من مفارقات التاريخ المعاصر، أن الحركتين القوميتين السياسيتين الأكثر عداء لبعضهما البعض والأكثر اقتتالا وتطاحنا بينهما، هما حركة القومية العربية والحركة الصهيونية اللتان تشتركان في نفس الفكر القومي القائم على العرق والانتماء الإثني، وهو التقارب ـ الفكري والإيديولوجي ـ الذي كان ينبغي أن يجعل من الحركتين أختين شقيقتين لأنهما ترضعان من نفس الثدي للإيديولوجيا العرقية، بدل أن تحارب إحداهما الأخرى في عداء دائم ومستحكم.
فكيف تتّحد وتتآخى الصهيونية والقومية العربية، على مستوى التوجهات الفكرية والمبادئ الإيديولوجية ذات المضامين العرقية، رغم ما يفرّق بينهما من عداء عجز العالم كله عن وضع حد له، مع كل ما يبذله من مجهود من أجل المصالحة بين العرب واليهود؟
إن ربط الهوية بالعرق، كما تفعل القومية العربية، يجعل هذه الأخيرة صنوة للحركة الصهيونية التي تنبني إيديولوجيتها كاملة على فكرة "العرق اليهودي"، تماما كما تتأسس إيديولوجية القومية العربية هي كذلك على فكرة "العرق العربي".
وهذه الوحدة الفكرية والإيديولوجية ـ العرقية ـ للقومية العربية والحركة الصهيونية هي ما أريد توضيحه وتحليله في هذا المقال.
ما الذي يميز القومية العربية كحركة سياسية عروبية؟ ما هي خصائصها الرئيسية؟
إذا عرفنا كيف ولماذا نشأت حركة القومية العربية، سيسهل علينا أن نحدد خصائصها ونتعرف على مميزاتها.
بدأت نشأة القومية العربية مع بداية القرن الماضي (ابتداء من 1912)، نتيجة اقتناع النخب المثقفة العربية بأن أخص ما يجمع بين العرب هو انتماؤهم إلى أصل إثني واحد هو العرق العربي، مع ما يصاحب ذلك من عناصر مشتركة أخرى كاللغة والثقافة. وهو ما يؤهلهم للتكتل والتوحد بناء على وحدة العرق والدم، لمواجهة تركيا المسلمة التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية. هكذا يكون مفهوم "الوحدة العربية" قد قام، لا على أساس سياسي أو جغرافي أو اقتصادي، مثل "الاتحاد الأوروبي" أو "منظمة الوحدة الإفريقية" (الاتحاد الإفريقي حاليا) أو مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، أو "اتحاد دول جنوب أسيا للتعاون الإقليمي"، أو "السوق المشتركة لدول إفريقيا الجنوبية والشرقية"... بل انبنى منذ بدايته على أساس عرقي وهو وحدة العرق والأصل الإثني. واللافت أن الهدف من هذه "الوحدة العربية" لم يكن هو مقاومة الاستعمار الأوروبي المسيحي، بل مواجهة تركيا المسلمة التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية، كما سبقت الإشارة.
وبجانب المفهوم العرقي "للوحدة العربية"، نشأ المفهوم الجغرافي المصاحب له، والذي يعني المجال الترابي الذي تعيش به وتحتله العروبة العرقية. إنه مفهوم "الوطن العربي" الذي توسع وامتد بعد الحرب العالمية الثانية، في أوج غليان القومية العربية، ليشمل كل البلدان التي توجد بها نخب عروبية تنحدر ـ أو تعتقد ذلك أو تدعيه ـ من مهاجرين عرب نزحوا منذ قرون من بلدانهم العربية الأصلية إلى تلك البلدان غير العربية، مثل بلدان تامازغا بشمال إفريقيا، والسودان، والصومال وجيبوتي... هذه النخب عملت، بمساعدة الاستعمار، خصوصا الفرنسي كما في حالة المغرب، على إلحاق تلك البلدان غير العربية بمجموعة الدول العربية وبجامعة الدول العربية التي هي تجمّع للدول ذات الانتماء العرقي العربي. وقد لجأ الحكام العروبيون لهذه البلدان غير العربية، التي لم يكن أحد يشك في انتمائها غير العربي قبل أن تغزوها القومية العربية الصاعدة، إلى سياسة التعريب العنصرية لتحويلها إلى بلدان عربية "حقيقية". وسياسة التعريب هذه، ليست إلا صيغة قومية عروبية لسياسة التهويد الصهيونية التي تنهجها إسرائيل بفلسطين، وهو ما يبرز وحدة الفكر العرقي العنصري، الذي تغرف منه كل من إيديولوجية القومية العربية والحركة الصهيونة. فسياسة التهويد الصهيونية ترمي إلى جعل فلسطين أرضا يهودية، إنسانا وهوية ولغة وثقافة وتاريخا... وهو نفس الشيء تمارسه سياسة التعريب العروبية التي ترمي إلى جعل المغرب الأمازيغي بلدا عربيا، إنسانا وهوية ولغة وثقافة وتاريخا...
