حول نشأة الحركة
الماركسية اللينينية المغربية
الجزء الأول: ظروف نشأة الحركة الماركسية اللينينية المغربية
إن الحركة الماركسية اللينينية المغربية (أو ما يصطلح عليه اليوم باليسار الجديد) كحركة سياسية اجتماعية نتاج للتطورات العميقة التي عرفها المغرب غداة استقلال 1956، فهي جزء لا يتجزأ من الحركة التقدمية المغربية، و قد كانت و لا تزال في خندق المعارضة الجذرية لنظام التكتل الطبقي الرجعي.
إن الاهتمام بظروف نشأة هذا اليسار النوعي، و بتجربته الغنية و تطلعاته المشروعة، لا يمكن إلا أن يغني الحوارات و النقاشات الجارية حاليا في مختلف الأوساط المناضلة، و من هنا تأتي أهمية المبادرة التي أقدم عليها" النهج الديمقراطي" المتمثلة بفتح نقاش حول هذه التجربة، بما لها و ما عليها، و حول هذا الفاعل التاريخي الذي لعب و لا يزال يلعب دورا مهما في الصراع السياسي.
تأتي هذه المبادرة الهامة في إطار تخليد ذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس منظمة " إلى الأمام " ( 30 غشت 2010) التي شكلت العمود الفقري لهذه الحركة الثورية، و التي يشكل اليوم " النهج الديمقراطي" الاستمرارية السياسية و الفكرية لها.
ان هذه المبادرة ستسمح بلا شك لمناضلين عايشوا التجربة الغنية بالأحداث، ببسط آرائهم و تقييماتهم، مهما اختلفت مما سيمكن الجيل الجديد من المناضلين و كل المهتمين بقضايا الشعب المغربي، و بتاريخ مقاومته، من الإلمام بجانب من التطورات السياسية التي عرفها مجتمعنا خلال العقود الأخيرة، و أتمنى أن نرى مستقبلا مبادرات أخرى حول المقاومة الريفية بقيادة البطل الجمهوري عبد الكريم الخطابي، و حول الحركة الوطنية بشكل عام و المقاومة، و جيش التحرير بشكل خاص...
إن مساهمتي المتواضعة ستركز بالأساس على الظروف الموضوعية التي كانت وراء ميلاد الحركة الماركسية- اللينينية المغربية/"اليسار الجديد"، أما الجوانب المتعلقة بتقييم التجربة و الجواب على" ما العمل؟" فإنني أعتقد أن مساهمة المناضلين الذين عايشوا التجربة و لو في بعض مراحلها، و لعبوا دورا مهما في النقاشات الداخلية لهذا اليسار ( في السنوات التسعينات بالأساس) ستكون جد مهمة.
أولا: المميزات الأساسية للوضع الداخلي للمغرب ( خلال الستينات)
1- على المستوى الاقتصادي
لقد تميز الوضع الاقتصادي بالمغرب خلال الستينات بارتفاع نسبي في معدل النمو، و هذا ناتج عن سياسة السدود و تمركز الأراضي الخصبة في أيدي فئة قليلة من المحضوضين، و إنشاء المكاتب الجهوية للاستثمار ألفلاحي للرفع من مساحة الأراضي المسقية و تشجيع الإنتاج الزراعي من أجل التصدير ( الحوامض، البواكير...)و ظهور ثم ازدهار الصناعة الفلاحية هذا من جهة أولى، و من جهة ثانية فرغم تخلي الحكم على برنامج الاقتصاد الوطني الذي حددته حكومة عبد الله إبراهيم خلال سنتي 59- 60، فانه شجع الاستثمارات في قطاع الصناعة التحويلية الموجهة أساسا إلى السوق الخارجية، و كذا قطاع السياحة... و يجب أن لا ننسى الدعم و " المساعدات" التي أحظى بها نظام الحسن الثاني من الدول الامبريالية ( فرنسا، الولايات المتحدة...) جزاءا لدوره الفعال في مناهضة حركات التحرر الإفريقية و العربية عامة، و الحركة الشيوعية خاصة.
لقد شكلت فترة الستينات بداية تشييد الاقتصاد الرأسمالي التبعي ألمخزني المبني أساسا على تلبية حاجيات السوق العالمي الضامن لتراكم سريع للرأسمالي الكمرادوري.
2- على المستوى الاجتماعي
أما الواقع الاجتماعي فيمكن تركيز سماته فيما يلي:
- عملية عصرنة فئة الملاكين العقاريين الشبه الإقطاعيين. خلال عهد الاستعمار، كانت أجود الأراضي بأيدي المعمرين الأجانب ( سهول الغرب، السايس، بركان، بني ملال...)، أما الملاكين المغاربة الكبار ( القاعدة الاجتماعية للمخزن قبل الاستعمار و للمعمر خلال مرحلة الاستعمار) فقد احتكروا الأراضي الأخرى الصالحة للفلاحة و للرعي
( الأطلس المتوسط، سفوح الأطلس الكبير...) و خلال الستينات أعطيت لهم كل المساعدات و التسهيلات لأخذ مكان المعمرين الأجانب ( لهذا أطلق عليهم اسم المعمرين الجدد)، و لعصرنة نشاطهم ( إنشاء مراكز الأشغال في المناطق البورية، و مراكز الاستثمار في المناطق السقوية...).
- ظهور و تطور سريع لما يمكن تسميته بالبرجوازية البيروقراطية. لقد منح الحكم التسهيلات لأطر الدولة العليا، مدنيين و عسكريين، لمراكمة ثروات خيالية في ظرف وجيز ( الاستيلاء على أجود الأراضي، المساهمة في الشركات، تلقي الرشاوى، نهب المال العام...) ،و قد تم كل هذا النهب على حساب مصالح الجماهير الشعبية عامة و على حساب الفلاحين الفقراء و المتوسطين بشكل خاص، و بوسائل جلها غير شرعية.
- توسيع مجال النشاط الاقتصادي للبرجوازية التقليدية ليشمل الصناعة و الفلاحة و السياحة، و الصيد البحري، و القطاع البنكي، و التأمين...بعدما كان هذا النشاط ينحصر في ميدان التجارة، و الصناعة التقليدية و النقل الداخلي.
