تخيّل ايها القارئ الكريم ان النظام السوري يستطيع ان يمنع ندوة فكرية كان
من المقرر ان تقام في برلين عن الثورات العربية، يشارك فيها مثقفون سوريون
ولبنانيون ومصريون!
هل هذا ممكن؟ هل وصل الخوف الى هذه الدرجة؟
الحكاية
انني منذ شهرين القيت محاضرة في برلين عن الثورات العربية بدعوة من اتحاد
الأطباء والصيادلة الفلسطينيين في المانيا. بعد نهاية الندوة التقيت
بمجموعة من الأصدقاء الفلسطينيين واللبنانيين الذين اقترحوا عقد ندوة
كبيرة يشارك فيها مجموعة من المثقفين العرب تعالج آفاق المرحلة الجديدة
التي تفتتحها الثورات العربية. وفهمت ان اتحاد الأطباء والصيادلة
الفلسطينيين والمنتدى الثقافي اللبناني في المانيا سوف يشتركان في الاعداد
لهذا المؤتمر. وبتاريخ 27 ايار/ مايو الماضي، تلقيت رسالة من المنظمين
تتضمن موعد الندوة وبرنامجها. الندوة سوف تقام في الرابعة من بعد ظهر
الأحد 19 حزيران/يونيو الجاري ويشارك فيها برهان غليون وزين العابدين فؤاد
ومحمد علي مقلد وانا.
غير انني فوجئت مساء الأحد 12 حزيران/يونيو بخبر
نشره احد المواقع المؤيدة للثورة السورية على'الفايس بوك' يشير الى الغاء
الندوة بسبب ضغوط مارستها السفارة السورية في برلين من اجل منع المفكر
السوري برهان غليون من المشاركة.
في البداية لم اصدق الخبر، فـ'الفايس
بوك' يحتمل الأخطاء، وهذا طبيعي في موقع الكتروني مفتوح للجميع، لكن الخبر
ذُيل برسالة تضامنية مع غليون كتبها الشاعر المصري زين العابدين فؤاد.
بدأت اشك في عدم تصديقي، وحاولت الاتصال بالمنظمين بحثا عن الحقيقة. قلت
في نفسي انه ليس من المعقول ان يقرأ المشاركون في الندوة خبر الغائها على
'الفايس بوك'، اذ ان آداب اللياقة تقتضي ان يُستشار المشاركون قبل اي
قرار، لأنهم في النتيجة هم من سيتحمل النتائج. وفي النهاية، وكي لا نطيل
من غير طائل، عثرت على المنظمين، لأكتشف مبلغ حرجهم من الموضوع! وفهمت ان
هذا الحرج كان السبب الرئيسي وراء عدم الاتصال بي. اتصلت بغليون هاتفياً
لأكتشف انه مثلي لا يدري لماذا الغيت الندوة!
شعرت في البداية باهانة
شخصية، ثم قلت في نفسي ما قيمة هذه الاعتبارات حين نشاهد الموت والدم
المراق في سورية. المسألة اذا ليست شخصية، ولا علاقة لها باعتبارات
التهذيب التي غابت للأسف عن شكل الغاء الندوة ومضمونه. المسألة لها علاقة
بظاهرة تمس مجمل الحياة الثقافية العربية في الأوطان والمهاجر اسمها الخوف.
بعد
مجموعة من الاتصالات الهاتفية مع المنظمـــين ومع اشخاص آخرين، استطعت ان
ارسم صورة تقريبية للظروف التي احاطت بقرار الالغاء، وهي نتاج مزيج
التهديد والتخويف والالتباس.
يبدو انه جرى تهديد مباشر من قبل مسؤولين
ديبلوماسيين سوريين، هكذا قيل لي، كما ان مجموعات سياسية فلسطينية تنتمي
الى فصائل فضيحة مخيم 'اليرموك' الشهيرة اتخذت موقفا واضحا ضد الندوة،
لأنها تُعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية السورية! وقيل ان الجبهة الشعبية
كانت في قيادة هذا الموقف الذي شاركت فيه فصائل أخرى. وقيل اخيراً ان
مجموعات مرتبطة بحزب الله اتصلت وتمنت او هددت، والى آخره... موقف بعض
الفصائل الفلسطينية خلخل قرار اتحاد الأطباء والصيادلة الفلسطينييين
فانسحب، وهذا قاد الملتقى الثقافي اللبناني الى الانسحاب بسبب عجزه عن
حماية الندوة من الشبيحة!