هكذا تكون فكرة "الوحدة العربية" قد انطلقت من أساس عرقي لتتوسع جغرافيا، ولكن دائما بمبرر عرقي وإثني. فأصبحت الهوية، في إطار هذه الدول "العربية"، لا تتحدد بالأرض التي تنتمي إليها تلك الدول، كما في كل بلدان العالم، بل بالعرق العربي الذي ينتمي ـ أو يعتقدون أو يدعون ذلك ـ إليه حكام هذه الدول، ولو أن هذه الأخيرة توجد في أراضٍ بعيدة عن الأراضي العربية بآلاف الكيلومترات.
هذه النظرية التي تجعل العرق، وليس الموطن، هو المحدد للهوية، هي نفس النظرية التي قامت عليها الحركة الصهيونية. لنشرح ذلك بشيء من التفصيل.
لقد ظل اليهود متفرقين في العالم، خصوصا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا ، منذ آلاف السنين، كمواطنين تابعين لتلك البلدان التي كانوا مستقرين ويعيشون بها بصفة دائمة وقارة ونهائية. فاليهود بالمغرب، مثلا، كانوا ذوي انتماء أمازيغي تبعا للبلد الأمازيغي الذي كانوا يعيشون فيه. وهكذا كانوا أمازيغيين هوياتيا، ولم تكن صفة "يهودي" تعني الانتماء إلى أرض أخرى غير الوطن الأمازيغي الذي يعيشون فيه، بل كان يعني اعتناقهم للديانية اليهودية ـ كدين وليس كهوية كما حصل بعد قيام الحركة الصهيونية ـ التي سبق كذلك للكثير من الأمازيغيين الأصليين أن اعتنقوها قبل الإسلام كما تبين ذلك حالة الملكة الأمازيغية "ديهيا" (الكاهنة) التي كانت يهودية الديانة. وكذلك كان اليهود في كل البلدان الأخرى التي كانوا يعيشون بها: في فرنسا، بولونيا، ألمانيا، تركيا، مصر، الإمبراطورية الرومانية القديمة... فكانوا ذوي هوية فرنسية أو بولونية أو ألمانية أو تركية أو مصرية أو رومانية حسب هوية البلد الذي اندمجوا فيه واستقروا به، بجانب ممارستهم لشعائرهم الدينية اليهودية التي تميزهم عن معتنقي ديانات أخرى كالإسلام والمسيحية، مع اشتراك الجميع ـ من مسلمين ومسيحيين ويهود ـ في الانتماء إلى نفس الهوية التي هي هوية الموطن الجغرافي الذي يعيشون جميعا فيه.
هكذا كان الأمر منذ عشرات القرون بالنسبة لليهود، إلى أن ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر الحركة الصهيونية، والتي جاءت بنظرية عرقية مفادها أن هوية اليهودي لا تحددها الأرض التي ينتمي إليها ويعيش فوقها، في إطار تعددية دينية تسمح له بممارسة دينه بجانب الأديان الأخرى، بل يحددها الدم "اليهودي" الذي يسري في عروقه، والذي يجعل منه شخصا ذا هوية "يهودية" مهما كانت هوية البلد الذي ولد به ويعيش فيه كحفيد لأجداد عاشوا بنفس البلد منذ زمن بعيد. فالمحدد إذن للهوية بالنسبة للحركة الصهيونية، هو الأصل العرقي والإثني المشترك الذي ينحدر منه اليهود، هذا الأصل الذي يرجع إلى الأجداد الأوائل لليهود، والذين عاشوا في فلسطين منذ آلاف السنين. فالشخص الحامل للهوية اليهودية هو ذلك الذي يجري في عروقه الدم الذي انتقل إليه من هؤلاء الأجداد. كل شيء في الهوية يفسر إذن، في إطار الحركة الصهيونية، بالدم والعرق والجينات، تماما كما رأينا في العروبة العرقية.
وتشترك الحركتان كذلك، الصهيونية والقومية العربية، في أن كلتيهما تتبنيان مفهوم "وطن قومي" يكون هو الموطن المشترك والجامع والموحّد للعرب (بالنسبة للقومية العربية) ولليهود (بالنسبة للحركة الصهيونية). هذا "الوطن القومي" هو "الوطن العربي" الذي يمتد من "المحيط إلى الخليج" بالنسبة للقومية العربية، و"إسرائيل الكبرى" التي تمتد من " الفرات إلى النيل" بالنسبة للحركة الصهيونية.
ومما يجمع بين الحركتين ـ العروبية والصهيوينة ـ كذلك، استعمالهما للدين لتبرير نزعتهما العرقية وإعطائها السند الديني للإقناع بها، بعد تأويل الدين، طبعا، وتكييفه مع متطلبات هذه النزعة. فالصهيونية، كما يعرف الجميع، تستند إلى نصوص مختارة ومحرّفة من التوراة والتراث الديني اليهودي لإقناع اليهود بالعودة إلى "أرض الميعاد"، التي هي أرض الأصل العرقي ـ حسب الحركة الصهيونية ـ الذي ينتمي إليه وينحدر منه اليهود الحاليون، والإسهام في إقامة "إسرائيل الكبرى" وحمايتها والدفاع عنها.