و يمكن ملاحظة تكامل و ترابط و تداخل مصالح هذه الفئات الثلاثة، التي شكلت موضوعيا قطبا لا وطنيا، حيث يمر ضمان استمرار هيمنتها، و نمو مصالحها، عبر الارتباط الوثيق بالدول الامبريالية ( فرنسا و الولايات المتحدة) و عبر سياسة القمع الداخلي.
- تدهور خطير لوضعية الفلاحين الصغار و المتوسطين: لقد هلل الفلاحون لاستقلال 1956، و عمت الفرحة كل قرى البادية، و ظن الجميع أن المسئولين الجدد سيسترجعون الأراضي الجماعية التي استحوذ عليها المعمرون تعسفا، لتسليمها إلى أصحابها الشرعيين، و قد خابت أمال الفلاحين لأن الأراضي المسترجعة ذهبت إلى غيرهم، و أخطر من ذلك، فان التسابق للاستيلاء على الأراضي الفلاحية من طرف أفراد التكتل الرجعي الحاكم كانت في الواقع عملية نزع الملكية من آلاف الفلاحين، أضف إلى ذلك الاضطهاد السياسي و الاجتماعي الذي كانت تعاني منه البادية. إن هذه الظروف الجديدة قد أعطت انطلاقة عملية الهجرة نحو المدينة، لتزدهر مدن الصفيح، و تتوسع أحزمتها. و قد تحولت أغلبية باقي صغار الفلاحين إلى عمال زراعيين يكدحون في ضيعات المعمرين الجدد و في شروط ينعدم فيها الحد الأدنى للأجور، و الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، و الحد الأقصى لعدد ساعات العمل...و في غياب التنظيمات الفلاحية المكافحة، و محدودية التأثير السياسي للقوى الوطنية، فقد كانت مقاومة الفلاحين دون المستوى الضروري، رغم بعض الانتفاضات العفوية( مثل انتفاضة أولاد خليفة بإقليم القنيطرة حيث استشهد العديد من الفلاحين الأبرياء برصاص قوات الدولة...).
أمام تنامي سخط الفلاحين و استجابة لنصائح الولايات المتحدة، و على غرار تجربة ايران الشاه و المكسيك ( عملية الثورة الخضراء)، حاول الحكم نهج سياسة جديدة في الميدان القروي، مع الحفاظ على جوهر مصالح التكتل الطبقي السائد و في مقدمتها مصالح ملاكي الأراضي الكبار، أقدمت الدولة على محاولة نهج سياسة "تلطيف/ طمس" التناقضات الطبقية في العالم القروي.
يمكن تلخيص جوهر هذه السياسة في محاولة خلق شريحة متوسطة من الفلاحين، و ذلك بواسطة توزيع جزء من أراضي الدولة؛ و قد سهرت أجهزة الدولة على تنظيم "المستفيدين" من هذه العملية في تعاونيات يتجاوز دورها النشاط الفلاحي. يكمن الهدف من هذه العملية في محاولة تخفيف حدة الصراع الطبقي في البادية، و بناء ركيزة اجتماعية إضافية للحكم في المجتمع المغربي,
- تدهور وضعية الطبقة العاملة رغم نموها الكمي، و ذلك لعدم احترام القوانين الجاري بها العمل من طرف الرأسماليين المغاربة و من ضمنهم المقاولات العمومية و الشبه العمومية. إن ضرب حقوق العمال يتم تحت حماية مختلف أجهزة الدولة, و قد خاضت الطبقة العاملة المنظمة آنذاك في إطار الاتحاد المغربي للشغل نضالات مريرة (مثل إضراب عمال الفوسفاط سنة 1968 الذي دام أكثر من شهرين، و إضرابهم سنة 1971 الذي دام حوالي 3 أشهر).
- بروز حركة الشبيبية التعليمية. لعبت الحركة الوطنية دورا مهما غداة 1956 في فتح باب المدرسة أمام أبناء الجماهير الشعبية, و بعد وصول الأفواج الأولى إلى التعليم الثانوي و الجامعي، اتضح لها أن خيرات الوطن الكثيرة و المتنوعة قد أصبحت محتكرة من طرف فئة قليلة و أن أغلبية الشعب بقيت محرومة، و أن آفاق مستقبل أبناء الشعب تبقى مظلمة. اكتشفت هذه الأجيال الطبيعة الحقيقية للحكم، و من هنا ستلعب هذه الفئة لاجتماعية دورا مهما في تأجيج الصراع الطبقي.
3 – على المستوى الثقافي
كان هدف الحكم هو تعميق الجهل داخل المجتمع، و كانت إستراتيجيته في هذا الإطار تعتمد على عملية إبراز و تشجيع كل مظاهر الثقافة المحافظة التي تساعد على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية السائدة، و ضمان استمرارية الولاء للمخزن. إن محاولة تكوين جمعية ثقافية هادفة و مستقلة عن الأوساط الرجعية تكاد أن تكون من المستحيلات، و قد يتعرض أصحاب المبادرة للاعتقال بتهمة "الإخلال بالأمن العام"...و لولا صمود بعض المثقفين لما رأت مجلة "أنفاس" النور.؛ هذه المجلة التي لعبت دورا رائدا في الدفاع عن مكونات الثقافة الشعبية، و دورا لا يقل أهمية في نشر الوعي داخل أوساط الشباب.
و من الوسائل التي حاول النظام استعمالها لفرض هيمنة الثقافة الرجعية السائدة نذكر منها الدين عبر المسجد و الإذاعة و التلفزة (لقد تحولت خطبة يوم الجمعة إلى عملية للدعاية السياسية المخزنية)، و عبر المدرسة (قرار إجبارية الصلاة في التعليم الابتدائي و الثانوي غداة انتفاضة مارس 1965)...
4 – على المستوى السياسي.
لقد اتسم الصراع الطبقي منذ استقلال 1956 بحدة قوية على المستوى السياسي.
