07 مايو 2015 بقلم
فوزية ضيف الله قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:أيمكن للحدس أن يكون منهجًا والحال أنّه معرفة مباشرة؟
إنّ الحدس لا يصير منهجًا كما أنّه لا يحتاج إلى البحث عن منهج إذ هو المنهج عينه. فالحدس البرغسوني إن كان منهجًا فهو لا يكفّ عن كونه حدسًا أي عن كونه معرفة مباشرة، فالمباشرية التي يتقوم بها باعتباره معرفة هي نفسها التي تقومه منهجًا. ذلك يفضي إلى القول بأنّ الحدس عند برغسون لا يمكنه إلاّ أن يكون منهجًا والمنهج بدوره لا يكون إلاّ حدسيًّا لأنّه إذا كفّ عن كونه حدسيًّا سيصير لا محالة توسّطيًّا.
1) الحدس بوصفه منهج التأليف.
إنّ الحدس يؤلّف لأنّه ضرب من ضروب الإدراك الذي يلتحم بالأشياء التحامًا (coincidence)، فلا ينقاد من ظاهرها إلى باطنها بل ينفذ إلى باطنها مباشرة باحثًا عمّا يمكن أن يكون فيها من وحدة فعلية ومتصلة، فيؤلف بين الأشياء على تنافرها داخل الديمومة المتجددة. غير أنّ الحدس حين يؤلّف لا ينطلق من الوحدة بل ينتهي إليها، لذلك فإنّ هذه الوحدة ليست افتراضية بل فعلية ومتصّلة لأنّها تنتج عن تعاطف باطني يضطرّ في كلّ مرّة بل دومًا إلى مغادرة الزمان الحاضر بجعله حضورًا ينسجم مع الزمان الماضي وينفتح على الزمان المقبل. بيد أنّ الحدس إذا تعهّد بهذا الأمر، يصير عملاً مضنيًا لكنّه طريف، مربك في مباشريته، مدهش في بساطته، بليغ في صمته، مذهل في قدرته الفائقة على الاكتشاف الخلاّق، إنّه يعيد "بعث" الماضي، متنبّئًا بما سيحدث، جامعًا بين البداهة والغموض، بين الوعي واللاوعي، بين المادّة والرّوح.
لكنّ الحدس إذا انتظم منهجًا للتأليف فإنّه يتأسّس على أنقاض القواعد التي سنّها علم النفس بوصفه علمًا يجعل من الحدس منهجًا تحليليًّا لا يرى في الشخصية النفسية إلاّ أحوالاً متنافرة فيفقدها هويّتها ووحدتها الباطنية
[1]. لذلك فإنّ الحدس باعتباره منهجًا تأليفيًّا، ينبغي عليه القطع مع مسلّمات علم النفس التحليلي ليصوغ لنفسه قواعد تخصّه وتميّزه.
2) الحدس وقواعد توجيه التفكير.
إنّ المنهج البرغسوني يضاهي في "دقّته" المنهج الديكارتي في "وضوحه وتميّزه". فإن كان ديكارت قد سنّ قواعد المنهج لتوجيه الفكر في البحث عن الحقيقة، فإنّ برغسون بدوره يجعل من الحدس تجربة البحث عن
الحقيقة الحية (la vérité vivante).
لذلك اعتبرت مادلين بارتلمي مادول (M. Barthélemy-Madaule) المقدّمة الأولى من كتاب "
التفكير والمتحرّك"
لبرغسون بمثابة
حديث في المنهج[2] ويمكن صياغة هذا المنهج حسب جيل دلوز في القواعد الثلاث التالية
[3]:
أ) القاعدة الأولى: الحدس هو الذي يبتدع المشكل الحق.
يتحدّد إمكان هذه القاعدة الأولى
[4] مبدئيًّا ضمن أفق مميّز لصياغة المشاكل الفلسفية. إذ تتعيّن هذه القاعدة ضمن تدبير أوليّ لمعنى السؤال مؤسّسًا لإمكانية التوصّل إلى الحقّ أي محدّدًا لإحداثية طرح المشاكل من جهة ما هو طرح يحيل إلى الحلول دون أن يعنيها ويتحدّد شرط إمكان هذه القاعدة في النقاط التالية:
٭ إنّ اختبار المشاكل من جهة صحّتها أو خطئها ينبغي أن يحمل داخل المشاكل نفسها.
