ثمة فرق كبير بين ما تقبله النفس وما يقبله العقل؛ فالنفس تميل بطبيعتها
إلى هيّن الأمور وتقبل سهل المسائل بينما لا يقبل العقل أمراً حتى يقلّبه
على وجوه عديدة ليتثبت منه فيطمئن بقبوله أو يردّه. ومن هنا جاء قول
المعتزلة في النص المقدس : ما قبله العقل قبلناه وما رفضه أوّلناه. أما
الأصمعي فيقول : العقلُ الإمساكُ عن القبيح، وقصرُ النفس وحبسُها على
الحسن. وبين المرئيّ والمسموع فضّل الإمام علي المرئيّ في قول له مشهور
عندما سُئل عن الفرق بين الحقّ والباطل فوضع أربعة من أصابع يده بين عينه
وأذنه وقال : "بين الحقّ والباطل أربعة أصابع- الحقّ أن تقول رأيت والباطل
أن تقول سمعت". ولأنّنا لم نشهد وقائع الأحداث لنجعل البصر شاهداً رأينا
من العقل أن ننظر فيما يُروى لنا ويٌعرض علينا ببصيرة الذي رأى، لا بأُذُن
الذي سمع وأخبر. فقد قدّمت لنا المسلسلات والأفلام التي تناولت ظهور
الإسلام وانتشار الدعوة وحروب النبيّ وبناء الدولة الإسلامية في المدينة،
أحداثاً درامية بطريقة الأسود والأبيض، لا أعني بذلك شكل الصورة على
الشاشة بل منهج التقييم.
فهناك مسلمون ومشركون، خير مطلق يقابله شرّ مطلق. دون أن تأخذ بنظر
الاعتبار أنّ أبطال هذه الأحداث - مهما علا شأن الجانب الخيّر لدى بعضهم
أو استشرى الشرّ لدى الجانب الآخر - بشر مثلنا في جنباتهم نفوسٌ والنفوس
جُبلت على حبّ من يحسن إليها لا من يسيء بحقّها. وعند الإساءة تبذل النفس
ما تستطيع لردّ الصاع صاعين إلا إذا لجمت بالعقل، أو كما قال البوصيري :
"منْ لي برّد جماح من غوايتها..كما يُردّ جماح الخيل باللجم"ِ لكنّ الحرب
هي الحرب لا تملك إلا وجهاً بشعاً مهما ألبست من ثياب القداسة. والحرب كما
يقال خدعة وأيّ خدعة، إنّها الخدعة التي تحمل كأس الموت والإلغاء
لضحاياها. كما "أنّ الحروب التي وقعت في زمان محمّد بعد انتقاله إلى
المدينة يصح أن نعتبرها حروباً دينية لأنها لم تكن إلا لأجل الدين ولإعلاء
كلمة الله، كما يدلّ عليه قوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله –صحيح البخاري كتاب الإيمان، الحديث: 24) فليست هي منبعثة عن
ذحول دموية، ولا عداوات قومية، ولا عن مطامع دنيوية. وحروب كهذه يجب أن
تكون منزّهة من الأحقاد والضغائن الشخصية، إلا أننا إذا نظرنا إليها بعين
الحقيقة لم نجدها منزّهة من ذلك… ولم يكن قولنا هذا إلا بالنظر إلى ما
يقتضيه نفس الأمر من الوجهة الدينية، أما الواقع في تلك الحروب فبخلافه،
حتى إن الذين يحاربون لأجل الدين قد يظهرون في حروبهم من القسوة ما لا
يظهره المحاربون لأجل الدنيا. وما ذلك إلا للإحن والعداوات الدينية التي
تستولي على قلوبهم. ولله درّ أبي العلاء المعري إذ قال:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً وعلمتنا أنواع العداواتٍ "(1)
أغرب ما في الأعمال الدرامية هو تلفيقها للأحداث وإعادة صياغة السيرة،
وتسويق ما يخالف الواقع إرضاءً لنزعة الأسود والأبيض سالفة الذكر. نأخذ
هنا مثالين الأوّل عن بلال الحبشي والثاني عن خالد بن الوليد. "لا نجوتُ
إن نجا" قولٌ مشهور لبلال بن رباح الحبشي مؤذن النبي هتف به عندما همّ
بقتل أمية بن خلف سيده ومعذّبه بسبب إسلامه وقبوله الدعوة. افتداه أبو بكر
الصديق بالمال وأعتقه فآمن بالدعوة الإسلامية وقاتل في سبيلها. هذا هو ما
نعرفه وما قرأناه وشاهدناه في الدراما التلفزيونية وعبر شاشات العرض
السينمائية. السؤال المطروح هو : كيف قتل بلال أمية؟ وهل الصورة التي
أوصلها إلينا المخرج السينمائي الراحل مصطفى العقاد –على سبيل المثال- في