يمكن تقسيم الفاعلين السياسيين الرئيسيين إلى الأقطاب الثلاثة الآتية:
أ – الحركة الوطنية بمفهومها العام، و هي تضم بشكل أساسي الأقطاب الآتية:
- حزب الاستقلال، كحركة سياسية - تنظيمية
- الاتحاد المغربي للشغل(ا.م.ش) كقطب نقابي
- مجموعات المقاومة و جيش التحرير
- الحزب الشيوعي رغم ضعفه
ب – ملاكو الأراضي – الشبه الإقطاعيين الذين كانوا يشكلون قبل 1956 إحدى أهم ركائز الاستعمار.
ت – مجموعات من المثقفين "الليبراليين" المنحدرين من أوساط "العائلات الكبيرة" الحضرية الذين ترعرعوا في أحضان المستعمر و تشبعوا بثقافته (مثل رضا كديرة).
ث – مجموعة الأطر المغربية التي تمكنت من احتلال مواقع مهمة داخل أجهزة الدولة لما بعد 1956 (خصوصا الأطر العسكرية التي شاركت في الحروب الاستعمارية ضد شعوب منطقة الهند – الصينية).
إن الفئات الثلاثة الأخيرة تمكنت من إيجاد و بسرعة فائقة أرضية مشتركة صلبة للتكتل من أجل الحفاظ على مصالحها و تنميتها، خصوصا و أن فرنسة (حفاظا على مصالحها الكبرى) كانت عازمة على تسليمها مقاليد الحكم.
لقد لعب المثقفون "الليبرالييون" بقيادة رضا كديرة بتنسيق محكم مع العائلة الملكية بقيادة الأمير الحسن دورا حاسما
في بناء إستراتيجية لسياسة ذكية مكنت هذا التكتل من بسط سيطرته الشبه المطلقة على المجتمع، و ذلك في غضون 7 سنوات فقط؛ و هكذا تعمق تشييد مغرب التبعية السياسية للامبريالية، و هيكل اقتصادي رأسمالي تبعي مخزني.
لقد عجزت مكونات الحركة الوطنية التي قادت كفاح الشعب المغربي نحو "الاستقلال" عن تحقيق ما كانت تطمح إليه الجماهير الشعبية، و يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:
- كان حزب الاستقلال في تلك المرحلة، عبارة عن جبهة واسعة لتيارات سياسية و فكرية تعبر في العمق عن مطامح مختلف الفئات الاجتماعية التي كانت تشكل قاعدته التنظيمية، فشعار الاستقلال غير كافي لتوحيد الرؤى، خصوصا و أن هذا الحزب كان يفتقد إلى برنامج سياسي و اقتصادي لما بعد الاستقلال.
- إن قيادة أ.م.ش كانت منذ 1955 حريصة على فرض سيطرتها على الطبقة العاملة، و بكل الأساليب، و ذلك بإبعادها عن الهموم السياسية و الفكرية، و كانت تناهض كل عمل من شانه توعية العمال بدورهم الطبقي في عملية تحرير المجتمع، فرغم مساهمة قيادة أ.م.ش في تشكيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية(أ.م.ق.ش)، فإنها لم تتخل في يوم من الأيام عن سياسة عزل العمال عن النضال السياسي.
- أما مجموعات المقاومة و جيش التحرير و التي يمكن تصنيفها بالجناح العسكري للحركة الوطنية، فرغم وعي جل قادتها بالمشاكل الأساسية لما بعد الاستقلال السياسي، و إيمان هؤلاء القادة بضرورة الاستمرار في عملية التحرير لبناء مغرب وطني تقدمي، فان التكتل الطبقي الرجعي المتنامي تمكن من تفكيكها و أجهض مشروعها في المهد، مستغلا في ذلك الصراعات الداخلية للحركة الوطنية، و انعدام الوعي الثوري لدى قواعد المقاومة و جيش التحرير، و الامتداد المخزني عبر بعض أطر جيش التحرير المرتبطين بملاكي الأراضي الكبار الشبه الإقطاعيين و الذين كان لهم تأثير مهم في بعض المناطق ( الأطلس المتوسط و شرق البلاد).
يمكن إذن، و بكل تركيز، تلخيص مميزات الصراع السياسي خلال فترة 56- 60 فيما يلي:
- انفجار التناقضات الداخلية للحركة الوطنية و التي تمخض عنها ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (يناير 1960) بكل تناقضاته الداخلية.
و يمكن أن نقول أن فرنسا و الولايات المتحدة قد لعبتا دورا مهما، عبر عدة قنوات في تأطير و توجيه الصراع السياسي لتلك المرحلة، و الهدف من ذلك هو التحكم في عملية بناء دولة ما بعد 56 بشكل يمكنها من لعب أدوار"ايجابية" في إطار إستراتجية الامبريالية المعادية لحركات التحرر عبر العالم بشكل عام و لحركات التحرير العربية و الإفريقية بشكل خاص.
إن "انتفاضة" العامل عدي و بيهي بتافيلالت لا يمكن تفسيره إلا بمحاولة فرنسا خلق حزام أمني شرق المغرب لعزل المقاومة الجزائرية عن المقاومة المغربية و قطع طرق التموين عن المقاتلين الجزائريين...
إن ما حاولت فرنسا القيام به شرق المغرب خلال 56- 57، هو ما قامت به إسرائيل في جنوب لبنان عقود بعد.
إن منع الحزب الشيوعي المغربي في أخر الخمسينات لا يمكن إلا أن يخدم سياسة الامبريالية الأمريكية التي كان من أهدافها القضاء على الثورات التقدمية عبر العالم، و ذلك في مواجهة المد التحرري عبر العالم، و معسكر الاتحاد السوفياتي.
إن فترة 61- 65 قد عرفت حسم موازين القوة لصالح التكتل الطبقي الرجعي، القاعدة الاجتماعية للحكم المخزني، و ذلك بفرض (سنة 1962) دستور يشرعن الحكم الاستبداد الفردي، و بناء مؤسسات دستورية ( البرلمان- الجماعات المحلية) بأساليب بعيدة كل البعد عن الأساليب الديمقراطية، و قد عجزت الحركة الوطنية وقف ذلك المسلسل الرهيب رغم المقاومة التي بذلتها مختلف مكوناتها، و رغم تضحيات العشرات من المناضلين.
