تاريخ الانشقاقات _ مقابلات مع تشومسكي |
|
نعوم تشومسكي اسم لبروفسور أميركي بات يثير الحسد والرهبة لدى غالبية الأساتذة والصحفيين الأميركيين ذوي الشهرة. فالنجاح بالنسبة لهؤلاء مرتبط بقدرتهم على تأكيد فاعليتهم وجدواهم في تطويع الرأي العام وتدجينه، لقبول المواقف السياسية الأميركية، واعتناقهم بدون أية مقارنة قد تكون مولدة لملكة التفكير، ومنقذة من آثار التنويم المغناطيسي الجماعي الذي تمارسه المؤسسات الأميركية على جمهورها وتسعى إلى عولمته. |
لذلك يأتي المتمرد تسومسكي وكأنه يحاول بتمرده نسف مجمل هذه الجهود وإبطال فاعلية هؤلاء، ومن هنا عدوانيتهم تجاهه، إذ يجابهونه بحملات التكتم والتعتيم، ويدفعونه أحياناً إلى طباعة كتبه والبحث عن منابر فكرية له خارج الولايات المتحدة. بل أنهم غالباً ما يواجهونه بحملات صبيانية تمتاز بالمواربة والتجنب. بل قل العجز عن المواجهة. فمواجهة تشومسكي صعبة للغاية حتى حدود القساوة. |
إن سر قوة هذا المفكر يكمن في فهمه العميق للنموذج الأميركي، وكشفه لألغاز هذا النموذج وأحاجيه وأحابيله. وذلك بطريقة غاية في البساطة. إذ درج طوال سنوات على قراءة جريدة النيويورك تايمز كل صباح. لكنه كان يقرأها متحرراً من إيحاءات التنويم المغناطيسي الجماعي. الأمر الذي كان يتيح له اكتشاف الخدع والغش والكذب في المعلومات التي تنشرها هذه الجريدة. وكان يصر على أسنانه وهو يقرأها، حتى تبدت لديه تشوهات الأسنان التي تظهر لدى الأشخاص الذين يصرون على أسنانهم أثناء النوم. |
فإذا ما أضفنا لهذه القراءة ذلك الكم الهائل، الذي يصفه زوار تشومسكي، من الجرائد والمجلات فإننا ندرك عندها مدى عمق العلاقة بين هذا المفكر وبين الحقيقة. وكذلك مدى إصراره على البحث عن الحقيقة. من هنا وصف "فريد غارندنر" تشومسكي بأنه لا يملك مصادر خاصة ذاتية، لكنه يملك فهماً جيداً للتاريخ والسياسة المعاصرة. وهذا ما يدركه قراء هذا المفكر حيث يعتمد دائماً مبدأ التفكير التوليدي التحليلي، وفيه يرتكز على القراءات الكاشفة، وعلى المقارنات التي تجلو الحقيقة وتوضحها. ولعلنا نجد في كتابة "قراصنة وأباطرة" خير دليل على هذه القراءات والمقارنات. |
وهكذا فإن تشومسكي يمثل نموذجاً فريداً للفكر القادر على معايشة عصر المعلومات من دون أن يتيه في إيحاءاتها، خصوصاً إن كتب تشومسكي السياسية أقرب إلى الفلاشات الصحفية منها إلى العرض الفكري. أما محاولات اختصار هذا العرض من قبل مؤلفين آخرين فهي محاولات محفوفة باللبس وباحتمالات سوء الفهم. وليس أقدر من صاحب الفكر نفسه على تقريب فكره إلى الجمهور وتلخيصه وتبسيطه. وهذا ما يفعله المفكرون عادة عبر المقالات الصحفية. |
دايفيد بارساميان قام بهذه المهمة فأجرى مقابلات عدّة مع تشومسكي مستطلعاً رأيه في موضوعات عديدة. ثم قام بارساميان بجمع هذه المقابلات في كتاب صدرت ترجمته العربية عن دار الأهلية في الأردن تحت عنوان:"تواريخ الانشقاق" وهو من ترجمة محمد نجار. |