فلم الرسالة عن الحدث هي بالضبط ما جرى أم إن الأمر غير ذلك؟ بمعنى آخر هل
تقاتل الرجلان في المعركة وأنزل بلال أمية عن دابته وقاتله بالسيف وقتله
كالصورة التي علقتها الدراما بأذهاننا أم كان القتل بصورة مختلفة ترويها
لنا كتب السيرة؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كان ما تنقله لنا الدراما التاريخية لا
يمت بصلة إلى الوقائع التي أوردتها لنا كتب السيرة والصحاح فلماذا تمّ
اعتمادها؟ وعلى أي أساس أجيزت من الأزهر؟ لنبدأ بمقتل أمية بن خلف.
للتذكير أقول إن ما سأورده هنا نقلته كتب السيرة الحلبية، وكتاب البداية
والنهاية لأبن كثير في الجزء الثالث فصل في مقتل أمية بن خلف، فضلا عن
صحيح البخاري؛ لنقرأ ما قاله الحلبي في سيرته: "عن عبد الرحمن بن عوف قال
لقد لقيت أمية بن خلف يوم بدر وكان صديقاً لي في الجاهلية ومعه ابنه علي
آخذه بيده، وكان معي أدراع استلبتها فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني
باسمي الأول : يا عبد عمرو (لأن عبد الرحمن كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو
فغير النبي اسمه) فلم أجبه لأنه كان قال لي لما سمّاني رسول الله عبد
الرحمن: أترغب عن اسم سماك به أبوك؟! فقلت : نعم، فقال : الرحمن لا أعرفه
ولكن أسمّيك بعبد الإله، فلما رآني لم أجبه ناداني : يا عبد الإله، قلت
نعم، قال هل لك فيّ، فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك (أي خذني أسيراً
يصبك من فدائي ما هو أكثر من ثمن هذه الأدراع) فقلت: نعم، فطرحت الأدرع من
يدي وأخذت بيده وبيد ابنه علي،….ثم خرجت أمشي بهما. فوالله إني لأقودهما
إذ رآهما بلال معي وكان هو الذي يعذّب بلالا بمكة على أن يترك دين
الإسلام، فقال بلال : هذا رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت:
إي بلال أفبأسيري (أي تفعل ذلك بأسيري)، قال: لا نجوت إن نجا، وكرّرت
وكرّر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا
نجوت إن نجا، وكرّر ذلك، فأحاطوا بنا، فأصلت بلال السيف من غمده فضرب به
رجل ابنه علي، فوقع، فصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم
فهبروهما (أي قطعوهما قطعاً قطعا).ً وفي رواية للبخاري عن عبد الرحمن بن
عوف أنه قال : إن بلالاً لما استصرخ الأنصار خشيت أن يلحقونا، فخلفت ابنه
علي لأشغلهم به، فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلاً ثقيلاً،
فقلت ابرك فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى
قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه. وكان عبد الرحمن يقول : رحم الله بلالاً
ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري، وفي رواية : رحم الله بلالاً فلا درعي ولا
أسيري، أي ما أبقى لي درعي ولا أسيري، لأن النبي جعل يوم بدر كل أسير لمن
أسره ".((السيرة الحلبية، 2/171-172)). هذه هي رواية قتل بلال لأمية بن
خلف من مصادرها فمن أين جاء العقاد وغيره من كتاب النصوص والمخرجين
بمشاهدهم الدرامية؟ الأمثلة على مشاهد مُختلقة ومجازة من الجهات المختصة
الحريصة على نقل صورة ناصعة البياض عن السلف الصالح من هذا النوع كثيرة
بغض النظر عن مصادرها. لنأخذ مثالا آخر عن خالد بن الوليد "سيف الله
المسلول" وكيف قدمت الدراما التاريخية سيرته سواءً عبر المسلسلات أو
الأفلام. يتذكر الكثيرون مسلسل خالد بن الوليد أحد أبطال الدراما
الرمضانية الذي انتقل من جانب الشرّ والشرك إلى جانب الخير والإسلام،
فشارك في حروب نشر الدعوة بعد أن ساهم في هزيمة المسلمين في معركة أحد في
حادثة الالتفاف حول الجبل المعروفة.