الحقيقة انني لست قادراً على تأكيد اي من هذه
الاحتمالات، لأنني استقيتها من مصادر المنظمين، ولأن هذه المصادر كانت
متحفظة جدا في رواياتها. غير ان جمع هذه المعلومات مفيد من اجل ان نفهم
لماذا الغيت الندوة. اذ لا يُعقل ان تُلغى ندوة جرى الاعداد لها منذ شهرين
من دون سبب.
جميع الذين اتصلت بهم قالوا ان الهدف الرئيسي كان الغاء
مشاركة المفكر السوري الكبير برهان غليون في الندوة. وهذا امر عجيب، لأن
العرب والسوريين شاهدوا غليون مرات لا تحصى على فضائيات الجزيرة والعربية
وغيرها، الصوت الذي يسمعه آلاف السوريين يريدون حجبه في برلين! وزاد من
عجبي ان يتناسى من مارس الضغط من اجل حجب صوت غليون، ان هذا المفكر
التقدمي والوطني، كان ولا يزال احد رموز المقاومة الثقافية والسياسية
للاحتلال الاسرائيلي والنضال ضد الاستبداد، كما تناسوا ان صوت
الديموقراطيين العرب واحد، واننا اليوم كلنا سوريون مثلما كنا فلسطينيين
وسنبقى، على الرغم من كل شيء.
لا احد يستطيع اخراس صوت الحرية في الشام فكيف سيخرسونه في اوروبا؟
هنا
اكتشفت للأسف ان المشكلة ليست في النظام العربي الاستبدادي فقط، بل في
ثقافة الخوف والتخويف التي افترست العالم العربي وحولته الى 'رجل العالم
المريض' تماماً كحال الدولة العثمانية قبل سقوطها.
قبل الخوف لا بد من
الاشارة الى ان المثير والمؤسف هو انخراط فصائل فلسطينية وحزب الله في
المسألة. وهذا يدلّ في رأيي على حقيقة ان هذه القوى هي جزء من نظام
الاستبداد، وباتت تشعر ان سقوط الاستبداد سوف يستتبع سقوطها المحتم، لذا
فان تعجبنا من مواقفها ليس سوى بقايا حنين الى زمن مضى وانقضى، وعلى
المقاومة ان تجد لنفسها اشكالا سياسية وتنظيمية جديدة بعيدة عن ذلك الماضي.
كل
التهديدات اوالتمنيات لا تبرر في رأيي قيام المنظمين اي اتحاد الأطباء
والصيادلة الفلسطينيين والملتقى الثقافي اللبناني بالغاء الندوة. فهذا
الالغاء تمّ بسبب عقدة الخوف، التي تمنع العديد من المثقفين العرب رؤية
الحقائق الجديدة التي تصنعها اجيال جديدة من المناضلين.
لقد تمّ تدجين
الأطر الثقافية، حتى المعارضة منها، في لعبة الخوف، وبذا تحولت هذه الأطر
المعارضة الى جزء من النظام الاستبدادي على الرغم من معارضتها له. شرط
لعبة الاستبداد هي التخويف، الخوف يقود الى الاذعان، والاذعان يجدد
الاستبداد والى آخره...
لا يتحمل الذين هددوا مسؤولية الغاء الندوة الا
من حيث المبدأ. فهم قاموا بدورهم الذي لم يتوقفوا عن القيام به منذ اربعة
عقود، اي التخويف والتشبيح في كل مكان. اما المسؤولية الحقيقية فتتحملها
مؤسسات لم تخرج بعد من شرنقة الخوف، فانصاعت للتهديد، وبذا حكمت على نفسها
بنفسها.
الندوة التي الغيت ليست حدثا الا في دلالتها الرمزية، وفي كونها جزءا صغيرا من المعركة الكبرى ضد الاستبداد.