تفرقة 'اعلامية' بين الثورات
عبد الباري عطوان
2011-03-11
سألت الصحافية البريطانية سو اللويد روبرت التي تعمل
في محطة تلفزيون 'بي. بي. سي' مسؤولاً سعودياً كبيراً في السفارة السعودية
في لندن عما اذا كانت بلاده ستشهد مظاهرات مثل بقية الدول العربية الاخرى.
فأجاب بانه لا يستبعد ذلك ولكنه لا يتوقع ان يكون لها اي تأثير، وعندما
استفسرت عن اسباب اطمئنــانه الملحوظ والراسخ، قال لها وابتسامة عريضة على
وجهه: السبب بسيط وهو انه لن تجرؤ اي قناة عربية او اجنبية على تغطيتها وبث
وقائعها مثلما حدث في مصر وتونس ويحدث حالياً في ليبيا.
تذكرت كلام هذا
المسؤول السعودي يوم امس، وانا اقلب معظم المحطات التلفزيونية بحثاً عن
تقرير او خبر عن مظاهرات احتجاج دعت اليها جهات سعودية معارضة للنظام، او
حتى الاستعدادات الامنية المكثفة للتصدي لها في حال قيامها، ولكن دون جدوى،
كل ما عثرت عليه هو اخبار مقتضبة جداً، وغير مصورة، عن مظاهرات وقعت في
المنطقة الشرقية حيث تتركز الاقلية الشيعية، واصابة ثلاثة اشخاص بجروح
نتيجة اطلاق رجال الامن النار على المتظاهرين.
الصحافية البريطانية
المذكورة حصلت على تأشيرة دخول الى المملكة لاجراء سلسلة من التحقيقات عن
المرأة السعودية، وبعد انتظار دام اكثر من ستة اشهر، وعندما علمت بانباء
مظاهرات الهفوف والقطيف في منطقة الاحساء ذهبت الى هناك وصورت هذه
المظاهرات، ولكنها فرحة لم تكتمل، فقد هاجمتها مجموعة من رجال الامن وصادرت
جميع الافلام، واقتادتها وزميلها المصور رهن الاعتقال الى مدينة الرياض
حيث جرى تسفيرهما على أول طائرة مغادرة الى لندن.
هذه الواقعة تؤكد ان
هناك 'تفرقة سياسية' في تغطية الثورات في الوطن العربي تمارسها بعض محطات
التلفزة العربية والامر هنا يتوقف على اعتبارات عديدة، بعضها يعود الى عامل
النفط، والبعض الآخر 'جغرافي'، وثالث له علاقة بامريكا، ورابع 'طائفي'
واحيانا يتداخل اكثر من عامل في هذه المسألة.
بمعنى آخر هناك 'ثورات
حميدة' واخرى 'خبيثة' في نظر الفضائيات العربية والاجنبية، الاولى تتطلب
الدعم المفتوح على الاصعدة كافة، والثانية يجب ان يتم التعتيم عليها،
وتطويق فعالياتها، والامتناع عن تقديم اي دعم اعلامي او سياسي لها بكل
الطرق والوسائل.
المتظاهرون في البحرين يشتكون مر الشكوى من اهمال
الفضائيات العربية لهم، ويقولون انهم يثورون للاسباب نفسها التي ثارت من
اجلها الجماهير المصرية والتونسية والليبية. ويتمسكون بالطابع السلمي
والحضاري لاحتجاجاتهم، ويطالبون بالاصلاح السياسي. وليس تغيير الحكم، ومع
ذلك يواجهون بالاهمال واللامبالاة، واذا حصل خروج عن هذا الوضع، فعلى
استحياء شديد.
' ' '
الاشقاء في اليمن يولولون، ويقولون انه اذا كانت
ضخامة اعداد المتظاهرين هي التي تغري الفضائيات لتكثيف تغطياتها للثورات،
فان الملايين يتظاهرون في صنعاء وعدن، واذا كانت المسألة تتعلق بسيل
الدماء، فدماء اليمنيين المحتجين تسيل يومياً، ولا احد يهتم، ويتساءلون عما
اذا كان الدم اليمني رخيصاً الى هذه الدرجة في اعين اشقائهم العرب؟
ولعل
اغرب الانتقادات جاءت من سلطنة عمان، حيث شهدت البلاد سلسلة من المظاهرات
الشبابية المطالبة بالاصلاح، مرفوقة بالكثير من العتب بل والغضب، من تجاهل
الفضائيات، والاعلام العربي عامة لمثل هذه المطالب، ويصرخون قائلين بانه
اذا كان النفط هو عامل الاهتمام فنحن لدينا شيء منه، واذا كان الفقر
والبطالة عاملاً آخر فلدينا منهما الكثير ايضا.