لم يأت المسلسل المذكور لا من قريب ولا من بعيد بما سأورده هنا عن
حادثة كان هو بطلها وكيف ترويها لنا كتب السيرة، وهي ما فعله خالد بن
الوليد لما أرسله النبي إلى بني جذيمة عام الفتح ولم يأمره النبي بقتالهم،
وكانوا قد أسلموا لكن النبي لم يعلم بإسلامهم، فأرسله إليهم في ثلاثمائة
وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم. وكان بين جذيمة وبني
سليم ثأر، لأن بني جذيمة كانوا قد قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه في
موطن واحد. وكذلك كان لخالد بن الوليد ثأر عند بني جذيمة لأنهم قتلوا
الفاكه عمّ خالد في الجاهلية. فلما علمت جذيمة أن خالداً متوجّه إليهم
ومعه بنو سليم، لبسوا السلاح، فلما انتهى خالد إليهم تلقوه، فال لهم
أسلموا، فقالوا نحن قوم مسلمون، قال فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا
والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل، وما نحن بآمنين لك ولا لمن معك. قال
خالد : فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية
القوم. فأمر بعضهم فكتّف وفرّقهم في أصحابه. فلما كان السحر، نادى منادي
خالد: من كان معه أسيراً فليقتله، فقتل بنو سليم من كان معهم، وامتنع
المهاجرون والأنصار وأرسلوا أسراهم. فجاء النبي رجلٌ من القوم وأخبره بما
فعل خالد، فقال النبي هل أنكر عليه أحد ما صنع؟ قال نعم، رجل أصفر ربعة،
ورجل طويل أحمر، فقال عمر- وكان حاضراً-: يا رسول الله أعرفهما’، أما
الأول فهو ابني فهذه صفته، وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة، فعند ذلك
قال النبي اللهم إني أبرأ إليك ممّا صنع خالد، قالها مرّتين. ثم إن رسول
الله بعث علي بن أبي طالب فودى لهم قتلاهم. (السيرة الحلبية، 3/196 وما
تلاها).
ما أريد قوله هنا إن المثالين سالفي الذكر هما غيض من فيض الاختلاق الذي
تمطرنا به الدراما التاريخية، فهي لا تعتمد الأحداث التي ترويها لنا كتب
التاريخ والسيرة ولا تناقشها من منظور نقدي، ولا تتوقف لتلتقط أنفاسها بين
مسلسل وآخر لكي تقدم لنا شيئا خارج الصورة النمطية التي قدمتها لنا عن
أبطال مقدسين لا يجوز المساس بهم ولا ذكرهم إلا بما يليق بهالة التلفيق
الذي ترسّخ بأذهان الناس، فتحول إلى بديهيات لا ينجو من طغيانها إلا "منْ
ألقى السمع وهو شهيد".