1. محتويات الكتاب |
الكتاب، كما أشرنا أعلاه، جملة مقابلات بين بارساميان وبين تشومسكي. أولى هذه المقابلات تعود إلى كانون الأول (ديسمبر) العام 1948 وتتمحور حول "العلاقة بين اللغة والسياسة". وفيه يرى تشومسكي أن هذه العلاقة راهنة، وهي تتعلق أكثر باللعب على المصطلحات حيث يذكر الأمثلة الآتية: 1- إبدال تسمية وزارة الحربية بوزارة الدفاع الأميركية في العام 1947، أي عند تحول الولايات المتحدة إلى دولة ذات نفوذ وتهديد قويين. و2- إطلاق إدارة ريغان مصطلح "الإرهاب الدولي" ووضعه ضمن استراتيجيتها علماً بأن قراءة واعية تبين أن الولايات المتحدة هي الراعي الأكبر للإرهاب الدولي. و3- الفارق بين التوجيه المباشر الممارس في الديمقراطيات الشعبية، وبين ذلك الخفي _ الإيحائي في دول "العالم الحر". |
أما المقابلة الثانية فكانت حول تحول "إسرائيل مصدر قوى استراتيجية" وتبدأ بتساؤل بارسميان حول الخدمات الحيوية التي تؤديها إسرائيل للولايات المتحدة. وهو ما يجيب عليه تشومسكي بالقول بأنه ومنذ العام 1978 تستأثر إسرائيل بما يراوح بين 30 و50 % من المساعدات الخارجية الأميركية، وذلك لدعمها كدولة متفوقة عسكرياً وتقنياً، وعاجزة عن تحقيق أية استقلالية أو تنمية اقتصادية… |
وهنا وقفة يجب تسجيلها والتركيز عليها جيداً في مواجهة التيار المازوشي في صحافتنا الذي كاد أن يقنع الجمهور، بأن إسرائيل تسيطر على الولايات المتحدة وعلى قرارها، بل تتحكم في سياساتها. وهذه الفرضيات مجتمعة تفتقر إلى الدقة _ لنا عودة لاحقة إلى هذا الموضوع _ إذ يرى تشومسكي أن الولايات المتحدة استخدمت إيران الشاه وإسرائيل كحراس للخليج، واستخدمت إسرائيل كرأس حربة لتحقيق مصالحها في أفريقيا، وفي مناطق أخرى من ا لعالم، وبذلك فهي مصدر استراتيجي للقوة بالنسبة للولايات المتحدة. |
ونأتي إلى المقابلة الثالثة وعنوانها:"الإرهاب لغة السياسة" وفيها بعض التناقض في موقف تشومسكي من الأثر السياسي للغة. فبعد أن اعتبر أن هذا الأثر محدود الفاعلية وقصره على المصطلحات، فإنه في هذه المقابلة يؤكد خطورة دور المصطلحات وإساءة استخدامها على الصعيد السياسي. حتى لتبدو لنا اللغة عاملاً سياسياً مقرراً. ويبدأ بمصطلح "المصلحة الوطنية" ولدلالته الإيحائية هي مصلحة الواطنين كل المواطنين. أما دلالته الفعلية فهي مصلحة النخبة فقط. ثم ينتقل إلى مصطلح "التهدئة" فيذكر بسخرية بأننا (أي الأميركيين) قد مارسنا سياسة التهدئة في فيتنام مثلاً (وكان تهدئة عن طريق القتل الجماعي). ويأتي إلى مصطلح "الإرهاب" فيشير إلى أن حكومة السلفادور (المدعومة من الولايات المتحدة) قد قتلت خمسين ألفاً من مواطنيها في عام واحد. لكن الإعلام لم يركز على هذا القتل الجماعي بصفته الإرهابية، بل هو ركز على قرارات لجنة العفو الدولية التي أشارت إلى قتل بعض الدول لعدد لا يتجاوز ال 15 من مواطنيها، معتبراً ذلك فعلاً إرهابياً ممارساً من قبل الدولة من دون أي تفكير في موقع كل بلد من