قليلة هي اللحظات المفصلية في تاريخ الشعوب، والتي تلعب فيها النخب دورا حاسما، في الانعطافات التي تطوي الصفحات وتفتح أخرى جديدة.
وفي حالة المغرب، أخلفت نخبنا الموعد مع هذه المحطات التي جادت بها
اللحظات التاريخية في أزمنة سياسية متباينة، على الأقل، خلال الخمسين سنة
ألخيرة.
لن أدخل في تفاصيل تلك المحطات، إذ لا
يسمح الحيز الزمني للفضاء "الالكتروني" بالوقوف عند كل تلك اللحظات، ولكن،
أسجل أن المدخلين النظري والسياسي، والمقدمات السياسية والاجتماعية التي
"ولدت" في كنفها الكتلة الديمقراطية بداية القعد التسعيني من القرن
الماضي، وما راكمه هذا التحالف السياسي، بزخمه النضالي، الذي لعبت فيه،
بالاضافة إلى تنظيمات الكتلة الديمقراطية، الجمعيات الحقوقية والمنظمات
النقابية، دورا أساسيا وحاسما، أثمر العديد من المكاسب، لعل أبرزها العفو
العام عن جميع المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين.. كلها كانت مقدمات
حقيقية، كان ينتظر منها أن تنتهي بالاعلان عن ميلاد مغرب جديد.
ولعل ما يفسر هذا الميلاد الموعود، أو شبه الحتمي، الزخم النضالي على
الجبهتين السياسية والإجتماعية، وما استتبع ذلك من حركية في المشهد
الثقافي والفني، الذي استعاد وهجه السبيعيني والثمانيني، وما تم تحقيقه
من مكاسب، خاصة على المستوى الحقوقي... كلها مؤشرات، كانت بمثابة مقدمات
لهذا المولود الموعود، أو للمغرب الجديد.
ولا شك
في أن الاعلان عن حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبد الرحمن اليوسفي، الذي
اعتبر آخر الشخصيات الكاريزمية من رموز الحركة الوطنية، كان عنوانا
بارزا، ومؤشرا حقيقا على ان تاريخا جديدا قد بدأ مع هذا الشخصية العصية
على الترويض.
وبالرغم مما فتحته هذه التجربة من
آمال عريضة لدى جميع المغاربة، غير أن الرياح، كانت قد جرت بما لا يشتهيه
اليوسفي، ومعه جميع من آمن بالتجربة وقدما لها ما يلزم من الدعم.
غير أن الانتخابات التشريعية لسنة 2002، وما أعقبها من "خروج عن المنهجية
الديمقراطية" عبر تعيين ادريس جطو وزيرا أولا من خارج قبة البرلمان، أثبت
أن "التعاقد" الذي أسست عليه التجربة كان هشا، ومبنيا على أسس غير سياسية،
إذ كشفت الأخبار الواردة من كواليس اللقاءات التي جمعت المرحوم الحسن
الثاني و عبد الرحمن اليوسفي، قبل اعلان تعيينه وزيرا أولا، كانت مبنية
على "الفاتحة" بتعبير الأقدمين. بالرغم من أن الصورة، صورة هذا التعاقد،
لم تكتمل بعد لدى المهتمين والفاعلين السياسيين، وظلت إلى الآن طي الكتمان.
ومهما يكن، فقد كان مآل التجربة، الفشل الدريع سياسيا، والأثر السلبي
نفسيا على جميع النخب التي راهنت على التجربة، ودافعت عنها حتى اللحظات
الأخيرة.
كانت تلك احدى المحطات التاريخية
الحاسمة في حياتنا السياسية المعاصرة، والتي أخلفت فيها نخبنا الموعد مع
التاريخ، ولم تستثمر ما تمت مراكمته سياسيا ونضاليا عبر سنوات.
ولعل ما عرفه ويعرفه الشارع المغربي منذ حوالي خمسة أشهر خلت، بفضل ما بات
يعرف بـ"ربيع العالم العربي"، وما منحته حركة شباب 20 فبراير من وهج
للحياة السياسية، ومن فرص للنخب السياسية، خاصة تلك التي كانت إلى حين
وليدة نبض القاع الاجتماعي للشعب المغربي، وأعني هنا بشكل خاص، الاتحاد
الإشتراكي للقوات الشعبية، كلها امكانيات ضخمة من أجل إعادة الاعتبار
للفعل السياسي الحقيقي، المنطلق من قضايا الشعب الحقيقية، والهادف إلى
تغيير أوضاعه، بما يعني ذلك، الدفع بمطالب الدولة المدنبة إلى أقصى
الحدود، ودولة الحق والمؤسسات، والقطع مع اقتصاد الريع والفساد السياسي،
ووضع، على الأقل، المقدمات الممهدة للملكية البرلمانية.