و يمكن تلخيص الأسباب التي ساعدت الحكم على حسم موازين القوة لصالحه في النقط الآتية:
- الصراعات الداخلية لمكونات الحركة الوطنية: فرغم تواجدها في الحكومات الأولى و رئاستها للمجلس الاستشاري المشكل غداة استقلال 56، فان أقطاب الحركة الوطنية لم تتمكن من توحيد صفوفها و التحكم في مجرى الأحداث على الصعيد الوطني.
- انعدام أي مشروع مجتمعي متكامل من شأنه تجنيد الطبقات الشعبية حول قيادة تقدمية منسجمة، و ذلك رغم اجتهادات و محاولات بعض رموز الحركة الوطنية( المهدي بن بركة، الفقيه البصري، عبد الرحمن اليوسفي...).
- سكوت جل أطراف الحركة الوطنية على القمع الدموي الذي تعرض له سكان الريف الذي ذهب ضحيته آلاف من الأبرياء، و قد أفقدها هذا السكوت شعبيتها في تلك المناطق.
- ظهور تنظيمات سياسية رجعية برعاية القصر مثل الحركة الشعبية التي تميزت بنغمة "الدفاع" عن مصالح البادية بشكل عام و عن "مصالح" الأمازيغيين بشكل خاص، و جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية المتميزة بنغمة "الدفاع" عن القيم الديمقراطية و تحديث المجتمع...
- تشكيل أجهزة القمع الرهيب التي لم تتردد في الاعتقال التعسفي، و طبخ الملفات المزورة، و الاختطاف، و التصفية الجسدية...و إجراء المحاكمات الصورية.
حمل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (ا.و.ق.ش) ، منذ نشأته، مشعل المقاومة و التصدي، و ذلك رغم تناقضاته الداخلية. لقد شكل الاستفتاء على دستور خريف 1962 المفروض محطة تاريخية مهمة حيث واجه فيها الحزب مخطط الحكم بموقف مقاطعة الاستفتاء، و قام المناضلون الاتحاديون رغم القمع الرهيب بدعاية مكثفة عبر كافة التراب الوطني. لقد تبنى حزب الاستقلال في تلك اللحظة موقف التكتل الرجعي الداعي إلى التصويت بنعم، و حالت قيادة الاتحاد المغربي للشغل دون أن يعبر العمال عن موقف طبقي كفاحي و ذلك باسم استقلالية العمل النقابي و بأولوية الخبز عن السياسة...
بعد مغادرة وزراء حزب الاستقلال الحكومة عشية الانتخابات التشريعية الأولى، وقع تقارب بين ا.و.ق.ش و حزب الاستقلال، و تقوى هذا التقارب بعد الانتخابات التي نزل فيها الحكم بكل ثقل دولته لفبركة برلمان مزور لم يعكس في شيء الواقع السياسي الذي كان سائدا: لقد تدخلت مختلف أجهزة الدولة مستعملة مختلف الوسائل (بما في ذلك الطائرات المروحية بإقليم الغرب) لإرهاب الجماهير و دفعها إلى لتخلي عن القوى الوطنية...أرغمت النتائج الانتخابية أ.و.ق.ش و حزب الاستقلال على موقف مقاطعة "الانتخابات الجماعية القروية و الحضرية"رافضين بذلك تزكية مسلسل التزوير و الإرهاب.
اتخذ التناقض بين النظام و الحركة الوطنية بقيادة ا.و.ق.ش طابعا عدائيا، و اتضح للعديد أن التغيير الجذري أصبح مشروعيها تاريخيا، و مطمحا شعبيا اجتماعيا، و مهمة مطروحة سياسيا. في هذا المناخ الثوري، استغل الحكم تردد أطراف الحركة الوطنية، و هشاشة تنظيماتها، لتدبير مؤامرة دنيئة ضد ا.و.ق.ش (صيف 1963): اعتقال آلاف المناضلين و المتعاطفين، اختطاف المئات، اغتيال آخرين...و تمكنت المئات من الفرار إلى الجزائر، و سوريا، والعراق، و ارويا الغربية.
بعد كل هذه الأحداث بدأ يتضح للعديد من مناضلي الاتحاد أن التعايش مع النظام أو بناء مجتمع ديمقراطي في ظله قد أصبح من المستحيلات...تعددت الأجوبة على السؤال اللينيني الشهير "ما العمل؟". لم يستطيع الحزب الذي كان شبه مشلولا، تأطير النقاشات الداخلية و مركزة الآراء... فبدأت كل مجموعة تمارس قناعاتها خارج الضوابط الحزبية: كان هناك من بدأ في تشكيل نقابات قطاعية خارج نقابة ا.م.ش (النقابة الوطنية للبريد، النقابة الوطنية للتعليم...)، و كان هناك من بادر في تنظيم المقاومة المسلحة (مجموعة الشهيد شيخ العرب الذي استشهد صيف 1964 بالدار البيضاء)...
و في هذه الأجواء المتسمة بالتبعية العمياء للامبريالية، و بالإرهاب السياسي، و السطو على خيرات البلاد، و تشريد الفلاحين الصغار...بدأ يتغير خطاب حزب الاستقلال منتقدا مختلف جوانب سياسة الحكم، و بدأت تتبلور الأسس النظرية لشعارات أواخر الستينات و بداية السبعينات " الأرض لمن يحرثها، التعادلية...".
إذا كانت جريدة "التحرير" الاتحادية، قد لعبت دورا مهما في فضح سياسة النظام ابتداء من أواخر الخمسينات، و ذلك رغم الاعتقالات التي كانت تشمل مسئوليها و الرقابة المفروضة عليها، و مصادرة العديد من أعدادها، فان الصحافة الاستقلالية، قد لعبت كذلك دورا لا يقل أهمية ابتداء من الانتخابات التشريعية الأولى (جريدة "العلم" الناطقة باللغة العربية و "لانسيون" الناطقة باللغة الفرنسية و "لوبنيون" التي عوضت "لانسيون" بعد منعها اثر نشرها لمقولة جمال الدين الأفغاني "يمكن لشعب أن يعيش بدون ملك، و لا يمكن لملك أن يعيش بدون شعب")، كما لعبت جريدتي الحزب الشيوعي المغربي "المكافح" ثم "الكفاح الوطني" دورا بارزا في نشر الأخبار المتعلقة بنضالات الطبقة العاملة.