الولايات المتحدة وقربها أو بعدها عن الإرهاب. وهو يشير إلى الهجوم الأميركي على ليبيا العام 1986 معتبراً إياه مناورة متألقة في حقل العلاقات العامة. فقد بدأت الجولة باتهام إحدى الدول بأنها وراء اغتيال جنود أميركيين في إحدى الحانات الأوروبية. مروراً باعتبار وجود الأميركيين في أوروبا خطراً على حياتهم (بسبب الإرهاب)، وصولاً إلى شن الهجوم على ليبيا. ويرى تشومسكي أن الولايات المتحدة في حينه كانت عاجزة عن مواجهة الروس ولذلك كان عليها أن تختار بين ليبيا وغرينادا ونيكاراغوا أو أي دولة لا يمكنها الرد على الاعتداء. وكنا نود لو أن هذه المقابلة كانت أكثر معاصرة لنعرف رأي تشومسكي في الإرهاب العسكي والمعنوي الذي تمارسه الولايات المتحدة راهناً بعد تأكدها من عجز الجميع عن مواجهتها. وربما كان لذلك، وفق المسار العام لتفكير تشومسكي، علاقة بانفجار أوكلاهوما وبفستان مونيكا لوينسكي. |
ولقد حملت المقابلة الرابعة عنوان "نظام الدعاية والإعلام" التي بدأها بارسميان بسؤال حول اقتراحات تشومسكي لفك طلاسم الدلالات المشوهة للألفاظ والمصطلحات حتى نتمكن من فهمها في سياقاتها الدلالية الحقيقية، التي شوههاجورج أورويل (كما سبق لتشومسكي التصريح في المقابلة ا لسابقة). |
من جهته يجيب تشومسكي بأن الإرهاصات الأولة لخداع الألفاظ وتزوير الدلالات، تعود إلى ما قبل أورويل وتحديداً إلى فترة الحرب العالمية الأولى، حين عرض المؤرخون الأميركيون على الرئيس "ودرو ويلسون" القيام بحملة تضليلية (عن طريق اللعب على الدلالات) أطلقوا عليها اسم "الهندسة التاريخية" وكانت عبارة عن تصميم الحقائق التاريخية وإخراجها بأسلوب يخدم مصالح الدول الأميركية. ثم جاء أورويل بعد ذلك، حتى أن صحفياً أميركياً يدعى والتر ليبمان صرح في العام 1921 بأن فن الديمقراطية يتطلب "صناعة الرضا أو القبول" وهذا يعني الحصول على موافقة الرأي العام (ولو بطرق احتيالية) عوضاً عن الاختلاف معه كدليل على الاعتراف به. وفي السياق عينه يقدر المؤلف الأميركي "أوتيرو" بأن النظام الديمقراطي يسعة ليقرر ويحدد النقاط الكاملة للفكر (وهو بذلك يخنق الأيديولوجيات ضمناً) وتلاه الإعلان عن سقوط الأيديولوجيات (المفترض دعائياً) ونهاية القوميات (الهلوسي _ الهلاسي). كل ذلك ضمن قناعة السيطرة المطلقة للدعاية وللإعلام على عقول الجمهور داخل الولايات المتحدة وخارجها. |
وهنا يجيب تشومسكي (وكان قد طرح مراراً مثل هذه الأسئلة) بأن الدعاية في الدول التي تدار بالهراوة (مثل دولة العام 1948 التي وصفها أورويل) هي دعاية واضحة تعلن من دون غش أو رياء، عن مبادئ السلطة وتوجهاتها، وللجمهور أن يفكر في قبولها أو رفضها. وهذا أكثر احتراماً للحرية من اتباع وسائل المواربة والاحتيال على الألفاظ لإجباره على الاقتناع بمبادئ السلطة الديمقراطية الحرة. |
