ما معنى أن تكون مغربيا اليوم؟
هشام العلوي
الخميس 09 يوليوز 2015 - 12:26
ثمة راهنية مطردة اليوم في طرح المسألة الثقافية بالمغرب على محك السؤال والتفكير والنقاش، في سياق ما يعتمل المجتمع المغربي والمجتمعات المجاورة، شرقا وشمالا وجنوبا، من حراك وتحول وقطائع تخلخل البنيات الراسخة، وتسائل الفاعل الثقافي باعتباره قوة للتحليل والاقتراح والترافع، حول موقفه مما يطرأ ويتكرس، وموقعه من المآلات التي ترتسم في الأفق من قبل فاعلين آخرين، في غفلة عنه أحيانا.
ومن أولى الملاحظات التي يجدر إبداؤها في هذا الصدد، كونُ مسألة الثقافة بالمغرب مُذ كانت إلا وتُطرح متلبسة بسياقات التأزيم والأشكلة، ومحفوفة بهواجس الكينونة والهوية.
ونستحضر هنا، تأسيسا، ذلك التقاطب التاريخي بين المشرق والمغرب، وسجال استقلالية "الشخصية الثقافية المغربية"؛ بدءا من القاضي عياض الذي "لولاه لما عُرف المغرب"، إلى العلامة سيدي عبد الله كنون رحمه الله الذي أوقف مشروعه الفكري والتأليفي على إبراز هذه الخصوصية المغربية، وتثمين نبوغ أعلامها، وتوثيق رصيدها الثر(1).
ولعلها الخلفية التاريخية والمعرفية نفسها، التي انطلق منها رواد الحركة الوطنية قبل الاستقلال وبعده، بغية إرساء "ثقافة وطنية" تراهن على التحرر والتنوير والتحديث في مواجهة ترسبات التقليد والتبعية والاستيلاب، بحيث تستثمر في القدامة مواطن الخلق والإبداع والانفتاح، كما تتملك ما في الحداثة من جدة وعقلانية وفتوحات معرفية وأسباب للتقدم.
وقد تبلورت طي هذه المواءمة، التي اهتدى إليها النبوغ الثقافي المغربي، جملة من "البراديغمات" في التفكير والتوصيف، من قبيل: إحياء التراث، والتأصيل والتحديث، والقومية العربية، والمثاقفة، والنقد المزدوج، والثقافة العالمة والثقافة الشعبية، وغيرها.
وستصل هذه المواءمة، بمختلف تنويعاتها وتراكماتها ومثالبها كذلك، إلى مداها الأقصى مع نهاية التسعينيات من القرن الماضي، في ظل المتغيرات والانتقالات التي ما فتئ يعرفها المغرب على مستوى أنساق السلطة والحكامة والمجتمع ومنظومة القيم، وبتفاعل مع ما يشهده العالم من تحولات متسارعة. الأمر الذي يستدعي الحاجة إلى مواءمة مغايرة ببراديغمات مبتكرة للوصف والتحليل، تتجه أحيانا نحو القطع مع المقاربات السائدة.
ومن ذلك، الانتقال من مفهوم "الثقافة الوطنية" ذات البعد الأحادي والتجانس الناجز والمطلق، إلى مفهوم "الثقافة المغربية" في تعددها وتنوعها، من غير إقصاء أو اختزال لأي من عناصرها التي تنصهر جميعا في أُتُون وجدان مشترك، درجَ التعبير عنه بـ "تمغريبيت"؛ إذ لم يعد المسعى ينحصر فقط، كما كان في السابق، في البحث عن هوية ثقافية تنفلت من جاذبية التعبية سواء للشرق أو الغرب، بما يشبه حمائية ثقافية تجاه الأفكار والنماذج الواردة، بقدر ما أصبح توجها صوب الداخل، من خلال المصالحة مع الذات واللغات واللهجات والذاكرة والمجال، والاعتراف بمختلف المكونات والأطياف والأصوات التي تتشكل منها هذه الهوية الثقافية واللغوية المتعددة.
وسيتم ترسيم هذه الصيرورة بانتقالاتها وقطائعها ( من الثقافة الوطنية... إلى الثقافة المغربية... إلى تمغريبيت) وما واكبها من نقاش عمومي موسع، بموجب الوثيقة الدستورية الجديدة ( فاتح يوليوز 2011) التي أقرت بما يلي(2):
أولا، هي ثقافة بمقومات عربية - إسلامية، وأمازيغية، وصحراوية حسانية؛
ثانيا، هي ثقافة بروافد إفريقية وأندلسية وعبرية ومتوسطية؛
ثالثا، الموقع المتقدم والهيكلي لهذه الثقافة في منظومة الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وفي إبرام التعاقدات الكبرى داخل المجتمع؛
رابعا، التنصيص على دور الدولة في صيانة ودعم وتدبير التعدد الثقافي واللغوي والتعبيري والإبداعي، بكيفية تشاركية، من خلال إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية.
وهكذا، أفضى الاشتغال على الذات والإنصات إلى خصوصياتها إلى إقرار التعددية الثقافية ووضع الآليات المؤسساتية والإجرائية لتدبيرها( في انتظار تفعيلها)، كما مكن من التفطن لوجود استعداد هوياتي للشخصية الثقافية المغربية، من خلال روافدها المتشربة لأنساغ الحضارات الإنسانية في أبعادها (الإفريقية/ الأندلسية/ العبرية / المتوسطية)، للانفتاح والتواصل والتفاعل مع الأفكار والنماذج ذات البعد الكوني.