برز في هذه الظروف المتسمة بحدة الصراعات السياسية خلافات داخل التكتل الرجعي الحاكم، ستبقى مخلفاتها تسمم العلاقات بين المحجوب احرضان و ريضا كديرة إلى حدود وفاة هذا الأخير، و مما نتج عن ذالك الشلل التام للفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، ذلك المخلوق الإداري، و قد سهلت فيما بعد هذه التناقضات مبادرة المعارضة البرلمانية الوطنية التي تمكنت من تمرير ملتمس الرقابة أطاحت به الحكومة.
و أمام عزم الحكم على تشديد الخناق عن كل ما هو حي، و على تصعيد سياسة الإرهاب (الاعتقالات، الاختطافات...)، و أمام عجز أطراف الحركة الوطنية على تنظيم و قيادة المقاومة الشعبية، لم يبق أمام الجماهير بشكل عام، و أمام الشبيبة التعليمية بشكل خاص إلا ردود الفعل النضالية العفوية، و قد توجت هذه النضالات بانتفاضة مارس 1965 العفوية التي انطلقت من مدينة الدار البيضاء، لتشمل مدنا أخرى لكن بأقل حدة.
لم تنشف بعد دماء شهداء الدار البيضاء، حتى سارع قادة القوى السياسية إلى تلبية دعوة الحسن الثاني للالتحاق به بمدينة ايفران. كان هدف النظام هو إجهاض حركة المقاومة الشعبية التي بدأت تعم مختلف الأقاليم، و إيهام الجماهير بإمكانية الدخول في عهد جديد يتسم بالديمقراطية الحقة و التناوب السياسي... و لهذا كان الحكم في حاجة ماسة إلى كسب مساندة أو حياد أقطاب الحركة الوطنية، إنها سياسة ربح الوقت لإعادة ترتيب البيت و تحديد خطة المرحلة.
إن إعلان حالة الاستثناء و اختطاف المهدي بن بركة (أكتوبر 1965)، و تصعيد القمع بخرت كل الأوهام...
لقد شكلت انتفاضة مارس 1965 النقطة التي أفاضت الكأس، فالتطورات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي عرفها المغرب منذ 1965، و التي اتسمت بالاستحواذ على خيرات البلاد من طرف التكتل الطبقي الرجعي، و مراكمة الانتصارات السياسية لصالحه، و عجز أقطاب الحركة الوطنية البرجوازية على التصدي لهذا الاكتساح الرجعي...إن هذه التطورات قد دفعت ببعض المثقفين و بالشبيبة التعليمية المنحدرة من الأوساط الشعبية إلى البحث عن أسباب الانتكاسات، إلى محاولة تقديم بدائل، و هكذا عمت النقاشات قواعد أ.و.ق.ش و الحزب الشيوعي، كما تعدت هذه النقاشات الأوساط الحزبية لتشمل معظم الشباب المغربي في المدن و في القرى، و عبر كافة التراب الوطني، و قد تحولت الثانويان و الكليات و المعاهد... إلى "أوراش" سياسية، فكرية أعطت مناضلين من نوع جديد لم يترددوا للالتحاق بقافلة النضال الجذري و بأفق جديد.
ثانيا: الربط الجدلي بين الوطني و الإقليمي.
إن غرس الكيان الصهيوني المصطنع في قلب جسم العالم العربي و العدوان الثلاثي الفرنسي الانجليزي و الصهيوني على مصر في سنة 1956، بعد تأميم قناة السويس، و الانجازات السياسية الايجابية للأنظمة الوطنية في مصر و العراق و سوريا، و حرب اليمن الشمالية بين الجمهوريين و الملكيين، و حروب التحرير في الجزائر و اليمن الجنوبية و ثورات ظوفار، و اريتريا، كل هذه العوامل لعبت دورا أساسيا في نشر روح التضامن بين شعوب العالم العربي التي وعت بوحدة المصير، و معاداة الامبريالية، لقد كان لكل نضال في العالم العربي صداه في المغرب.
و هذا ما يفسر اليوم تضامن الشعب المغربي بكل مكوناته اللغوية و الثقافية مع الشعب الفلسطيني و الشعب العراقي رغم طبيعة قياداتهما للاديمقراطية.
إن حرب يونيو 1967 و نتائجها الكارثية بالنسبة للأنظمة القومية، و بروز المقاومة الفلسطينية بوجه ثوري جديد، و بروز اليسار الماركسي الفلسطيني، لقد ساعدت هذه العوامل كلها المناضلين المغاربة من فهم التفاعل الجدلي بين التحرر الوطني و الإقليمي العربي.
ثالثا: التشبع بالفكر الثوري ألأممي
إن النقاشات و المطالعات و البحوث، قد مكنت مئات المناضلين من الاضطلاع على تجارب الشعوب الأخرى. إن ثورة 1789 الفرنسية بشكل عام و كومونة باريس بشكل خاص، و الثورات البلشفية و الصينية و الكوبية و انتصارات حركات التحرر الوطني عبر العالم، و أحداث مايو 68 بفرنسا، و تصاعد المقاومة الشعبية بقيادة الأحزاب الشيوعية بآسيا، و النقاشات النظرية داخل الحركة الشيوعية العالمية، إن كل هذه الأحداث التاريخية لعبت بدون شك دورها في تنامي الوعي الثوري بالمغرب خلال الستينات و بداية السبعينات.
و قد اتضح للعشرات من المناضلين الربط الجدلي بين ثورات الشعوب و صيرورة تحرير الإنسانية بشكل عام، و أهمية التضامن ألأممي بين الشعوب بشكل خاص.
رابعا: ميلاد التنظيمات الماركسية- اللينينية.