المسألة محيرة فعلا،
فنحن امام اهتمام عربي وعالمي غير مسبوق بما يجري في ليبيا، قمة اوروبية
تعقد، ويسبقها اجتماع لوزراء خارجية حلف الناتو، واليوم ستشهد جامعة الدول
العربية في القاهرة اجتماعا لوزراء الخارجية العرب للمطالبة، من دول الخليج
والاردن خاصة، بدعم اي توجه لاقامة مناطق حظر جوي فوق ليبيا، بل والتدخل
العسكري الكامل اذا تطلب الامر ذلك، بينما لم نر مثل هذا التحرك عندما كانت
قوات الامن المصرية تقتل المحتجين بدم بارد وهم المدنيون العزل، ونظيرتها
التونسية تفعل الشيء نفسه.
في ليبيا فساد وديكتاتورية قمعية شرسة، وحاكم
اطلق العنان لابنائه وافراد اسرته لتحويل البلاد الى مزرعة خاصة بهم
يتصرفون بثرواتها وملياراتها كيفما يشاؤون، ولكن هناك فساداً وبطالة
وديكتاتورية اكبر في المملكة العربية السعودية واليمن والعراق، وهي دول
شهدت وستشهد مظاهرات احتجاجية، فلماذا الاهتمام بثوراتها يتراجع الى الحدود
الدنيا سياسيا واعلاميا؟
فاذا كانت ليبيا مهمة بالنسبة الى الغرب
لانتاجها مليوناً ونصف مليون برميل من النفط يوميا معظمه من النوع الخفيف
الجيد القريب من الاسواق الاوروبية، فان اليمن فيه ما هو اهم من النفط
بالنسبة الى العالم الغربي، ونقصد بذلك تواجد تنظيم 'القاعدة' على ارضه،
بحيث بات اليمن الفرع القيادي للتنظيم.
الامر المؤكد ان عمليات التعتيم
على هذه الثورات الشعبية اليتيمة لن تعطي ثمارها في حجب الحقائق، والحيلولة
دون تحقيق جل اهدافها.
' ' '
نحمد الله ان الثورة المصرية انتصرت،
وان عجلة التغيير الديمقراطي تسير فيها بسرعة متصاعدة، وهذا الانتصار سيصب
حتما في مصلحة الثورات العربية الاخرى، سواء التي انفجرت فعلا او التي ما
زالت تنتظر، ومصر هي نقطة الارتكاز، وهي القاطرة التي ستقود المنطقة الى بر
الامان.
الصحوة العربية التي انطلقت من مدينة بوزيد التونسية ووصلت
شرارتها الى دول عديدة، تواجه حاليا بصحوة امريكية مضادة، بهدف حرف هذه
الثورات عن اهدافها، ومحاولة تدجينها، وهذا ما يفسر الجولة الحالية للسيدة
هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية في المنطقة التي ستبدأ من تونس
مرورا ببنغازي وانتهاءً بالقاهرة.
الادارة الامريكية فوجئت بالثورات
العربية، وهذا ما يفسر ارتباكها في بادئ الامر، الآن تريد ان تعوض ما
فاتها، وتحاول ركوب موجة هذه الثورات، او ما لم ينتصر منها، وتوظيفها في
خدمة السياسات الامريكية الداعمة لاسرائيل والمصرة على استمرار تدفق النفط
العربي رخيصا الى الغرب.
صحيح انه لا بواكي على شهداء ثورات 'اليتم
الاعلامي' في البحرين وسلطنة عمان واليمن والعراق، ولكن الصحيح ايضا، ان
عجلة التغيير انطلقت، وارادة الشباب اقوى من ان تتوقف في منتصف الطريق، حتى
تحقيق كل مطالبها العادلة.