قوى لاثنين
(*)ربما يكون التزاوج الأحادي
(1) هو أفضل حركة تقدمية أقدم عليها أجدادنا.
باختصار حتى في المجتمعات التي يُسمح فيها بالتزاوج المتعدد(2)، فإن التزاوج الأحادي(3) هو التنظيم البشري الأكثر شيوعا حتى الآن. وفي هذا الصدد، فإننا نُعدّ كحيوانات غير معتادة إذ إن أقل من 10 في المئة من الثدييات يكوّن علاقات جنسية مفردة غير متعددة. أما كيف وصل البشر إلى هذا الطريق، فقد كان ذلك لعقود من السنين موضوعا للجدل العلمي، و مازال الأمر مفتوحا للتساؤل، لكن البحث العلمي في طريقه لإيضاح الأمور. نحن نعرف الآن أن أشباه البشر(4) الأوائل، الذين برزوا إلى الوجود قبل أكثر من سبعة ملايين سنة كانوا في الأغلب أحاديي الأزواج، ولقد بقي معظم البشر وحيدي الأزواج لسبب وجيه: لقد ساعدهم ذلك على أن يتطوروا إلى عالم من كبيري الأدمغة المنتصرين الذين هم عليه اليوم. |
إن التزاوج الأحادي ليس أمرا تحبه الثدييات. ففي أقلّ من عشرة في المئة من أنواعها يكتفي الزوجان بممارسة الجنس فيما بينهما فقط. وجناح الرئيسيات(5) من هذه المجموعة أكثر ميلا بقليل إلى التزاوج. ومع أن 15 إلى 29 في المئة من أنواع الرئيسيات تفضل العيش سويا كأزواج، إلا أن عددا أقل بكثير منها يلتزم بالتزاوج الأحادي(1) كما يعرفه البشر - وهو علاقة جنسية حصرية بين فردين.
فمن الواضح أن البشر لديهم سجل غير مثالي لحياتهم. فهم يقيمون علاقات جنسية و يقومون بالطلاق والتزاوج برفاق متعددين في بعض الثقافات. وفي الحقيقة، فإن التزاوج المتعدد(6) يظهر في معظم مجتمعات العالم. إلا أنه، وحتى في المجتمعات التي تسمح بهذا التزاوج المتعدد، فإنه الأقل حدوثا. حيث ينتظم معظم المجتمعات البشرية على فرضية أن جزءا كبيرا من سكان المجتمع سوف يتزاوج في صورة علاقات جنسية مستدامة وحصرية. ويبدو أن التزاوج الأحادي كان خيرا على نوعنا. فقد كانت «روابط الزوجين(7)»، كما يسمي العلماء علاقات التزاوج الأحادي، تأقلما مصيريا ظهر لدى جدٍ عتيقٍ لنا وكان ضروريا وأساسيا للنظم الاجتماعية البشرية ولتطورنا الناجح. «وإن لنا ميزة كبيرة عن العديد من أنواع المخلوقات الأخرى لأن لدينا روابط زوجين،» كما يقول <B. شاپيز> [عالم الأنثروبولوجيا في جامعة مونتريال].
ويشكل التزاوج الأحادي أيضا الأساس لأمر فريد في الإنسان – وهو الشبكات الاجتماعية الواسعة والمعقدة التي يعيش فيها. ويؤسس صغار الرئيسيات الأخرى روابط قرابة عن طريق أمهاتهم فقط. أما البشر، فيستقصون قراباتهم عن طريق الوالدين كليهما، وبذلك يوسّعون الروابط الأسرية عند كل جيل. وفيما بين البشر تتسع الشبكات الاجتماعية لتستوعب عائلات أخرى وحتى مجموعات لا علاقة لها بها، وبذلك تتسع موجات القرابة بين البشر. وفي رأي <شاپيز>، فإن مثل هذه الروابط بين المجموعات، إضافة إلى التزاوج الأحادي، يشكلان اثنين من أكثر الملامح أهمية للمجتمع البشري.