إن المحاور الأساسية للأوراش السياسية- النظرية التي عمت البلاد قد تمحورت حول:
- التركيبة الطبقية للتكتل الحاكم و طبيعته الرجعية
- الطبيعة الطبقية لمكونات الحركة الوطنية و محدودية نضاليتها
- الطبقات الشعبية و الدور الطليعي للطبقة العاملة
- الحركة الثورية و النظرية الثورية
- الحزب الطليعي و الثورة الشعبية
- الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية على طريق الثورة الاشتراكية
- الثورة الاشتراكية على طريق المجتمع الشيوعي
- الإستراتيجية و التكتيك في عملية التغيير
- القضية الفلسطينية كقضية وطنية
- الربط الجدلي بين الوطني و العربي و ألأممي
ومن خلال الفحص النظري لهذه المحاور، و عبر الممارسة اليومية وسط الجماهير، و معايشة الواقع الحزبي بالنسبة للبعض، و معايشة الواقع الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي بالنسبة للجميع، فقد بادر العشرات من المناضلين الطليعيين في تشكيل الأنوية الأولى للحركة الماركسية اللينينية.
لقد اتضحت لنا داخل الحزب الشيوعي(حزب التحرر والاشتراكية) و بكل سهولة الطبيعة الإصلاحية للحزب، و انفضحت إستراتيجية قيادته الباحثة على التراضي بأي ثمن مع الحكم و التخلي عن الأهداف الثورية: صدور بيان لتدعيم النظام غداة انتفاضة مارس 1965، الذيلية المطلقة لقيادة الحزب الشيوعي السوفياتي ألتحريفي، التخلي عن اسم الحزب الشيوعي و تبني اسم حزب التحرر و الاشتراكية بدون نقاش قاعدي، و بدون تقديم العناصر الضرورية لتعليل ذلك الاختيار، تصريحات علي يعتة خلال محاكمته ( الدفاع عن الملكية، و الدين...)، مواقف متذبذبة من القضية الفلسطينية ( مساندة مشروع روجيرز الأمريكي بدون نقاش داخلي...)، إن هذه العناصر جعلت العشرات من المناضلين ينسحبون من الحزب، و ذلك بداية من أواسط الستينات ( مجموعات فاس بقيادة المرحوم حمامة، مجموعة مكناس بقيادة الكرفاتي...).
و قد توجت هذه الانسحابات بتنظيم لقاء وطني حضره ممثلو مختلف القطاعات الحزبية( الشبابية و العمالية، و الفلاحية...) تقرر من خلاله الانسحاب من حزب التحرر و الاشتراكية و ذلك بتاريخ 30 غشت 1970، و هكذا تشكل التنظيم الماركسي اللينيني الذي حمل اسم "تنظيم أ" ثم اسم" منظمة إلى الأمام"، و قد التحق بهذا التنظيم عشرات من المناضلين الذين كانوا يعملون خارج الإطارات الحزبية و من ضمنهم الشهيد عبد اللطيف زروال.
أما على مستوى "أ.و.ق.ش" فان الفوضى العارمة التي كانت تميز علاقته التنظيمية الداخلية، و الانقسامات التي كانت تمزق قيادته ( اتجاه قادة المقاومة و جيش التحرير بالخارج و امتداداتهم الثورية داخل المغرب من جهة، الاتجاه السياسي المعتدل الذي يتزعمه عبد الرحيم بوعبيد، من جهة ثانية، و الاتجاه السياسي- النقابي اليميني الذي يتزعمه عبد الله إبراهيم و المحجوب بن الصديق من جهة ثالثة...)، إذن هذه الوضعية لم تساعد المناضلين من تنظيم انسحابهم من الحزب، و هكذا ظهرت للوجود عدة مجموعات من أصل اتحادي ( مجموعات الرباط، مجموعة مراكش...) و توحدت أغلبيتها مع مجموعات انسحبت من حزب التحرر و الاشتراكية قبل 1970 و شكلت تنظيما ثوريا ماركسيا لينيني ( مارس 1970) حمل اسم "التنظيم ب" الذي تولد عنه من بعد تنظيمات: صوت الكادح (أخر سنة 1971- بداية سنة 1972)، لنخدم الشعب، 23 مارس، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الحزب الاشتراكي الديمقراطي...
الخلاصة
إن الحركة الماركسية اللينينية نتاج طبيعي لظروف موضوعية تميزت:
1- على الصعيد الوطني:
- بصيرورة إعادة الهيكلة الطبقية لمجتمع ما بعد 56 و ما صاحبها من تراكم الثروات في قطب و الفقر في قطب أخر.
- بتحصين ركائز مغرب التبعية للامبريالية
- بتصاعد النهب الاقتصادي و الاستغلال الطبقي، و الاضطهاد السياسي و الاجتماعي و الثقافي.
- بعجز أقطاب الحركة الوطنية في مواجهة سياسة التكتل الطبقي الرجعي.
- بتعدد البدائل: الفكر البلنكي-النخبوي (تجربة مارس 1973)، الفكر الانقلابي العسكري (يليوز 1971، غشت 1972)، الهرولة بدون شروط نحو قاطرة النظام (توجت بالمؤتمر الاستثنائي للاتحاد سنة 1975)، النضال الجماهيري الواعي و المنظم بقيادة الطبقية العاملة بوسيلة حزبها الشيوعي...
2- على الصعيد العربي:
- ببسط الامبريالية الغربية سيطرتها على العالم العربي عن طريق إسرائيل و الأنظمة الرجعية العربية، و الدركيين الإقليميين و على رأسهم إيران الشاه.
- بعجز الأنظمة القومية العربية في مواجهة السيطرة الامبريالية الصهيونية.
- ببروز المقاومة الفلسطينية كقوة فاعلة في المنطقة.
3- على الصعيد العالمي:
- بالتصدع الذي عرفته الحركة الشيوعية العالمية و هيمنة الأطروحات التحريفية السوفياتية.
- بذيلية جل الأحزاب الشيوعية العربية للحزب الشيوعي السوفيتي
- بامتداد الصراع بين الشعوب المضطهدة من جهة، و القوى الاستعمارية و الامبريالية من جهة أخرى.