٭ إنّ ابتداع (invention) المشاكل لا يكون إلاّ بعد اضمحلال المشاكل الخاطئة وتبدّدها، بيد أنّ ابتداع المشاكل يقتضي قدرًا من
الحرية أي تجاوزًا للقصد التعليمي الذي يقصد تعيين المطلوب الأقصى للسؤال تحصيل اليقين البرهاني. فالمشكل لا يكمن في السؤال بل في وضع السؤال الذي لن يكون سؤال "المتعلّم للمعلم"
[5]، إذ لا يبدو أنّ ابتداع المشاكل واكتشافها من أمور القوانين المساءلة التي يتحدّث عنها الفارابي كما تلقّاها عن أرسطو وكما حاول أن يجد لها تشريعًا فلسفيًّا داخل اللسان العربي.
٭ إنّ ابتداع المشاكل لا يعني
اكتشافها (découverte).
"إنّ الاكتشاف يحمل على ما يوجد على نحو مسبق فهو آت لا محالة. أمّا الابتداع فإنّه لا يحمل على المشاكل الموجودة بقدر ما هو خلق (création) لها أي إعطاؤها الوجود بعد أن كانت معدومة"
[6]. إنّنا نكتشف الحلّ لكنّنا نبتدع المشكل، بيد أنّنا لا نكتشف الحلّ إلاّ إذا تعهّدنا بابتداع المشكل. فهل اكتشاف الحلول مساوق لابتداع المشاكل؟ ألن يصير ابتداع المشاكل واكتشافها أمرًا واحدًا؟
تتمثل أصالة التفكير البرغسوني في هذا المستوى الطريف لفكرة
المشاكل الخاطئة (faux problèmes)
، الأمر الذي "يؤدّي إلى انبثاق قاعدة تكميلية (règle complémentaire) تكمّل القاعدة العامّة الأولى"
[7].
تتحدّد صياغة هذه القاعدة كالتالي: »تنقسم المشاكل الخاطئة إلى صنفين اثنين: "المشاكل غير الموجودة (problèmes inexistants)" والتي تنتج إمّا عن زيادة وإمّا عن نقصان في الألفاظ التي تكونّها. أمّا "
المشاكل السيئة الطرح (problèmes mal posés)"
فتمثل خليطًا من الألفاظ سيّء التحليل«
[8].
إنّ المشاكل غير الموجودة أصلاً هي مشاكل مفتعلة فهي حصيلة تراكمات لفظية. إنّنا نصطنع المشكل كلّما أضفنا لفظًا أو حذفنا آخر، ويشير برغسون إلى مشاكل المعرفة والوجود فيذكر أمثلة عن هذا النّوع من المشاكل، مشكل اللاوجود، مشكل اللانظام ومشكل الإمكان. كأن نسأل مثلاً "لماذا يوجد شيء ما بدل لا شيء؟" أو"لماذا يوجد نظام عوض أن يوجد اللانظام؟" كما لو أنّنا نفترض أنّ اللاوجود يسبق الوجود أو أنّ اللانظام يسبق النظام.
أمّا المشاكل السيئة الطرح فهي تلك التي تجمع بين أشياء ينبغي التفريق بينها. فإذا كانت الألفاظ لا تحيل إلى "تمفصلات طبيعية" فإنّ المشكل خاطئ ولا يتلاءم مع طبيعة الأشياء كأن نسأل مثلاً: "هل تردّ السّعادة إلى المتعة أم لا
[9]". والحال أنّ لفظ "المتعة" يتضمّن حالات مختلفة لا يمكن ردّها إلى السّعادة.
فكلّما أضفنا لفظًا أو حذفنا آخر، وتجاهلنا الفروق في الطبيعة نشأت المشاكل الخاطئة. إنّ المشاكل غير الموجودة أصلاً لا تتأسّس إلاّ على المشاكل السيّئة الطّرح. فالمشاكل الخاطئة تكوّن ما يسميه برغسون الحركة
المتقهقرة للحقّ (mouvement rétrograde du vrai)
[10] لأنّنا لا نرى إلاّ فرقًا في الدّرجة حيث يكون ثمّة فرق في الطّبيعة وهو ما يحتّم صياغة القاعدة الثانية.