"الهندسة التاريخية" عنوان الحوار الخامس الذي يأتي كتكملة للحوار السابق، حيث يبدأ بارسميان بسؤال استفزازي يقول: لقد علمنا عن المكافآت التي يتلقاها مؤيدو النظام والمساهمون في دعم مسألة قبوله. فماذا عن العقوبات التي ينالها المخالفون (وفي السؤال إشارة إلى تشومسكي المتمرد). |
ويجيب تشومسكي بأن العقاب يختلف باختلاف البلد. ففي الاتحاد السوفياتي السابق كانت العقوبات تتراوح بين السجن والنفي. أما في السلفادور فإنك قد تتعرض للبتر والتشويه. أما في داخل الولايات المتحدة فإن العقوبة تشتد عندما تكون ضعيفاً. |
فالتمرد الأسود يمكن أن يعاقب بالقتل على يد شرطة السياسة الوطنية (كما حدث لفريد هامبتون الذي قتل على طريقة الغستابو). أما إذا كنت أبيض من الطبقة الوسطى فإن احتمال قتلك أو الاعتداء عليك يتدنى كثيراً. إلاّ أن عقابك يتحول لإخراجك من دائرة النخبة صاحبة الامتياز، وربما تحولت إلى سائق سيارة تاكسي لتقضي بذلك على كل أمل لك بالعودة إلى إطار النخبة. ومع ذلك فإن بعضهم يختار ذلك طوعاً. |
وعلى عادته في ربط الماضي بالحاضر يتطرق إلى إحدى فقرات إعلان الاستقلال الأميركي (التوراة الأميركية) وفيها إدانة لملك انكلترا جورج الذي ساعد في إطلاق العنان لوحشية الهنود الحمر لإبادة الأميركيين… وفي هذا مثال غير مباشر على واحدة من أهم خدع "الهندسة التاريخية" إذ تفوح رائحة الكذب من هذه الفقرة المقدسة حيث الهنود هم الذين تعرضوا للإبادة وليس العكس. ولكن ما لم يقله المؤلف هو أن الأميركيين قد تعودوا مثل هذه الإبادات. فها هم يساهموا في قتل خمسين ألف نيكاراغوي ويشعلون الحروب الأهلية وأتونات الأقليات في أرجاء المعمورة. |
وهم يحاولون الظهور بمظهر المدافع عن الأقليات لكنهم يدركون أن تحريكها ليس سوى مقدمة لإبادتها. ولعل معاناة الأكراد معهم خير دليل على ذلك. |
ينتقل بارسميان في حواره السادس إلى موضوع "سلطة الدولة والعدو الداخلي". وهنا ينطلق تشومسكي من مسلمة الدولة مفادها أن التركيبات الداخلية للدولة هي التي تصنع سياستها الخارجية. بما يستتبع بديهة السؤال عن هذه التركيبات داخل أميركا، والتي تصنع سياسة خارجية مرفوضة تماماً من قبل المفكر تشومسكي، الذي كان قد ألف كتاباً بعنوان:"حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأميركية"، وفيه يرى أن السياسة الخارجية لأي بلد تستند إلى بنائه الاجتماعي الداخلي. وفي حالة الولايات المتحدة فإن الذي يسيّر هذه السياسة ويرسمها هي مجموعة المصالح والمؤسسات القانونية. (وهنا يقدم لنا تفسيراً آخر عن انقياد السياسة الخارجية الأميركية لهذه المؤسسات). لكن تعاظم حجم المصالح الأميركية يعقد مفهوم هذه السياسة الخارجية. فالمسألة لا تقف دوماً عند محاولة الاستئثار بالاستثمارات (شراء الطائرات العملاقة أو الأسلحة أو الفوز بالالتزامات الضخمة…الخ) بل هي تتعداها أحياناً إلى تشجيع وخلق الأجواء التي تحسن الأسواق وتجعلها تزدهر، كأن تخلق الحاجة إلى السلاح أو إلى الإعمار، وكذلك هناك عامل التعويق، على غرار التفكير بوسائل لوقف تدفق نفط الخليج حتى يتمكن أثرياء النفط الأميركيون من بيع نفطهم بأسعار قياسية…الخ. وتحقيق هذه المصالح لا يراعي أية اعتبارات (بما فيها حقوق الإنسان). إلاّ أن العدو الداخلي (المتمثل بالرأي العام عبر صحواته الوجدانية القليلة) يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. |