وعلى مدى عقود من الزمن كافح العلماء لكي يفهموا أصول ومضامين التزاوج الأحادي عند البشر. فلاتزال التساؤلات الأساسية مثل: متى بدأنا بالتزاوج مدى الحياة ولماذا كان ذلك مفيدا ولماذا كان التزاوج دافعا مشجعا لنجاحنا كنوع؟ وهذه التساؤلات كلها بقيت غير محلولة ومجالا للجدل، ولكن البحوث الحديثة قد جعلتنا أقرب إلى حلّ هذا السر الخفي.
أصول التزاوج(**)
من المحتمل كثيرا أن أسلافنا الأوائل كانوا أحاديي التزاوج. ويقول <O .C. لڤجوي> [عالم الأنثروبولوجيا من جامعة ولاية كِنت] إن الدلائل الأحفورية توحي أن التزاوج الأحادي قد سبق حتى إنسان «أردي پيتيكوس راميدوس(8)،» وهو النوع الذي تم التعرف عليه من جزء من الهيكل العظمي لأنثى عاشت قبل 4.4 مليون سنة ولقّبت ب «أردي»(9) وتم اكتشافه في منطقة عواش الوسطى(10) بأثيوبيا. وبحسب فرضية <لڤجوي>، فإن أجدادنا فور انفصالهم وتطورهم، من الجدّ المشترك، عن كبار القردة منذ ما يزيد على سبعة ملايين عام تبنوا ثالوثا تحوليا من السلوك تضمن: حمل الغذاء بالساعدين بعدما تحرروا بأخذ وضعية الانتصاب على قدمين وتشكيل روابط زوجية وستر العلامات الظاهرة التي تُظهر الإباضة(11) عند الأنثى. وبتطورها معاً، أعطت هذه الابتكارات أشباه البشر، وهم القبيلة التي ظهرت مبكرا عندما تفرع البشر الأوائل عن الشمبانزي، ميزة إنجابية عن القرود.
وبحسب هذه النظرية فقد تمّ استبدال نظام التزاوج المتعدد بارتباط الزوجين(12) عندما حوّل ذكور أشباه البشر ذوو الرتبة المنخفضة طاقاتِهم من قتال بعضهم البعض إلى إيجاد الطعام للحصول على إناث للتزاوج كمكافأة لهم. فقد فضلت الإناثُ المعيلين الموثوقين على المتنافسين العدوانيين وارتبطن بمن هو أفضل إطعاما. وفي النهاية، فقدت الإناث الانتفاخات الجلدية والعلامات الأخرى التي تدلّ على التقبّل الجنسي والتي قد تثير وتجذب ذكورا مختلفين في الفترات التي يكون فيها شركاؤهن بعيدين لجمع الطعام.
ويشير <لڤجوي>، كبينةٍ إلى أسنان «أردي راميدوس»، فإذا قورنت بمثيلاتها في القرود الحية الآن وفي قرود الأحافير، فإن هذه الراميدوس تبدي تناقصا كبيرا في الفرق في حجم الأنياب بين الذكور والإناث. فقد سنَّ التطور الأنيابَ التي تشبه الخناجر للعديد من ذكور الرئيسيات ليحولها إلى أسلحة رهيبة تستخدم في الوصول إلى القرائن الإناث. ولم يكن الأمر كذلك في أشباه البشر الأوائل. صوّرْ أنياب غوريلا ذكر فاغرا فمه ثم ناظره بما في داخل فمكَ، فستجد أن لدى البشر من كلا الجنسين أنيابا صغيرة وثخينة، وهي صفة غير مهددة فريدة في أشباه البشر بما فيهم العينات المبكرة المأخوذة من هيكل «أردي پيتيكوس».