ب) القاعدة الثانية: الحدس هو مبدأ التفريق بين الأشياء.
تتحدّد مهمّة الحدس من خلال هذه القاعدة
[11] في ردّ الألفاظ والأشياء إلى تمفصلاتها الطبيعية أي بالتفريق بينها تفريقًا يتجاوز الفرق في الدّرجة إلى الفرق في الطّبيعة. إنّ الفرق في الطبيعة هو الذي يضمن قدرًا أقصى من الفرق أي قدرًا أقصى من الفصل بين المتماهيات. إنّ التفريق الأقصى لا يتأسّس إلاّ على ضرب من التقابل (opposition)
[12].
غير أنّ التفريق بين الأشياء ليس أمراً مصطنعًا أو مفتعلاً، فالفرق بين الأشياء أمر حاصل بالطبع ولا تتمثّل مهمّة الحدس في ابتداعه بل في التّفطّن إليه والكشف عنه، ذلك أنّ التّفريق بين الأشياء هو من الأمور الحاصلة، غير أنّ التفطّن إليه مهمّة يعزوها برغسون إلى الحدس لذلك يضطلع الحدس على نحو أوّلي "بمقاومة الأوهام" التي تماهي بين الأشياء قبل مباشرة البحث عن التمفصلات الطبيعية للواقعيّ.
يُقصد بمقاومة الأوهام إجراء الفرق في الطبيعة بين الإدراك والانفعال من جهة وبين الإدراك والتذكر من جهة أخرى، فنسيان هذه الفروق هو الذي تُردّ إليه مسألة ظهور المشاكل الخاطئة
[13]. لذلك يتعيّن على الحدس التفريق بين الذاكرة والإدراك، بين الذكرى والمادّة، بين المتصّل والمنفصل، بين الكيفيّة والكميّة أي بين الدّيمومة والمكان وخاصّة بين الزّمان والمكان، إذ هو الفرق الأساسيّ الذي ينبغي التفطّن إليه.
ليس الواقعيّ هو الذي يتجزّأ وفق التمفصلات الطّبيعية فحسب، بل هو الذي يعمل على معاودة هذه التجزئة من جديد، وذلك ما تكلّمت عليه القاعدة التكميلية الثانية
[14]. فهل الفرق يقترن إذن بــ
المعاودة ليصير
تفريقًا متكرّرًا أو
تكرارًا مفرّقًا؟ والحال أنّ جيل دلوز (G. Deleuze) كان قد حدّد
الفرق بالطبيعة على أنّه يتوسّط المعاودة (répétition) والتشابه (ressemblance)
[15].
إنّ النّظر في معنى الحدس من جهة ما هو مبدأ التّفريق بين الأشياء يفضي إلى تعيينه منهجًا
للقسمة الثّنائيّة (dichotomie
) بروحها الأفلاطونيّة
[16]. لكنّه منهج يتماثل أيضًا مع
التحليلية المتعالية عند
كانط فنحن نتجاوز بالقسمة الواقعي إلى شروط التجربة الممكنة
[17]. بيد أنّ ما يميّز الحدس البرغسوني بوصفه منهجًا للقسمة هو أنّه يقتضي التفكير بالزمان. فمعاودة التفريق إثبات للحركيّة لكنّها حركيّة متجددّة.
ج) القاعدة الثالثة: الحدس يقتضي التفكير بالزّمان.
كيف يفكّر الحدس والحال أنّه منهج يوجّه التفكير؟ هل المنهج مضطرّ بدوره إلى أن يفكّر ؟ فيم يفكّر؟ ولم؟ ألن يصير الحدس فكرًا إذا فكّر من جهة ما هو منهج؟
ليس الحدس فكرًا لأنّه منهج، بل إنّ الفكر إذا اعتمد الحدس منهجًا صار فكرًا حدسيًّا (la pensé intuitive)
[18]. أن نفكّر حدسيًّا معناه أن نفكّر في
الديمومة (durée)
[19]. بيد أنّ التفكير في الديمومة لا يكون إلاّ انطلاقًا من التفكير في الزمان. فأن نفكّر في الديمومة معناه أن نفكّر في الزّمان. لكن ينبغي أن نحدّد التفكير في الديمومة حدًّا أقصى من التفكير في الزّمان. ذلك يعني أنّ التفكير في الزمان العلمي من جهة ما هو زمان يمضي هو الذي يؤدي إلى التفكير في الديمومة متماهية مع فكرة الزمان.
