يستيقظ صباح أخر من ولهٍ؛ مترع بالحنين الحَذِر، يغسل وجهه من الجثث بأمل موجع، يتساءل كلّ إشراقة: كيف للحياة بعد أن تستمر؟
يستيقظ وجه دمشق متعباً خاوياً ضاجاً بالسّيارات.
أستيقظ منهكة من أرق ليلة فائتة ككلّ صباح.
تهمّ أقدامي بالمغادرة، وقلبي المتأرجح يأبى السّفر إلى المدينة المضمّخة بالفجائع؛ برائحة الأجساد المتهالكة، وعيون أطفالها المغمضة بين تفاصيل مجزرة وأخرى .
على امتداد الطّريق القَلِق المعلق بين الحياة والموت نسير إلى المدينة السّاهدة في أوجاعها، كأنّها وحدها خارج الأسراب جميعها.
لا تغرّد فلا حنجرة تنطق ألمها.
لا تحلق، ولو قليلاً هذا الصّباح، فلا أجنحة تقوى على حمل جسد هزيل؛ أثقلته جثث القتلى والضّحايا.
الهوينى أيّها الطريق..
الهوينى، فلا ليل يحضن وجع الأحلام المكبلة بالضّياع، فقط حنين تتكئ عليه الذّاكرة بين صحوتين من دمار وغفوة أرهقتها الأيّام.
لا شمس تصح ومن الهلع المتهدّج في خطّ والانتظار
لا فرحة تواسي الأحزان المغلولة بالبؤس والغياب
لا شيء يختزل العمر المهشم بالفجائع، أو يرطب الملح المتعطش للدّم.
أتوقف أمام إحدى الحواجز مبخّرا اللاءات التي أهذي بها والعوالم التي أسافر إليها، وكأنّي لوهلة نسيت أين أنا! ومن أنا! حين سألوني عن هويتي ووجهتي.
على امتداد الدّمار والخراب نواصل السّير، نسابق المسافة التي تفصلنا عن موت سريع ومؤجّل ما بين الرّصاص والقذائف، نسابق المسافة وتسابق المدينة الثّكلى الأفكار إليّ، لكنّها لا تسابق القدر، لا تجرؤ على مراوغته خشية أن يأتيها مباغتاً حاداً .
هي رغم كلّ القهر الذي تكابده لا زالت تخشاه.
يوقفنا حاجز ثانِ وثالث ورابع و...
لا تتوقف ذاكرتي عن الغوص في تفاصيل الطّريق الذي اقتادتني به سيارة الشّرطة العسكريّة؛ لأخرج بعدها من سجن حمص المركزي العام الفائت؛ بتاريخ هذا اليوم نفسه، الذي أعود به إليها.
على امتداد الروح المسجّاة في الغياب بكل عجز يكبلها، بكل عجز يبدّد عمرها المختزل بالأيّام، لم تعد حمص تمارس طقوس البكاء على جراحها النازفة مع كل هبوب للذاكرة المكتظة بالمآسي.
على امتداد أسري الطفولي بين دمشق وقريتي المستترة خلف الحياة، بين سفحين من زيتون وتفاح، أمضي وقلبي يتشتت مع ذاكرة الطّريق الخاوي من الحركة والمتقطّع بالحواجز فلا محطّة ترتاح بها الأرواح المسافرة من موت لآخر؛ والرّصاص يتربّص حتّى بالنّسمة العابرة.
كأعقاب السّجائر يمجّنا الخوف والموت شهقة شهقة.