وهناك ارتباط مبدئي بين سلوك التزاوج في الرئيسيات وبين ازدواجية الشكل الجنسي(13) - أي الاختلافات بين الذكور والإناث من النوع نفسه في كتلة وحجم الجسم. فكلما زادت ازدواجية الشكل في أحد أنواع الرئيسيات، زاد احتمال أن تتقاتل الذكور من أجل الإناث. وعلى أحد طرفي النقيض، تنمو ذكور الغوريلا المتعددة الزيجات حتى تغدو أكثر من ضعف حجم الإناث منها. وعلى الطرف الآخر المقابل، يتساوى تقريبا حجم الجسم بين الذكر والأنثى في قردة الگيبون gibbons وهي وحيدة الزيجات بصفة أساسية. أما البشر، فموضعهم أقرب إلى الگيبون وذلك في مدى ازدواجية الشكل: فذكور البشر قد يكونون أكبر كتلة من الإناث بنسبة قد تبلغ 20 في المئة.
وهناك فقط الكثير جدا مما يمكننا أن نصنعه من سجلات الأحافير؛ إلا أن <M .J. پلاڤكان> [عالم أنثروبولوجيا الحفريات(14) من جامعة أركانساس] يلحّ على الحذر من القفز من العظام الأحفورية إلى السلوك الاجتماعي لأشباه البشر. لنضع في الاعتبار أحفورية «أوسترالوپيثيكس أفارنسيس(15)» وهي النوع الذي تنتمي إليه «لوسي»(16) Lucy التي عاشت قبل ما بين 3.9 مليون وثلاثة ملايين سنة. ومثل أردي پيتيكوس، فإن A. أفارنسيس كانت لها أنياب صغيرة ولكن هيكلها العظمي أبدى مستوى من ازدواجية الشكل يقع ما بين قرود الشمبانزي الحديثة والغوريلات. ويقول <پلاڤكان>: «عندكَ درجة من ازدواجية حجم الجسم ترجح أن ذكور A. أفارنسيس كانوا يتسابقون على الإناث، كما ترجح ازدواجية شكل الأنياب بأنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، إنها أحجية.»
ويعارض عديدٌ من علماء الأنثروبولوجيا استنتاجَ <لڤجوي> بأن التزاوج الأحادي الذي نما بقيام الذكور بمد الطعام إلى قريناتهم وإلى نسلهم كان استراتيجية لأشباه البشر لملايين السنين. ففي عام 2013 وفي مجلة «علم الأنثروبولوجيا التطورية» جادل <شاپيز> في أن المعالم الفريدة للعائلة البشرية وللبنية الاجتماعية (التزاوج الأحادي وروابط القرابة من خلال كل من الأبوين والدوائر العائلية المتمددة) قد برزت بشكل تدريجي ومتتالٍ. فقد قال <شاپيز>: قبل الخطوة الأولى، كان أشباه البشر ذكورا وإناثا مثل قردة الشمبانزي كثيري الخلط بين الشركاء من الجنسيين ثم جاء التحول إلى التزاوج المتعدد الموجود عند الغوريلا. ولكن الاحتفاظ بالعديد من القرينات عمل شاق. إنه يتضمن الكثير من الاقتتال مع ذكورٍ آخرين مع المحافظة على الإناث. فربما أن التزاوج الأحادي قد برز كأفضل وسيلة لإنقاص جهود التزاوج المتعدد.
ويأبى <شاپيز> أن يخمّن متى حدثت هذه النقلة وأي نوع تضمنته. لكن باحثين آخرين يركزون اهتمامهم على الفترة الزمنية ما بين مليوني سنة و1.5 مليون سنة عقب ظهور جنسنا البشري هومو(17) وبالتزامن مع التغيرات الجسدية التي ظهرت في الإنسان المنتصب(18)، وهو غالبا أول نوع من أشباه البشر ينجح في الهجرة خارج إفريقيا. لقد أظهر الإنسان المنتصب جسما أكبر بكثير متناسبا بدرجة أكبر مع الإنسان الحديث أكثر منه مع أسلافه. وهذا الإنسان الذي بلغ حجمه تقريبا ضعف حجم نوع «لوسي» يبدو أيضا أنه أقلّ في ازدواجية الشكل الجنسي من أنواع الأوسترالوپيثيسنس(19) وغيرها من أقدم أفراد جنس الهومو. وهناك دليل محدود من الأحفوريات يشير إلى أن إناث الإنسان المنتصب قد بدأت بالاقتراب من البنية الجسدية للذكور وبأن تمتلك درجة مشابهة من ازدواجية الشكل كما في البشر المعاصرين، وهذا كله قد يقترح أن الإنسان المنتصب كانت له طريقة حياة أقلّ تنافسية من أسلافه. ونظرا لأن الرئيسيات ذوات الأحجام المماثلة تميل إلى التزاوج الأحادي، فإن هذا التغير ربما يشير إلى انتقالٍ نحو سلوك تزاوجي حصري.