يتابع تشومسكي في هذه المقابلة مبرهناً على أن تحكم الأقوياء ليس في السياسة الخارجية فقط بل في السياسة الأميركية عموماً. ويعطي مثالاً فضيحة "ووترغيت" حيث قام الجمهوريون "حزب نيكسون) بالتنصت على الديمقراطيين. وبما أن هؤلاء من الأقوياء فقد طرحوا المسألة كفضيحة. وهذا ما لم يستطع أن يفعله حزب العمال الاشتراكي بالرغم من كون التجسس عليه ومضايقة أعضائه قد حصلا على يد الشرطة السياسية الرسمية. وأبعد من ذلك فإن تشومسكي يشير إلى قائمة "أعداء نيكسون" ليوحي بوجود أشخاص من ذوي النفوذ يمكن لاجتماعهم أن يتحدى الرئيس الأميركي نفسه. بل هو يذ هب إلى أبعد من ذلك فيعدد أسماء مثل توم واطسون وماكجورج بوندي وجيمس ورستون. |
أما المقابلة الثامنة فتحمل عنوان "سلطة النخبة ومسؤولية المفكرين" ومصطلح "النخبة" هو من الكلمات الفائقة التكرار في كتابات تشومسكي. وكان قد لخص مفهومه لها في مقابلة سابقة من الكتاب حيث قال: إذا كنت معارضاً أسود في الولايات المتحدة فإنك قد تتعرض للاعتداء والسجن. أما إذا كنت أبيض من الطبقة الوسطى فإن احتمال تعرضك لذلك يتضاءل، وما يمكن أن يحدث لك هو أن تفقد موقعك بين النخبة فتتحول إلى سائق تاكسي مثلاً، ولعل في ذلك تفسيراً للسماح للنخبويين الأميركيين ببعض التجاوزات وعقاباً لمن هم خارج هذه النخبة إذا هم قاربوا هذه التجاوزات ولو من بعيد. |
التخطيط الاقتصادي للدولة هو عنوان المقابلة التاسعة، وهي إذاعية يجيب فيها تشومسكي عن أسئلة المستمعين، الذين خرجوا في المقابلة على عنوانها الاقتصادي. فقد سأله أحدهم عن رأيه في ما يقال عن العرب المحييطين بإسرائيل بأنهم قبائل متوحشة وغير متحضرة. حيث يجيب تشومسكي بأن انحياز مألوف في التاريخ _ الأميركي إذ أباد المهاجرون الأوروبيون سكان البلاد الأصليين في أميركا تحت لواء الحدود ذاتها. وهذه أمور تصعب مناقشتها. |
أما من ناحية السياسة الاقتصادية الأميركية فإن تشومسكي يرى أن هذه السياسة تقوم على تخويف الجمهور الأميركي من الخطر الروسي (أجريت المقابلة العام 1989) والاندفاع في الإنفاق على التسلح…الخ. وهذه الرؤية تمثل نبوءة مستقبلية. فلو نظرنا إلى ما جرى بعد 1989 على ضوء هذه الرؤية، لوجدنا أنها تقدم لنا المبررات والأجوبة عن جملة أسئلة منها: لماذا تبحث أميركا عن عدو، وكأنها تبحث عن خلاصها؟…الخ. |
هذا ويتابع بارسميان هذه المقابلة بأخرى عاشرة (وهي أيضاً إذاعية) ولكن بعد زوال الخطر السوفياتي، وهو يلخص رأيه بالتذكير بقول لاليوت ابرامز، الذي أوضح عقب الغزو الأميركي لبنما، بأن الوضع يختلف عما قبل. فالآن نحن (أي الأميركيون) لا نخشى التدخل أو الردع السوفياتي. فللولايات المتحدة الآن مطلق الحرية لاستخدام القوة. فقد خرج الروس من الساحة وقد احتوينا الروس وردعناهم. ويسهب تشومسكي في هذه المقابلة بشرحه لتاريخ العلاقة بين نورييغا والولايات المتحدة، ورغبتها في إعادة التجار البيض للصدارة في بنما. |
