الورم والدجالون جمال بدومة -
jamalboudouma@gmail.com لأن الحيز صغير والموضوع كبير،
ونزولا عند رغبة بعض القراء، اسمحوا لي أن أكتب مجددا عن الدعوة إلى
استبدال العربية بالدارجة، التي يتم الترويج لها على نطاق واسع هذه الأيام.
وأول شيء تجدر الإشارة إليه أن القضية اللغوية في المغرب أصبحت تشبه ورما
أهمل لسنوات، وكلما لمسته تسمع الصراخ والأنين والشتائم أحيانا: عتاة
الفرانكفونية يعتبرون التعريب تخلفا، والمعربون المتعصبون يعتبرون
الفرانكفونيين أجانب، ومتطرفو الفصحى يكفرون دعاة الدارجة، وغلاة الدارجة
يسخرون من أنصار الفصحى، والأمازيغيون المتشددون يشتمون الجميع.. في انتظار
أن يدخل مغاربة الصحراء على الخط دفاعا عن الحسانية، ومغاربة الشمال نصرة
للإسبانية، ولم لا بعض المغاربة الهولنديين الذين عادوا إلى البلاد فرارا
من خيرت فيلدرز، المتطرف الذي يسكن في سجن، في انتظار أن يطرد آخر المسلمين
من هولندا.. أليسوا أيضا مغاربة ومصلحتهم في انتشار الهولندية؟ لحسن الحظ
أن الملك ألقى خطاب أجدير وأسس معهدا للأمازيغية، وإلا كان الورم تحول إلى
سرطان. «الحرب اللسانية»، التي يشتد وطيسها في مواقع الأنترنيت وبعض
الجرائد، تكشف الحاجة إلى نقاش «بعقلو» بمشاركة أهل الاختصاص والحكمة، لا
أن يأتي من هب ودب كي «يرمي كرموصتو فالشريط» دفاعا عن مصالح ضيقة، كما
يفعل أنصار استبدال الفصحى بالدارجة، فقط لأن عندهم مشكلة بين الألف
والزرواطة! وكم أضحك من بعض دعاة الدارجة، باسم الحداثة، حين يطالبون بترك
العلماء ينامون في أبراجهم العاجية وحسم مصيرنا اللغوي باستفتاء شعبي، وهم
بذلك يختصرون الشعب في جمهور «البولفار»، متوهمين أن من خرج في تظاهرات
جرارة ضد «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» قد يصوت لصالح استبدال
«لغة القرآن». لكن النقاش اللغوي بحجج دينية يقود إلى الباب المغلق، وعلينا
أن نتجاوزه إذا أردنا الوصول إلى نتائج، ونربطه بمصالحنا المباشرة.
استعمال الدارجة بدل الفصحى معادلة خاسرة على المستوى الاقتصادي، لأنها
تعزلنا عن العالم ونحن بلد فقير. باريس تصرف أكثر من ميزانية المغرب كل عام
على سياستها الفرانكفونية، كي تضمن للغتها إشعاعا عالميا، ومع ذلك تشهد
الفرنسية تراجعا أمام لغات أخرى تحملها اقتصادات أقوى، لأن اللغة في نهاية
المطاف راية المنتصرين.. اللسان المغربي متقيح ولا بد له من طبيب، لكن أخطر
شيء على المريض هو الدجالون المتنكرون في طابليات بيضاء، أولئك الذين
يريدون أن يجتثوا ويستأصلوا ويقطعوا ويزرعوا، وهم لا يعرفون حتى كيف يمسك
المبضع. يستغلون إفلاس النظام التعليمي لإعلان حرب على لغة يضايقهم نفوذها
المتزايد، بعد ارتفاع أسهمها في مختلف العواصم، وتصاعد الدعوات إلى تفعيل
الدستور المغربي لتعميم العربية في الإدارة. القضية، باختصار، أن بعض من
فاتهم قطار الفصحى في مدارس البعثة، دارت عليهم الدوائر، وصاروا يجهرون
بالعداء للعربية لأن الإنسان عدو ما يجهله، بكل بساطة. والمضحك أن بعضهم
يدعو إلى «عربية وسطى»، رغم أنها موجودة من زمان، وتستعملها وسائل الإعلام
في كل البلدان العربية، لكن «الجهل مصيبة». وعلينا أن نتأمل ما يجري في
بلجيكا هذه الأيام، كي نفهم إلى أي حفرة يمكن أن تقودنا هذه الدعوات التي
تقف وراءها مصالح ضيقة. بعد أن ربح الفلمنكيون الانفصاليون الناطقون
بالهولندية الانتخابات في الفلاندر، باتت بلجيكا تسير بخطوات حثيثة على
طريق الانقراض، حيث ستتحول إلى كونفدرالية بشكل مؤقت، في أفق استقلال نهائي
للفلاندر وانضمام والونيا الفرانكفونية إلى فرنسا، مع اقتسام بروكسيل بين
الاثنين.. الخلاصة أن الورم اللغوي يمكن أن يؤدي إلى الوفاة إذا ترك المريض
بين أيدي الدجالين!