|
ذكر غوريلا الجبل ذو الظهر الفضي يقود قطيعه في رواندا (في اليمن). فصائل الغوريلا، وهي متعددة الزيجات، تعيش في مجموعات صغيرة تتكون من ذكرٍ مسيطر واحد و العديد من القرينات الإناث والأبناء. |
شراكة استراتيجية(***)
وإذا لم يتمكن العلماء من الاتفاق على متى صار البشر وحيدي التزاوج، فقد لا نستطيع أن نتوقع منهم أن يتفقوا على سبب حدوث ذلك. ففي عام 2013، نشر فريقان بحثيان مستقلان دراساتٍ احصائية منفصلة لما تم نشره في هذا الصدد لتحديد أنماط السلوك الدافعة إلى التزاوج الأحادي. فقد استهدفت الدراستان تحديد أفضل تفسير إلى التزاوج الأحادي من بين ثلاث فرضيات باقية عُرفت بصفة عامة بالتباعد الأنثوي(20) وبتحاشي قتل الأطفال(21) وبعناية الذكر بالولدان(22).
وتطرح فرضية التباعد الأنثوي أن التزاوج الأحادي يظهر بعدما تتمكن الإناث من تأمين أراضٍ أوسع للحصول على المزيد من موارد الطعام، وخلال هذه العملية يتم وضع مسافات بين الواحدة والأخرى. وعندما تتباعد المسافات بين الإناث يواجه الذكور أوقاتا أصعب للحصول على العديد من القرينات وللمحافظة عليهن. كما أن الاستقرار مع شريكة واحدة يجعل الحياة أسهل كما يُنقص من خطر إصابة الذكر بأذى أثناء حراسته أراضيه، كما يمكّنه من التأكد من أن نسل قرينته هم من صلبه بالذات.
لقد وجد عالِما الحيوان <D. لوكاس> و <T. كلاتون-بروك>، كلاهما من جامعة كمبريدج, بيّنة لهذه الفكرة بواسطة تحليل إحصائي ل 2545 نوعا من الثدييات. فقد وصفا نتائجهما في مقالة نُشرت في مجلة ساينس(23). وأظهرت لهما البيانات أن الثدييات بدأت وجودها وحيدة ومنعزلة ولكن بعد ذلك انتقل نوع أو آخر منها إلى التزاوج الأحادي 61 مرة مختلفة خلال تاريخها التطوري. وغالبا ما ظهر التزاوج الأحادي فيما بين أكلة اللحوم والرئيسيات؛ مما يقترح أن هذه الأنواع تميل إلى التزاوج عندما تحتاج إناثها قوتا غنيا ولكنه نادر (مثل الجثث الغنية بالبروتين والفواكه الناضجة) التي يمكن الحصول عليها عادة فقط بعد التفتيش عنها في مساحات واسعة من الأرض. لقد قدمت نتائجهما أقوى دعم إحصائي على الاستنتاج بأن تزايد الإناث المشتتة والمنعزلة قد دفع الذكور إلى أن يجتذبوا شريكات أحاديات.