هذا الاستنتاج، لا يزعم ، بكل تأكيد، افتعال تطابق وهمي بين الخصوصية والكونية، أو استفزاز الأطروحة التي تعتبر الخصوصية الثقافية عائقا أمام الانخراط في القيم الكونية والتأهيل الديمقراطي والحقوقي للدول، ولكن لا ينبغي أن نتجاهل، في المقابل، أن الحق في الخصوصية الثقافية، الفردية والجماعية، بما يضمن التنوع والتعدد، نلفيه اليوم في صلب الجيل الجديد من الحقوق والقيم الكونية التي تدعو إلى حمايتها وتثمينها المواثيق والعهود الأممية والدولية. ففي الخصوصية الثقافية والتاريخية واللسانية المغربية إمكانات التفكير والسلوك، التي من شأنها أن تيسر الانخراط الإرادي في القيم الكونية، دون أن يعني ذلك الانمحاء والذوبان والتماهي المطلق. مع العلم أن المجتمعات، مجتمعات الشمال والجنوب على حد سواء، غدت تتجه اليوم، بفعل عولمة الهجرة والشتات (diasporas)، نحو ما يسمى بالهويات الثقافية الهجينة حيث تتعايش الخصوصيات، على تعدد منابعها واختلاف منابتها الثقافية والجغرافية، وذلك رغم مؤشرات الانغلاق والانكفاء وكراهية الآخر وإقصاء المختلف، وغيرها من القيم المضادة والنزعات الاستئصالية المتصاعدة في الآونة الاخيرة.
فما معنى أن تكون مغربيا اليوم ؟ و ما هي قيم ومقومات مغربيتك القادرة على أن تشكل رصيدا ثقافيا إيجابيا وداعما لك في استشعار ضرورة التقدم والاستجابة لنداء المستقبل ؟
ثمة فعلا ملامح دالة على انبثاق جيل جديد لهذه الشخصية الثقافية المغربية في أعمال إبداعية تغطي عددا من الأشكال التعبيرية والفنية والجمالية؛ في الشعر والرواية والمسرح، وفي الموسيقى والسينما والتشكيل، وفي الطبخ والديزاين واللباس والمعمار، وفي نتاجات وأنشطة ومبادرات أخرى ذات محتوى ثقافي، ترتسي على هذه الهجنة الخلاقة.
فمثلا، عندما أتلقى اليوم أغنية أو مقطوعة تنتمي إلى موسيقى الانصهار (Fusion)، وهي تقدم مختارات من فنون الملحون ( زجل) أو الروايس (أمازيغي) أو "كناوة" (إفريقي)، فإني أجد باعتباري كمغربيا تجليا من تجليات هويتي الثقافية الغنية والمتنوعة، وأنتشي من خلال إيقاعاتها بعطور وجداننا المشترك وطعومه وألوانه، في تناغم مع تلك الـ "تمغريبيت" التي تستوعبنا جميعا كموطن رمزي يعدو الوطن أحيانا.
كما قد يجد الآخر، غير المغربي، في مقوماتها التعبيرية والإيقاعية والجمالية ما يستنفر في دواخله ذائقته الإنسانية المتعالية عن مقتضيات الانتماء الثقافي أو العرقي أو الجغرافي.
لكن، ما جدوى أن تبدع أو تقرأ كتابا أو تتلقى لوحة أو أغنية أو عرضا مسرحيا ؟ أو أن تعيد إنتاج موروثَك الروحي أو الثقافي، تفكيرا وسلوكا، في الممارسة اليومية أو المناسباتية أو الإبداعية ؟
درج في السنوات الأخيرة على بلورة بارديغم مبتكر في قياس الرصيد الثقافي والفني والإبداعي؛ بوصفه مكونا أساسيا للرأسمال غير المادي لثروات الأمم والشعوب. إذ تصبح الخصوصيات الثقافية والتاريخية والروحية الداعمة لقيم الحرية والعمل والإنتاج والإبداع والابتكار، حاسمة في خلق ثروات الشعوب والدول، وتحسين صورتها وتموقعها على الصعيد الإقليمي والدولي. وقد خلصت تقارير منجزة في هذا الصدد، إلى أن ما ينتجه المغرب بفضل رصيده الثقافي والروحي والتاريخي وباقي مكونات رأسماله غير المادي ( البشري والمؤسساتي والاجتماعي)، يضاعف 7 مرات ناتجه الداخلي الخام(3).
هذا البراديكم الجديد يعيد الاعتبار إلى الفعل الثقافي، موروثا وإبداعا معاصرا، وينتشله من دائرة "الثانوي" و"الهامشي" و"الترف" الذي لا وقع له ولا تأثير، أو "الأصول" التي يصعب تكميمها حسب تقدير خبراء الاقتصاد. ذلك أنه في إنتاجنا لقيم الفن والجمال والسمو والمحبة والحوار، تعزيز لأسباب الثروة والارتقاء، من خلال المساهمة الحاسمة لهذه القيم وغيرها في تحقيق الرفاه والسعادة وجودة الحياة بالنسبة إلى الأفراد، وتوفير شروط التساكن والتماسك والثقة داخل المجتمع، وكذا مقومات الاستقرار والتنافسية والاستدامة والإشعاع بالنسبة إلى البلدان.