قررت أن اصمت...ليس امتثالا للمقولة الشهيرة :قل خيرا أو اصمت، فما أذكر
أنني قلت خيرا في يوم من الأيام، ومع ذلك كنت كثير الكلام.. و لم أصمت.
قررت
الصمت حيال ما أعتقد أنه نقاش مغلوط حول الدستور،في انتظار أن تمر مهزلة
الاستفتاء، و يُعتمد الدستور الجديد، بصوتي أو بدونه، و لربما بصوت كل
الذين يصرخون أو بدونه....فالدولة عازمة على الإنجاح القسري لما أصبح يعرف
بأول دستور في العهد الجديد....
نقاش مغلوط، لأنني أعتقد أن
طرحه ، في سياق الحراك العربي و الإقليمي، كان خيارا حسابيا لا غير، فقد
تم تقديمه ، في صيغته المأمولة و الأكثر تقدما، على أنه الثمن الأقل تكلفة
لتجنب مصائر الدول الشقيقة و الصديقة، و التي طردت رؤساء عمروا على عروشها
عقودا، و وجدوا أنفسهم هاربين و مسجونين ....
لم يكن مطلب تعديل
أو تغيير الدستور، من المطالب الملحة و الآنية للحراك المغربي،كان ضمن
اللائحة فقط، و قبله مطالب أخرى اجتماعية ، تتلخص في توفير العيش الكريم
لأبناء هذا الوطن، و سياسية تتمثل في محاربة الفساد و تخليق الحياة
السياسية، و في مرحلة ما تغيير الدستور بما يضمن ممارسة سياسية سليمة و
ديمقراطية....
نجحت الدولة في تحوير النقاش العام،و اختزاله في
المعركة الدستورية، و انحرف جزء من شعارات العشرين من فبراير لذات
الاتجاه،تناسلت الندوات و كثرت المذكرات، و أصبح الجميع ينام و يستفيق على
الدستور الديمقراطي الحداثي المغير لبنية الدولة....كان ذلك تصريح
المستشار الملكي ، رئيس الآلية السياسية المواكبة للجنة الاستشارية....
حين
أنحبس شكل الثورة في النموذج الليبي، ثم اليمني و من بعده السوري، و بعد
اجتثاث دابر الثورة البحرينية،خمنت الدولة أن ريح التغيير خفت فحيحه، و
استدركت أن الوعود المقدمة في إطار خطاب التاسع من مارس ربما ليست بالكلفة
البسيطة، بل لعلها أعلى بكثير من المطلوب مرحليا، حيث أنحبس التهديد، و
عادت حالة الصمت و السكون لتخيم على زوايا الواقع السياسي....
لذا
كان قرار إخراج الدستور،بالشكل الذي هو عليه،مضمنة إياه الكثير من
المكتسبات التي راكمها المجتمع قبل تاريخ الحراك العربي، و من ضمنها بعض
توصيات الإنصاف و المصالحة و ليست كلها، الكثير من الحقوق
الفئوية،الممارسة العرفية التي تقتضي تعيين الوزير الأول من الحزب الذي
تصدر نتائج الانتخابات،و التي فرضتها مقولة المنهجية الديمقراطية،و إعادة
ترتيب الكثير من الأعراف المتداولة في الممارسة الديمقراطية،و التي ترسخت
عبر تطور التاريخ:علاقة الملك بالجهاز التنفيذي،إعادة هيكلة المجلس الأعلى
للقضاء .....
هذا الإخراج صاحبه لغط، و ليس نقاش مجتمعي، تم فيه
تجيش فئات كثيرة من المهمشين داخل المجتمع، لخوض حرب ضد كل الأصوات
المناهضة، و ذلك بهدف ترسيخ البدائل القمعية للدولة، بعد التنديدات التي
حصدتها إثر تدخلها الهمجي ضد المتظاهرين في مسيرة التاسع و العشرين من ماي
2011، و خلق قاعدة مناصرة لمبادرتها تعتمد الاستعداء للموقف المضاد ، عبر
استعداء حامليه بوسائل لا علاقة لها بالنقاش حول الدستور من جهة أخرى...
بالمقابل،
كي لا تفقد السيطرة على زمام الأمور،تمكنت الدولة بوسائل إكراهها، الهيمنة
على النقاش العمومي الدائر في قنوات الإعلام، سواء الخاص منها أو
العمومية،و قد تجلى ذلك بديهيا، بالتطبيل لموقف واحد من الدستور الداعي
للتصويت بنعم، و ذلك قبل الوقت القانوني لبداية الحملة، و التي تميزت في
بدايتها القانونية هذه، بتقديم المقاطعين للاستفتاء و المناديين بالتصويت
ضد الدستور ، كأقلية مهمشة و نشاز داخل المجتمع،و قد تجلى ذلك في برنامج
مباشرة معكم الذي يديره الصحفي جامع كلحسن، حيث قدموا محمد الساسي،عضو
المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد منفردا، وسط ثلاثة دعاة للتصويت
بنعم، مع قنبلة البرنامج بروبورتاجات لمواطنين داخل مسيرات التأييد
للتصويت بنعم....هذا دون أن ننسى أن حصة الأخبار بالعربية عرفت نفس
التعامل، حيث أفردت لمسيرات التصويت بنعم أكثر من أربعة دقائق، بينما سردت
موقف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في أقل من عشرة ثواني، دون أن تمكن
أحدا من قيادييها بالإدلاء بتصريح يشرح "للنظارة الكرام" سبب و حيثيات
موقف المقاطعة....
كل هذه الأجواء تسيير في اتجاه تمرير الوثيقة
الدستورية بأساليب قسرية، لا ينفع معها نقاش المواقف،بل لربما الانخراط في
جوقة الصياح هذه ما يضفي الشرعية على هذا المسلسل العبثي.....
لذا أرى انه من الأفيد الاحتماء بالصمت،فالدستور معتمد بشكل رسمي ابتداء من فاتح يوليوز 2011، بصوتنا، بدون صوتنا....فذلك لا يهم.