يقرّ <لوكاس> بأنه مع أن هذه النظرية قد تصلح بالنسبة إلى غير البشر إلا أنها قد لا تكون كذلك بالنسبة إلى البشر: إذ تصعب المواءمة ما بين السِّمة الاجتماعية اللصيقة للبشر مع فرضيةٍ تعتمد على نقص كثافة الإناث المتوفرة. ربما أن أسلافنا كانوا أكثر اجتماعية كي يتركوا الإناث تنتشر عبر السهول مثل غيرها من الثدييات. لكن من المحتمل أن تنطبق هذه الفرضية على البشر إذا كان التزاوج الأحادي قد ظهر في أشباه البشر قبل أن يظهر ميلنا نحو السكن في مجموعات متجاورة.
وتعتبر النظرية الفرضية الرئيسية الثانية أن التزاوج الأحادي نشأ عن خطر البطش القاتل الذي قد يتعرض له النسل. فإذا تحدّى ذكرٌ منافسٌ أو أزاح ذكرا مسيطرا في مجموعة ما، فإن الغاصب قد يقتل الأطفال جميعهم الذين لم ينجبهم هو. وتتوقف الأمهات عندها عن الإرضاع وتبدأ بالإباضة ثانية لتعطي الذكرَ المُغير(24) الفرصة كي ينشر جيناته. ولتحول دون قتل أولادها فقد تختار الأنثى ذكرا قد يحميها ويحمي طفلها.
ويذكر <K. أوپي> [عالِم الأنثروبولوجيا من كلية جامعة لندن(25)] دليلا على فرضية تحاشي قتل الأطفال في دراسة نشرها في مجلة «تقارير الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية (26)». وقد قام <أوپي> وزملاؤه بإجراء محاكاة باستخدام الحاسوب لتاريخ تطور الرئيسيات متضمنا 230 نوعا منها، ثم قاموا بتطبيق ما يدعى «التحليل الإحصائي البيسياني(27)» لتحديد أيٍّ من الفرضيات الثلاث السائدة لأصل التزاوج الأحادي كان لها أعلى احتمال بأن تكون صحيحة. لقد أظهروا ارتباطا معنويا بين التزاوج الأحادي في الرئيسيات وكل من الدوافع الفرضية الثلاثة، ولكن كان دافع ازدياد خطر قتل الأولاد هو فقط الذي سبق بشكل ثابت ظهور التزاوج الأحادي في سلالات متعددة من الرئيسيات.
وتضيف بيولوجيا الرئيسيات الحديثة وسلوكها بعض المعقولية على استنتاج أن قتل الأطفال هو دافع لأحادية التزاوج. وتتفرد الرئيسيات بكونها عرضة لخطر قتل الأطفال: حيث إن لها أدمغة كبيرة تحتاج إلى وقت طويل كي تتطور؛ مما يجعل المواليد معتمدين على الغير ومُستهدفين لآماد طويلة بعد ولادتهم. وقد لوحظ قتل المواليد في أكثر من 50 نوعا من أنواع الرئيسيات، ويتضمن ذلك في الغالب مهاجمة ذكر من خارج المجموعة لوليد رضيع بقصد السيطرة أو للوصول إلى الإناث. إلا أن هناك محدودية لهذا الدليل: إذ إن معظم هذه الأنواع لها أنظمة تزاوج عشوائي أو متعدد؛ مما يعني أن انتشار قتل الأطفال بين الرئيسيات الحية لا يتلاءم مع فرضية أن التزاوج الأحادي يجب أن يظهر حينما يغدو قتل الأطفال تهديدا كبيرا.