وفي مقابلة "بدائل امبراطورية الشر" يطرح تشومسكي فكرته عن عالم ذي أقطاب اقتصادية ثلاثة، وقطب عسكري واحد، وحروب متعددة بديلة من الحرب الباردة والصدامات التي تخللتها، حيث حرب المخدرات واحدة من هذه البدائل. |
ثم المقابلة الثانية عشرة التي أجراها بارسميان مع تشومسكي في أيلول (سبتمبر) العام 1990 أي بعد حوالي الشهر من اجتياح العراق للكويت، وكان من الطبيعي أن يكون هذا الموضوع هو موضوع المقابلة. وبداية يقرر تشومسكي بأن الولايات المتحدة تستخدم الأمم المتحدة وتستغلها لمصلحتها، بعد أن كانت تعوقها أيام الحرب الباردة، وتعرقل إمكانات قيام هذه المنظمة بدورها العالمي. وعلى مر الأحداث على المسرح العالمي، فقد كانت الولايات المتحدة تنتقي عدواً وتختاره ليكون الذريعة التي تبرر عبرها خروجها على القواعد الدولية. ويعطي مثالاً على هذا الخروج بالتناقض بين تدخل الولايات المتحدة المباشر في بنما وغرينادا وبين احتجاجها على انتهاك حرمة الدول. وهو لا يبرر هذا الانتهاك وإنما هو يسجل التناقض الأميركي. أما عن تصوره لحل أزمة الكويت فهو قد رجح الحل السياسي ولكنه رأى أن للحل العسكري حظوظاً أفضل لأن الولايات المتحدة تستمر في رفض مقترحات الحلول وتجاهلها وتعتم الصحافة على هذه المقترحات، الأمر الذي يجعل الحرب حتمية قبل مهلة الشهور الستة المحددة (وهو لم يكن محقاً في هذا التوقع الأخير). |
وكان من الطبيعي أن تأتي المقابلة المهمة حول موضوع النقاط والعوامل المشتركة بين النظام العالمي القديم والجديد (وهو موضوع كتاب صدر أخيراً للمؤلف، وعرفناها على صفحات في جريدة "الكفاح العربي"). ويتلخص رأي تشومسكي في الموضوع بأن الولايات المتحدة تهدف إلى خدمة مصالحها فقط. وما يخدم هذه المصالح يكون جيداً ومقبولاً وإنسانياً وما يعاكس تلك المصالح يكون عكس ذلك. |
ونأتي إلى المقابلة ا لرابعة عشرة وعنوانها "خدعة الحماية الدولية _ انعكاسات حرب الخليج"، وفيها إدانة فاضحة للاستغلال الأميركي حيث يرى تشومسكي أسلوب الحماية الأميركي أشبه بأسلوب المافيا في حماية زبائنها. بل أن تشومسكي يرى أن الولايات المتحدة تلهث وراء فرص استعراض قوتها العسكرية وقدرتها على التأديب وتقديم الحماية، وذلك بمعارضة وعرقلة أي حل ديبلوماسي لأية أزمة. |
وهو يعدد من بين أمثلة هذه العرقلة معارضة الولايات المتحدة لحلول ديبلوماسية في فيتنام، وإعاقتها لاتفاقات كونتادورا، وخطة ارياس للسلام في أميركا الوسطى (آب/اغسطس87) وأخيراً رفضها لحلول الأزمة العراقية _ الكويتية وتصعيدها إلى مرحلة الحرب الواسعة. وإذا ما انعدمت إمكانية الاستمرار في الحرب العسكرية، فإن الولايات المتحدة تنتقل إلى الحرب الاقتصادية التي باتت تمارسها من دون رادع، وبشكل واسع مؤثر في مئات الملايين من البشر، وخصوصاً بعد غياب الاتحاد السوفياتي. |