وقد تميزت الحركة الماركسية اللينينية منذ نشأته بالاستقلال التام عن جميع الجهات، من الناحية السياسية و المالية، و ذلك رغم تبنيها الفكر الشيوعي و مساندتها لكل المقاومات الشعبية عبر العالم، و في مقدمتها كفاح الشعب الفلسطيني و نضالات الشعوب المضطهدة في إفريقيا و أسيا و أمريكا اللاتينية و تعاطفها مع كفاحات العمال بالدول الغربية.
الجزء الثاني: اعتقالات 1972
في اجتماع سري بالرباط حضره حوالي 40 مناضلي شيوعي يمثلون مختلف المناطق: مستخدمون، عمال، شباب...، تقرر الانسحاب من حزب التحرر و الاشتراكية و تأسيس تنظيم ثوري ماركسي لينيني (تنظيم "أ") و ذلك يوم 30 غشت 1970 ، تشكلت على اثر هذا الاجتماع "لجنة التنسيق الوطني المؤقتة", بعد أسابيع قليلة انسحب منها البعض و التحق بها ثلاثة مناضلين سيلعبون من بعد دورا حاسما في تجربة منظمة "إلى الأمام" (من ضمنهم الشهيد عبد اللطيف زروال).
شكلت سنة 1971 و بداية 1972 بالنسبة "للحملم" مرحلة مهمة في قيادة نضالات الشبيبة، و توسع نسبي داخل الطبقة العاملة، و بناء إطارات تنسيقية بين "أ" و "ب": بين القيادتين (كان عبد الحميد امين و الشهيد عبد اللطيف زروال يمثلان "أ")، و في قطاعات التلاميذ، و الطلبة، و الدعاية (مجلة "أنفاس"، "المناضل"...).
عقد تنظيم "أ" بالرباط ندوة وطنية (التي شكلت عمليا مؤتمره الأول) و ذلك يومي 31 دجنبر 1971 فاتح يناير 1972، تولدت عنها لجنة وطنية التي أفرزت أول كتابة وطنية مشكلة من 5 مناضلين: ابراهام السرفاتي، عبد الحميد أمين، عبد اللطيف زروال، عبد اللطيف اللعبي، و المشترى بلعباس.
شمل أول اعتقال تنظيمي أطر "صوت الكادح" بقيادة احمد حرزني (يناير-.فبراير 1972) و أحد قيادي "ب"، فالوقت الذي تمكن فيه معظم قيادي "ب" من مغادرة المغرب، و التحق الباقي بالسرية ، و لم يعتقل أي مناضل من "أ".
اثر بعض الأحداث التي عرفتها مدينة الدار البيضاء ليلة 3 مارس 1972 التي تصادف يوم "عيد العرش" (إحراق بعض الأقواس التي شيدت بالمناسبة و بعض صور الحسن الثاني التي "تزين" الشوارع...)، اعتقلت مجموعة بقيادة ابن مستشار الحسن الثاني (رفقة شبان من دواوير الصفيح بالبيضاء)، و انتقلت الاعتقالات لتشمل مجموعة "الوكالة الشعبية للأخبار" التي كان ينشط بها ابن المستشار المعتقل. و يتلخص دور "الوكالة" في جمع ثم تعميم (سريا) الأخبار المتعلقة بالنضالات الشعبية ؛ و قد شمل الاعتقال بعض مناضلي "أ" من ضمنهم عبد اللطيف اللعبي، عضو الكتابة الوطنية، و عبد الفتاح الفاكهاني عضو اللجنة الوطنية (سيصبح ابتداء من 1973 عضوا في الكتابة الوطنية)، مع إفلات السرفاتي من الاعتقال بدخوله إلى السرية. و الملاحظ أن هذه الاعتقالات لم تمس "أ" كتنظيم مما يعني أن كل مناضلي "أ" المعتقلين صمدوا تحت التعذيب.
بعد مرور المجموعة الأولى (مجموعة حرزني) عبر "دار المقري" بالرباط، و مرور الجميع عبر "درب مولاي الشريف"، زج المعتقلون بسجن "غبيلة" بالدار البيضاء.
اثر التوزيع الواسع لمنشورات مناهضة للنظام الملكي عشية فاتح ماي 1972، و اثر رفع شعارات مناوئة للنظام يوم فاتح ماي بمدينة مكناس، تمكنت الأجهزة القمعية من تفكيك جل خلايا تنظيم "أ" بمكناس، و أزرو، و خنيفرة؛ توسعت الاعتقالات لتشمل بعض الأطر بالقنيطرة، و الدار البيضاء، و بني ملال؛ و في إطار حملة القمع هذه تم اعتقال بعض التلاميذ من كرسيف و تازة. مر الجميع (بعد التعذيب في الكوميساريات المحلية) من جحيم "درب مولاي الشريف"، ليلتحق المعتقلون الجدد بسجن غبيلة، يوم 4 يليوز 1972.
كان عدد المتابعين خلال قمع 1972 (إن لم تخنني الذاكرة ) 81 مناضل اعتقل منهم 44 ، و ينتمي أغلب الفارين إلى تنظيم "ب" والى مجموعة "صوت الكادح"، لجأ جلهم إلى الجزائر و فرنسا.
كانت "مجموعة 1972" الماركسية اللينينية تتكون أساسا من المستخدمين، و التلاميذ، زيادة على بعض العمال و الحرفيين، و الطلبة و المثقفين، و من ضمنهم ممثل الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالمغرب، المناضل ابو دقة.
من أهم الأحداث التي عاشتها مجموعة "1972"
تعرف هذه المجموعة ب "مجموعة 1972" و ب"مجموعة محاكمة صيف 1973"، ويمكن تلخيص بعض الأحداث المرتبط بالمجوعة في النقط الآتية:
- بروز، و لأول مرة في المغرب، حركة "عائلات المعتقلين السياسيين" التي لعبت فيها النساء الدور الطليعي، و التي ستلعب دورا أساسيا في تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سنة 1979
- أول إضراب جماعي عن الطعام للمعتقلين السياسيين و الذي دام 32 يوما (دجنبر 72- يناير 73)، الإضراب الذي حددت له أهداف سياسية : فضح مختلف سياسات النظام المغربي، التعريف (عربيا و أوربيا) بالحركة الماركسية اللينينية المغربية...