|
قردة آزارا البومية الشكل(28) من أمريكا الجنوبية هي أحادية التزاوج بشكل كامل مع قيام الأب بمعظم العناية بالطفل. |
وأما الفرضية الثالثة حول التزاوج الأحادي، فترتكز على أن الذكر أخذ يقرر القيام بواجباته الأبوية. فعندما يغدو الوليد عالي التكلفة من حيث السعرات الحرارية والطاقة كي تتمكن الأم من تنشئته، فإن الأب الذي يبقى مع العائلة ليؤمن الغذاء وغيره من أشكال رعاية العائلة يزيد بذلك من احتمالات بقاء النسل على قيد الحياة ويشجع على قيام روابط قوية مع الأم. فهناك فكرة ذات صلة يقترحها <L. گيتلر> [عالم الأنثروبولوجيا من جامعة نوتردام] أن مجرد حمل الآباء لصغارهم ينمّي أحادية التزاوج؛ إذ إن على الأمهات تأمين المطالب الغذائية الكبيرة للوليد الرضيع. ولكن بالنسبة إلى الرئيسيات والبشر الصيادين الجامعي الثمار فإن حمل المولود، خصوصا من دون استخدام حمالة أو أداة تحكم أخرى، يتطلب طاقة قد تماثل الإرضاع من الثدي. كما أن حمل المولود من قبل الأب قد يحرر الإناث لإتمام حاجاتها الحيوية عن طريق الصيد وجمع الثمار(29).
وقد تقدّم قردة آزارا البومية الشكل(28) في جنوب أمريكا استبصارا للكيفية التي بواسطتها تقوي الرعاية الأبوية أحادية التزاوج. فهذه القرود تعيش في مجموعات عائلية صغيرة تتألف من زوجين ذكر وأنثى بالغين مع مولود صغيرٍ وطفل أو اثنين يافعين. وتحمل القردة الأم وليدها على فخذها بعد الولادة. إلا أن الأب يقوم بمعظم حمل المولود ورعايته من تنظيف ومداعبة وإطعام بعد أن يكون عمره أسبوعين. ويبقى الشريكان البالغان على اتصال متكرر. هذا وإن مجرد بقاء الذكر بقرب الأنثى ووليدها يقوّي روابط عاطفية بينهما أكثر عمقا.
وفي الحقيقة، قدّمت دراسة نُشرت في الشهر 3/2014 في مجلة “تقارير الجمعية الملكية B “ دليلا جينيا على أن قرود آزارا البومية الشكل تحافظ على أحادية التزاوج – وهو الإثبات الجيني الأول لأي نوع من الرئيسيات غير البشرية. وأظهر فحص الدنا DNA للعديد من المجموعات تحت الدراسة أن الإناث كلها والذكور كلهم، باستثناء ذكر واحد، في 17 زوجا، كانوا الآباء الأكثر احتمالا ل 35 من نسل المجموعة. ويقول عالم الأنثروبولوجيا <E. فيرناندز-ديوكي> وهو الآن في جامعة يال وهو المؤلف المشارك في هذه الدراسة: «إنهم يسلكون الطريق نفسه بكامله ويلتزمون بعلاقة التزاوج الأحادي وفقا للتعريف الجيني لها». وتدوم روابط التزاوج ما بين قردة آزارا البومية الشكل تسع سنوات في المتوسط، والقردة التي تمكث مع الشريك نفسه تحقق نجاحا أعلى في الإنجاب، وهو نهاية مباراة التطور من خلال أي نظام تزاوجي mating system.
ماذا على الدراستين الإحصائيتين الحديثتين أن تقولا حول فرضية العناية الأبوية(30)؟ لقد استنتجت الدراستان أن عناية الآباء بأبنائهم هو الاحتمال الأضعف بين جميع النظريات الفرضية المتنافسة لتحفيز التزاوج الأحادي - ولكن، كما يقول <لوكاس>: «قد تظل العناية الأبوية لتفسر لنا لماذا يبقى النوع أحادي التزاوج.»
الأمر يحتاج إلى قرية(****)
تقول [عالمة الأنثروبولوجيا من جامعة كاليفورنيا في ديڤيس] إن مجموعة من الآباء الأحادي التزاوج لا تكفي لتربية قرد ذكي واجتماعي مثل الإنسان. فالرضيع من البشر يستهلك قرابة 13 مليون سعر حراري (كالوري) خلال رحلته منذ الولادة وحتى البلوغ، وهو عبء ثقيل لكي تتحمله أمٌّ حتى مع مساعدة قرين لها. وربما يفسر لنا هذا الاحتياج لماذا تعتمد الأمهات من البشر، في العديد من المجتمعات، على آباء آخرين(31) (مثل أقارب أحد الوالدين أو غيرهم من أعضاء المجموعة العائلية) ليساعدوهن على إطعام الطفل والعناية به. وتلاحظ <هردي> أن أمهات البشر على استعداد بأن تدع الآخرين يقومون برعاية أطفالهن منذ الولادة. وهذا أمر عجيب وهو بالتأكيد لا يشبه أبدا الحال مع القرود. إذ لا ترضى أية قردة أن تشارك في أي شيء مثل الآباء الآخرين.