بعد ذلك يعرض بارساميان مقابلة مع تشومسكي أجريت في تشرين أول (أكتوبر) 1991 وعنوانها "رهان باسكال" أما موضوعها فهو تطبييق رهان باسكال على غريزة الحرية لدى الأميركيين. إذ يعتبر أنه أمام أحد خيارين: فإما فقدان الأمل من ملكية الأميركيين لهذه الغريزة وإما المراهنة على وجودها والعمل على توعيتهم بالتناقضات وبالأوهام التي تجلب موافقتهم ورضاهم على السياسة الأميركية. وهي موافقة تنتقص من حريتهم ومن حقهم في التفكير والاطلاع على الحقائق. مثال ذلك ما يراه تشومسكي من رغبة في خوض الحروب لدى الرؤساء الأميركيين. وسعي كل منهم لتهيئة الظروف لحربه الخاصة. فإذا ما حاكمنا هؤلاء وفق مبادئ محاكمات نورمبرغ فإنهم سيحاكمون جميعاً كمجرمي حرب _ يحصر التهمة برؤساء ما بعد الحرب العالمية الثانية. |
المقابلة السادسة عشرة والأخيرة تحمل عنوان "بيرل هاربير" وهي المعركة الهجومية التي دمر فيها انتحاريون يابان القاعدة الأميركية في "بيرل هاربير" والتي تعتبر الذريعة التي أدت لإلقاء قنابل نووية على اليابان. وقد جرت المقابلة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1991. وهي تستند إلى نكتة أطلقها الكسندر كوكبورن ومحتواها أن أعظم نكبتين أميركيتين في القرن العشرين كانتا: 1 _ بيرل هاربير. و 2 _ ولادة نعوم تشومسكي. ولعل طابع الاستفزاز في هذه النكتة مضافاً إليه اختيارها كمقابلة أخيرة ربما بسبب ارتفاع وتيرة الاتهام فيها. إذ يرى تشومسكي أن هذا العنف الأميركي الخارجي إنما يتم على حساب خداع داخلي ومراوغة للشعب الأميركي، الذي بات منتجاً للعنف الداخلي حتى أن شباب مدينة بوسطن لا يعتبرون أنفسهم رجالاً ما لم يصابوا برصاصة حقيقية في منطقة ما من جسدهم. لقد تحول ذلك إلى قضية كرامة بالنسبة لهؤلاء الشبان…الخ. هذه الأحاديث ومثلها يدلي بها تشومسكي قبل سنوات من انفجار أوكلاهوما ومن ظهور الميليشيات الأميركية البيضاء ومن الصدامات بينها وبين السلطة. كما هو يدين تقاعس الولايات المتحدة عن منع المذابح في تيمور قبل سنوات من تقاعسها في البوسنة وفي كوسوفو…الخ من الملاحظات التي تبين توصل تشومسكي إلى فضح النموذج والقالب السياسي للتصرفات السياسية الأميركية فهل كانت والدته "بيرل هاربير" جديدة للولايات ا لمتحدة؟! |
إذا كان الأمر كذلك فإن على العالم أن ينتظر قنابل نووية جديدة تصبها أميركا على رؤوس من يطالبها بمجر د التوافق والانسجام مع مبادئها المعلنة، وعدم خداع داخلها والعالم، وتنويمهم مغناطيسياً للموافقة على ما ترى فيه خدمة لمصالحها. ولعل صرخة هنتغتون حول تآكل المصالح الأميركية، وضرورة تغيير معايير هذه المصالح، من شأنها أن تعيد بعض الموضوعية والعقلانية إلى تعامل الولايات المتحدة مع الآخر، وإعادة حساباتها في تصنيف الأصدقاء والأعداء. |
الأحد ديسمبر 12, 2010 4:44 am من طرف سبينوزا