بإمكان المعلنين
أن يتفادوا حدود الفاصل التجاري ويدسوا إعلانات عن منتجات وعلامات تجارية
في محتوى البرامج.
إنني شخصياً مرعوب من هذا التطور بسبب تأثيراته على الحقيقة الفنية وسلامة
التحرير. فكيف يمكن لك أن تثق بما يقوله الناس، عندما لا تعرف ما إذا
كانوا يتقاضون أجراً على ما يقولونه أو لا يتقاضون؟ لكن هذا المبدأ المهم
بدا لا قيمة له أمام رغبة الشركات التلفزيونية في جني أموال أكثر.
وربما كان هذا مجرد ظاهرة أخرى لعصر ما بعد الحداثة، الذي أفسحت فيه
المثالية الطريق أمام الاستخفاف بكل شيء. فقد أصبح شعار الحياة "أحبوا،
مهما كان" والمغرورون فقط هم الذين يأخذون الأمور على محمل الجد. ولا عجب
في أن الناس لا يمكن أن يكلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى الانتخابات.
بالعودة إلى التدخين في الأماكن العامة، وقفت قضية المبدأ ذات يوم في طريق
حظر صريح. فمن المؤكد أن غير المدخنين يملكون الحق في استنشاق هواء نظيف،
لكن لم يكن واضحاً أبداً أن هذا سيمتد ليصل إلى الحق في فرض عدم السماح
لمدخن بأن يستمتع بسيجارة في أي جزء من أية حانة مرة أخرى، حتى بين بالغين
موافقين.
لكن الانقلاب الذكي للنشطاء المناهضين للتدخين تمثل في تغيير النقاش
وتحويل غير المدخنين، الذين يعتبرون حتى الآن مجرد مفسدي بهجة، إلى ضحايا
بناء على بحث مختلف حوله يوحي بأن التدخين السلبي يمكن أن يضر بصحتهم.
ومع أن الصحيح أن بإمكان غير المدخنين أن يستخدموا الأماكن التي يمنع فيها
التدخين، أو يذهبوا إلى الحانات التي يمنع فيها التدخين، فماذا عن
العاملين في الحانات؟ (نعم، بإمكانهم أيضاً أن يعملوا في مكان آخر لكن
يكون كل المنطق قد تلاشى خلال هذه الفترة).
لذلك، فإن قضية المبدأ طغت عليها في نهاية المطاف سلامة مكان العمل. فمهما
كانت المخاطرة ضئيلة بالنسبة لصحة الموظفين، ومهما كان الموظفون أحراراً
في تجنب المخاطرة إذا أرادوا، فقد كان ذلك يستحق التضحية بحقوق جميع
المدخنين في أي مكان عام مغلق، لمجرد التأكد من عدم بروز أي مخاطر على صحة
أي موظف.
لكن هناك تناقضاً، أليس كذلك؟ فإذا كانت السلامة البشرية أهم من تدعيم
مبدأ، فلماذا دافع عدد كبير جداً من المعلقين الغربيين عن نشر الصحف
الأوروبية رسوما كرتونية تسخر من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على
أساس أن النشر يبرره الحق في حرية التعبير؟
فقد مات ما لا يقل عن 45 شخصاً حتى الآن في العنف المستمر، الذي أثاره
النشر الأحمق والمثير للمشاعر لهذه الرسوم الكرتونية التي تعبر عن الرهبة
من الإسلام. وقد تكون الحصيلة بضعة ملايين أخرى إذا وصلت الأمور إلى صراع
حضارات يبدو أن البعض يتوق إليه.
إن الدفاع عن حرية التعبير عديم المعني، طالما أن الحق في حرية التعبير،
إن كان هناك فعلا أي شيء من هذا القبيل، قد مضى منذ زمن بعيد على طريق
الحريات المدنية الأخرى. وبفضل حركة التصحيح السياسي التي تواجه كثيراً من
السخرية، لم يعد مقبولاً أن تقوم الصحف الغربية أو الجمهور عموماً بإهانة
أو تهميش النساء أو المعاقين أو اليهود أو الشاذين جنسياً أو أعضاء
مجموعات عرقية أو ثقافية أخرى.
وهناك أمر جيد أيضاً، وهو أن العالم مكان أفضل وأكثر نزاهة مع حقيقة أن
لغة التعصب اختفت من الخطاب المتحضر، وأنا أفشل في رؤية الأهمية أو القيمة
التي ضاعت.
إنني لا أريد أن أهتم كثيراً بالتشبيه، فحرية التعبير أهم بكثير من حرية
التدخين في حانة، لكن إذا كان مبدأ تدعيم المبادئ سيصبح تقليدياً، فإن
الحق في التعبير عن الكراهية الدينية حرية مدنية نستطيع أن نستغني عنها
بالتأكيد.
السبت ديسمبر 26, 2009 6:09 am من طرف سميح القاسم