وتعتقد <هردي> أن التربية التعاونية(32)، وهو نظام اجتماعي يساعد فيه الآباء الآخرون على العناية بالصغار، قد تطور فيما بين أجدادنا القدماء بداية من الإنسان المنتصب منذ ما يقرب من مليوني عام. وقد كان لهذا النوع من المخلوقات جسد ودماغ أكبر بكثير من أجداده الأقدمين، ففي أحد التقديرات احتاج جسم الإنسان المنتصب إلى زيادة 40% من الطاقة الاستقلابية لكي يعمل وذلك مقارنة بسابقيه من أشباه البشر. فإذا شرع الإنسان المنتصب في طريقه مثل بقية البشر بأن يتأخر تطوره ويطول أمد اعتماده على الغير، فإن الآباء الآخرين المتعاونين ربما كانوا مطلوبين لدعم احتياجات الطاقة اللازمة لتنشئة مواليد ذوي أدمغة أكبر حجما.
ومن دون التربية التعاونية، كما يستنتج <K. إيسلر> و<C. ڤان شياك>، كلاهما من جامعة زيورخ، فإن جنس الإنسان لم يكن ليتمكن من اختراق السقف الرمادي(33) الافتراضي الذي يكبح نمو دماغ القرد كي لا يتجاوز حجمه الأعظم قرابة 700 سم مكعب. ولكي يستطيع الحيوان أن يدفع تكلفة الطاقة الخاصة بامتلاكه دماغا كبير الحجم، فإنه لابد له من أن يخفض من سرعة توالده أو سرعة نموه أو من كلتيهما. لكن البشر قد تمكنوا من بلوغ فترة أقصر للفطام ونسبة نجاح أعلى في التناسل وذلك أكثر من المتوقع لكائن يتراوح حجم دماغه ما بين 1100 إلى 1700 سم مكعب. ويعزو <إيسلر> و<ڤان شياك> هذا النجاحَ إلى الآباء الآخرين الذين مكنوا الإنسان المنتصب من أن ينجب أطفالا بشكل أكثر تكرارا، مع إمداد هؤلاء الأطفال بطاقة كافية لنمو دماغ كبير.
إن الاحتفاظ بالعديد من القرينات هو عمل شاق. فهو يشتمل على الكثير من القتال مع ذكور آخرين وعلى حراسة الإناث. وربما يكون التزاوج الأحادي قد ظهر كوسيلة للتقليل من هذا الجهد. |
لقد كان التعاون حينها، سواء على شكل أزواج أحاديي التزاوج أو نوى عائلية أو قبائل هو الذي مكّن البشر من أن ينجحوا في الوقت الذي انقرض فيه جميع أجدادنا الأحفوريين وأبناء عمومتهم. وفي الحقيقة، إن التعاون هو أعظم مهارة اكتسبناها خلال المليوني سنة الماضية - وهو ما مكّن جنسنا الشاب من البقاء حيا خلال فترات زمنية من التغيرات والضغوط البيئية، وربما يقرر التعاون بشكل جيد مستقبل نوعنا الشاب جيولوجيا.
المؤلف
| Blake Edgar |
<إدگار> هو مؤلف مشارك في كتاب «من لوسي إلى اللغة» From Lucy to Language وغيره من الكتب، وهو محرر مشارك في مجلة علم الآثار وكذلك محرر جاذب مخضرم senior acquisitions editor في مطبعة جامعة كاليفورنيا. | |