أما القومية العربية، فرغم أنها حركة علمانية في الأصل كما أن مؤسسيها الأوائل كانوا مسيحيين، إلا أنها لا تتردد في استعمال واستغلال الإسلام من خلال الخلط المغلوط والمقصود بين العروبة والإسلام حيث يصبح الدفاع عن العروبة، بمعناها العرقي، يعني الدفاع عن الإسلام، ومعارضة العروبة العرقية يعني معارضة الإسلام. وهكذا تمارس القومية العربية الابتزاز باسم الدين على خصومها ومعارضيها: فمن لا يدافع عن العروبة يتهمه القوميون بمعاداة الإسلام، "مستدلين" على ذلك، وبشكل خبيث لا يخلو من سوء نية، أن النبي محمدا عربي وأن القرآن عربي. هذا الاستعمال للإسلام من طرف نزعة عرقية جاء الإسلام ليحاربها ويضع حدا لها، هو ما يفسر التقارب الأخير بين القومية العربية والاتجاهات الإسلامية، كما يدل على ذلك تحول "المؤتمر القومي العربي" إلى "المؤتمر العربي الإسلامي" كتنظيم يسمح للقومية العربية باستغلال الدين لتبرير أهدافها العرقية والعنصرية التي هي أصلا مخالفة لمبادئ الإسلام.
لقد بقيت النظرية الصهيونية، ذات المضمون العرقي، منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر، دون تأثير يذكر على عموم اليهود الذين كانوا مندمجين في البلدان التي يعيشون بها، كما في البلدان العربية التي كانت تحت الحكم العثماني، بما في ذلك فلسطين نفسها. لكن هذه النظرية، بعد أن ظلت "نائمة" لمدة ودون كبير تأثير في الأوساط اليهودية، سيصبح لها شأن كبير بعد ثلاثينيات القرن الماضي؟ لماذا؟
لا يرجع ذلك إلى ظهور النازية ومعاداتها لليهود، حسب التفسير الجاهز والشائع، بل سبب تحول الصهيونية إلى عقيدة جديدة لليهود في العالم، هو ظهور وانتشار إيديولوجية القومية العربية، بمضمونها العرقي هي أيضا، والمعادية هي كذلك لليهود، بالبلدان العربية التي استقلت عن تركيا التي أصبحت جمهورية علمانية ابتداء من 1923، هذه الإيديولوجية القومية العربية، التي تحولت بدورها، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى عقيدة جديدة للعرب. وهو ما أنعش الفكر الصهيوني وأعطاه قوة وسندا ومشروعية. فما العلاقة بين صعود القومية العربية وصعود الحركة الصهيونية؟
لقد رأينا أن القومية العربية حركة عرقية ترمي إلى توحيد العرب على أساس اشتراكهم في نفس العرق والانتماء إلى نفس الأصل الإثني. وقد أفرزت وقوّت هذه الإيديولوجيةُ العرقيةُ العداءَ لليهود كإثنية غير مرغوب فيها بالبلدان العربية لأنها من عرق غير عربي، وبالتالي يجب على اليهود أن يرحلوا من البلاد العربية التي هي أرض خاصة بالعرق العربي. وهكذا وجد اليهود العرب، بما فيهم المغاربيون بعد أن أصبح المغرب "عربيا"، أنفسهم عرضة للاضطهاد العنصري العروبي، بعد أن لم تعد تحميهم الدولة العثمانية التي كانوا يعيشون في كنفها كجزء من رعاياها مثلهم مثل العرب أنفسهم. وقد تنامى هذا العداء العربي لليهود بشكل كبير وخطير مع بروز مشكل فلسطين ابتداء من 1948، ليتجاوز هذا العداءُ مرحلة التحقير والسباب والتشهير والتحريض الإعلامي ضد اليهود إلى مرحلة الطرد والاعتداء ومصادرة الممتلكات. وهذا ما استغله قادة الحركة الصهيونية لإقناع اليهود، وخصوصا العرب منهم، بضرورة مغادرة أوطانهم بالبلدان العربية والرحيل إلى فلسطين، "أرض الميعاد"، لإنشاء دولة بأرض الأجداد والأصل العرقي لليهود، تجمعهم وتحميهم من الإيديولوجيات العنصرية التي تستهدفهم مثل النازية والقومية العربية. وأمام اشتداد الحملات العنصرية المعادية لليهود بالبلدان العربية ـ بما فيها شمال إفريقيا طبعا ـ، لم يجد اليهود العرب، والمغاربة على الخصوص، بدا من الرحيل إلى إسرائيل كما كان يرغب في ذلك قادة الحركة الصهيونية. وهؤلاء اليهود الذين هاجروا من أوطانهم العربية والمغاربية هربا من الاضطهاد القومي العنصري العربي، الذي تؤججه النزعة العرقية الرافضة للآخر وللمختلف، هم المؤسسون الحقيقيون لدولة إسرائيل، وذلك:
الثلاثاء نوفمبر 03, 2009 4:50 am من طرف ابو مروان