كل هذه المطالب التي أعلنها الشارع، الذي احتضنت حركة 20 فبراير، مختلف
اطيافه وتشكيلاتها، في سابقة قل نظيرها في الأزمنة الساسية المغربية، كل
هذا، كان في واد، والنخبة السياسية في واد آخر.
لقد توزعت نخبتنا السياسية، في الموقف من الحركة الشبابية، بين مخون لها،
وبين مشكك في نواياها المعلنة، وبين الواضع مسافة بينه وبينها، مع التأكيد
على أن جميع مطالبها هي نفسها التي سبق وأن تمت المطالبة بها منذ
عقود-حالةالإتحاد الاشتراكي- .
وفي كل هذا، تركت
الحركة لنفسها، أو لأطراف سياسية أكثر تطرفا، مما فسح المجال لنفس النخب،
بأن تعود للتأكيد على أن الحركة قد حادت عن مطالبها الأولى، وتم احتواءها
من طرف النهج الديمقراطي و جماعة العدل والاحسان، وبالتالي بهذا فراق
بيننا وبينها.
والسؤال الذي يطرح، والحالة هذه،
على نخبتنا السياسية، هو كيف حرمتم هذه الحركة من الدعم السياسي والمعنوي،
وتركتموها لوحدها تقاول "المخزن" وتقاوم من أجل استقلاليتها، وفي الأخير،
تسمحون لأنفسكم بانتقادها بسبب ما تعتبرونه احتواء من جماعة العدل
والاحسان، والنهج الديمقراطي؟.
ما الذي منع
نخبتنا السياسية الحالية من دعم حركة الشباب، رغم أن مطالبها لم تتجاوز
السقف الذي سبق للقوى الديمقراطية أن أعلنت عنه في أكثر من مناسبة، خاصة
الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية؟.
لاشك في
أن تردد بعض الأحزاب السياسية في التعاطي مع حركة 20 فبراير بشكل إيجابي،
وخاصة الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، والمنظمات الموازية لهذين
التنظيمين، مرده إلى التحولات الجذرية التي اعترت المستويات الإجتماعية
والفكرية لدى قيادات هذه التنظيمات، وذلك منذ خروجها من المعارضة إلى
الجلوس على كراسي المسؤولية، و لا أقول إلى ممارسة الحكم.
ولا شك أيضا، في أن الدفاع عن مصالحها الشخصية، جعلها تصطف ضد المطالب
الحقيقية للشعب، وهو ماجعلها ترفض حتى مشاركة قواعدها في الموقف من
الاصلاحات الدستورية، والموقف من الدستور، كما كانت تفعل في أزمنة النضال
الحقيقي، فكيف لها أن تفتح النقاشات العمومية مع الشعب بمناسبة الحملة على
الاستفتاء، وهو ما يفسر عدم تنظيمها للقاءات المفتوحة، وهروبها إلى ضواحي
المدن والبوادي، وإقامة المهرجانات بـ"الشيخات والتبوريدة" بدل النقاش
السياسي والدستوري الحقيقي.
لقد أخلفت نخبنا
موعدها مع التاريخ مرة أخرى، ولا شك في أن القادم من الأيام، وأقربها
الانتخابات التشريعية المقبلة، سيتم استقبالها بـ" تحية تعظيم سلام" كما
يقول الأشقاء في بلاد الكنانة.
مع ذلك، هل نقول
السلام على مطالب الحركة الشبايبة؟، أكيد لا، مادام الشارع مستمر في نبضه
بالحياة، وبالشعارات التي تعكس حقيقة مطالب الشعب وحقه في مغرب بمؤسسات
حقيقية، وبمغرب ينعم فيه المواطن بحقه في الكرامة، وفي تعليم متكافئء، وفي
سكن لائق، وفي قضاء نزيه، وفي توزيع عادل للثروات.
وإذا كانت نخبتنا السياسية الحالية، أو جزء منها على الأقل، قد خذلت شعبها، فإن الشعب الذي أفرزها قادر على الإتيان بغيرها.