بعد يوم عمل مرهق، وبعد الغروب بقليل، نزلت من دارة الإذاعة وأنا أحذو نحو النهر، أستقللت الأوتوبيس النهري، بواسطته عبرت إلى الضفة الغربية، ومن هناك واصلت السير حتى محطة (الملك جورج) لكي أستقل الحافلة التي ستوصلني عائدة إلى بيتي، أو كما أدعوه (عشّي ومملكتي).
لم تتبنني الطريق التي سلكتها بسرعة، ولم أتبنَ وجوه المشاة المسرعين، بل تبنتني حالة خاصة ألمّت بي، حالة ما لم أفهم كنهها، وهي حالة استرجاع ذاكرة، أو لنقل، العودة إلى بؤرة الذكرى التي لم تنسني ولم أنسها بمجرد أن وقعت عيناي على إحدى الفتيات التائهات، فتاة في مقتبل العمر تنتظر من يرشدها إلى رقم الحافلة التي يجب أن تقلها حيث عنوان سجلته على قطعة خشبية، بل حفرته حفرا فبدت الحروف المنقوشة بحالة أقرب إلى الرسم.
يا لهذا المسلسل الذي يتجلّى فجأة داخل لباب عقلي، فيعيدني إلى فترة ما من مراحل حياتي الدراسية، المكان في منطقة هادئة قريبة من مدينة فلسطينية معروفة، وتلك الضيعة الريفية التي تتوسط الطريق المؤدي إلى أرض السهول الواسعة، حيث تلقيت دراستي، انتشرت في المكان بيوت خشبية متفرقة مسيجة بالأشجار المخضرة، متراصة على طول الطريق، وحتى المحطة التي نزلت فيها مترجلة شيّدت بالأخشاب التي أقتطعت من أشجار الكينا، المقعد داخل المحطة أخذ شكل المستطيل، السقف طارد، الأعمدة طويلة وملساء، وحتى صناديق البريد صنعت من الخشب.
رغم كرهي للدراسة في المعهد حينها، أحببت المكان كثيرا، رغم خذلاني من انضمامي له فرحت، أذكر أني لم أشعر أبدا بالإنتماء إليه، فعندما قررت الانطواء على نفسي أثناء الاستراحات لجأت إلى أشجار الجوز حيث منطقة منعزلة داخل أسوار المعهد بصحبة كتاب مطالعة، تلك التي رمت ثمارها بالعشرات تحت قدميّ، لم أذكر أني كسرت إحداها والتهمت ما بداخلها، لكني أذكر جيدا تلك المرأة السمينة، الشقراء التي أتت من أوروبا، لم تتقن اللغة جيدا، فعبرت عما يجيشه قلبها عن طريق العزف على البيانو، جرجتني بعزفها نحو بيتها المصنوع من الخشب أيضا، خطوة، خطوتان ثم ثلاث وأصبحتُ داخل منزلها المكون من طابقين، ممتليء بالتحف المصنوعة من الخشب، واكتظ أيضا باللوحات الخشبية المعلقة على الجدران التي نقشت داخلها رموزا رائعة لم أستطع قراءتها، رموزا نحتتها بنفسها، بلغتها الأم.
استمرت المرأة بالعزف واستمررت أنا بانشداهي وصمتي، أصغي إلى (موزارت) بينما أراقب شموخها الجالس على كرسي بلا ظهر، خشبي مبطن، أتتبع أناملها التي انتقلت سريعا بين أصابع الآلة البيضاء، انتشر الصوت الراقي وأخذني إلى عالم الخيال الفسيح، احتل مسامعي فبكيت، ترقرقت عيناي بدموع سخية، منذ ذلك الحين وأنا أسأل نفسي كيف لي من تحقيق أحلامي المؤجلة، وكيف لي اللجوء إلى بعض سعاداتي، سررت باللقاء، فكان بالنسبة لي الثروة العظيمة، أسميته (لقاء الصدفة)!
نقرت ونقرت والموسيقى الشجية تتصاعد بسخاء في الأنحاء، كما أشعر الآن بالذات، لقد بدأت الذكريات تتصاعد مثل دخان في الأجواء، دخان جميل يتصاعد فيرتج له العقل.
بعد ذلك اليوم لم أعد أبحث عن خريطة لأحلامي وعن كيفية تحقيقها، بدأت أحلامي تتحقق وحدها، ودواخلي تتحدث عن نفسها بمهارة، ودموعي الشجية التي فضحتني في يوم ما، أدعها تنهمر دون خجل، أتذكر وصيتها، وصية تلك المرأة التي أقامت بيتا خشبيا ملاصقا للمعهد الذي ذهبت إليه مرغمة للدراسة، تلك التي حفزتني على الاستمرار، شجعتني بالمضي قدما، ودربتني على الخشوع كلما استمعت إلى الموسيقى، في يوم ما توقفت عن العزف وقالت:
- لا تترفعي عن البكاء، فهذا الدّمع السّخي يدلّ على شخصية سخية لديها ما تعطيه!
بردت الأرض تحت قدميّ، تباطأت خطواتي السريعة وتوقفت أمام اللوحة الخشبية التي قبضت الفتاة عليها بيدها، تلك التائهة، أمعنتُ النظر فيها، أنصتُ إليها جيدا عندما بدأت تسرد لي قصة اللوحة وهي تلوّح بها يمنة ويسرى، وأخيرا قالت:
- أبحث عن عنوان غير موجود، لأني ما زلت أبحث عن نفسي!