- تهيئ محكم (عبر الورشات، و خلال شهور) للمحاكمة السياسية (صيف 73)، و قد تمكن مناضلو "أ" خلال المحاكمة :
+ من إبراز هويتهم الشيوعية
+ من فضح النظام كنظام طبقي رجعي
+ من التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني:فرضت داخل المحكمة دقيقة صمت ترحما على المناضل الفلسطيني، البوشيخي الذي اغتيل في أوربا في تلك الفترة....
و قد تراوحت الأحكام بين البراءة و 15 سنة سجنا نافذة.
نقل المعتقلون إلى السجن المركزي بالقنيطرة في فبراير 1974، و حلوا بحي "ج1" بعد إفراغه من الضباط المعتقلين اثر محاولة الانقلاب الأولي (10 يلبوز 1971) و ترحيلهم إلى جحيم تزممارت الذي توفي فيه أغلبهم في ظروف مأساوية.
يمكن تلخيص بعض الملاحظات المتعلقة بهذه التجربة الرائعة في النقط الآتية:
- - تنظيم حياة جماعية رائعة لم تعرف أي تصدع كبير رغم الاختلافات السياسية و الفكرية.
- استمرارية المقاومة من داخل السجن: التكوين السياسي و الفكري، متابعة ما يجري خارج الأسوار، إصدار البيانات... و بالنسبة لتنظيم "أ"/"إلى الأمام" فقد تشكلت قيادة داخل السجن ساهمت مع الكتابة الوطنية في البناء التنظيمي و اغناء الخط السياسي و الفكر للمنظمة.
- التدعيم المعنوي و المعرفي للتلاميذ المعتقلين الذين ابنوا عن صمود كبير.
- التعرف عن العديد من المجموعات الاتحادية، و التعايش الجماعي في أجواء نضالية و إنسانية رائعة.
- التعرف (ابتداء من شتنبر 1979) عن مكونات مجموعة "محاكمة يناير 1977" الماركسية اللينينية (كانت تضم جميع الفصائل)، التي كانت تخترقها تناقضات عميقة، و تتعايش في أجواء مشحونة بعدما تمكن النظام من استقطاب بعض عناصرها (و هي قليلة جدا)، هذه العناصر التي حاولت تشويه تجربة الحركة الماركسية اللينينية عامة و تجربة "إلى الأمام" الرائعة خاصة، و ذلك بعد خروجها من السجن و التحاقها بأجهزة الدولة (انظر الكتاب الصادر سنة 2009 عن المدعو الطريبق حول منظمة "إلى الأمام". فقد تقدم هذا الشخص للحسن الثاني بطلب العفو، و ربط علاقات وطيدة مع ريضا كديرة مستشار الحسن الثاني، و التحق بمصالح وزارة الداخلية بعد خروجه من السجن و أصدر (عن طلب) أخيرا كتابا حاول من خلاله تشويه تجربة نضالية رائعة، و مصداقية المناضلين الصامدين.
الخلاصة العامة
تعد الحركة الماركسية اللينينية المغربية بكل مكوناتها نتاجا طبيعيا للواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الذي كان سائدا خلال أواخر الستينات و بداية السبعينات، فهي مولود طبيعي من رحم الصراع الطبقي بالمغرب.
لم تنحاز منظمة "إلى الأمام"، المكون الرئيسي للحركة، بشكل أعمى إلى الأطروحات "الماوية" أو "استالينية" أو "التروتسكية"...لقد شكلت الشيوعية مرجعيتها الإيديولوجية العامة و بوصلتها في تحديد الأهداف الإستراتيجية، و شكل واقع التشكيلة الاجتماعية و الصراع الطبقي بالمغرب مصدر مواقفها السياسية و النضالية.
يمكن تركيز "سر" صمود و استمرارية منظمة "إلى الأمام"/"النهج الديمقراطي"، رغم القمع، و تراجع المد الشيوعي، و انحصار الكفاح التحرري عبر العالم، و الارتدادات المحلية في:
- التسلح بفكر ماركس و انجلز و لينين و بإسهامات ماو تسي تونغ
- الاستحضار الدائم لتاريخ المقاومة الشعبية المغربية الرائعة ضد الدولة المركزية المخزنية، ضد الاستعمار، ضد الطبقات الرجعية المحلية...
- الاستفادة من تجارب الحركة العمالية العالمية ضد الرأسمالية و مقاومة الشعوب للامبريالية و الرجعية
- الاستحضار الدائم لكفاح الطبقة العاملة المغربية منذ الثلاثينات من القرن العشرين
- الاستقلالية التنظيمية و السياسية و المالية عن مختلف التيارات الماركسية العالمية و هذا لا يتناقض تماما مع التضامن الأممي في مواجهة الرأسمالية والامبريالية و الصهيونية و الرجعية بمختلف تلاوينها عبر العالم.
- إن الارتباط/الاهتمام بقضايا الجماهير الشعبية عامة و بقضايا الكادحين خاصة هو الذي يشكل بجانب مستوى الوعي و التنظيم و موازين القوة الواقع الذي يحدد تكتيكاتنا... مما يختلف عن الانطلاق من تصورات ميتافيزيقية مسبقة و من نصوص "مقدسة" لا تتغير في الزمان و المكان كالكتب الصفراء "السماوية".
- "الليونة في اتخذ المواقف و الصرامة في التطبيق" انطلاقا من المقولة اللينينية "التحليل الملموس للواقع الملموس".
- الانخراط في مختلف جبهات الصراع ضد الحكم الرجعي:السياسية، النقابية، الحقوقية، الفكرية، الاجتماعية
- انفتاح "إلى الأمام "/ "النهج الديمقراطي" على كافة مكونات الحركة التقدمية و على الفعاليات المناضلة على أساس مبدأ الوحدة – النقد – الوحدة
- تربية المناضلين و المناضلات على الصمود و التضحية و التفاني في الممارسة