تقتضي هذه القاعدة إذن الجمع بين النظريتين الأساسيتين داخل فلسفة برغسون وهما نظرية الحدس ونظرية الدّيمومة، لكن ينبغي التنبيه إلى أنّ صياغة نظريّة الدّيمومة هي التي أدّت ببرغسون إلى صياغة نظريّة الحدس أي إلى جعله منهجًا للتفكير.
فإذا كان الحدس يقتضي التفكير في الزمان فإنّ ذلك يعني على نحو أوليّ أنّ طرح المشاكل وحلّها لا يكون إلاّ في علاقتها بالزّمان ولا بالمكان، أي انطلاقًا من نظريّة الديمومة
[20].
يقتضي تحديد الديمومة بماهي حالات مختلفة ومتعدّدة، متحرّكة ومتحوّلة لكنّها تعبّر عن وحدة متصّلة ونوعيّة إلى تعيّن الديمومة حقلاً للتنوّع الكيفيّ أي إلى كونها تمثل فروقًا في الطبيعة، خاصّة إذا تبيّن أنّه لا وجود إطلاقًا للحظتين متماهيتين داخل الديمومة، لذلك ينبغي التفريق بينها وبين المكان الذي لا يحمل إلاّ فروقًا في الدرجة نظرًا لكونه يمثل حقلاً متجانسًا كميًّا.
إنّ الديمومة هي إذن مجال الفروق في الطبيعة، لذلك فهي تضطلع بمهمّة التفريق بين الأشياء تفريقًا في الطبيعة لا في الدرجة، فقطعة السكّر من جهة ماهي جسم ممتدّ لا تكوّن- حسب المثال الشهير لبرغسون- إلاّ تشكّلاً مكانيًّا لا يتميّز عن بقيّة الأشياء إلاّ انطلاقًا من الفروق في الدرجة لأنّها لا تنزع إلى التنوّع الكيفيّ أي لا تخضع لفكرة الزّمان.
غير أنّنا إذا وضعنا قطعة السكّر نفسها في كأس من الماء وانتظرنا ذوبانها فإنّها ستشكّل تنوّعاً كيفيًّا غير متجانس يتقوّم. إنّ إحساسي بذوبان قطعة السكّر يمثّل صورة عن ديمومتي الخاصّة. إنّ ديمومتي الخاصّة هي التي تفرّق بين الأشياء تفريقًا في الطبيعة، لكنّ هذا الأمر لا يتيسّر إلاّ إذا مثّلت هذه الديمومة فرقًا في الطبيعة. أي إذا كانت هي الأخرى متميزّة عن جملة من الدّيمومات. فهل أنّ تعدّد الديمومات يناسبه تعدّد في الحدوس أي تعدّد في المناهج؟
لئن تعدّدت الدّيمومات فإنّ الحدس من جهة ما هو تفكير في الديمومة يظلّ هو هو. لكنّ الديمومة إذا فصلت عن الحدس من جهة ما هو منهج، صارت مجرّد تجربة سيكولوجية، كذلك فإنّ الحدس إذا لم يلتحم بالديمومة، فإنّه لن يكون قادرًا على تحقيق البرنامج الذي يتوافق مع القواعد السابقة.
ما نخلص إليه هو أنّ الحدس باعتباره منهجًا بقواعده الثلاث هو منهج
استشكاليّ méthode) problématisante)
يتحدّد "كنقد للمشاكل الخاطئة وخلق للمشكل الحقّ". وهو أيضًا "منهج
تفريقي (méthode différeciante)"
لكنه لا يكون إلاّ إذا كان "منهجًا
تزمينيّاً méthode) temporalisante)"
لأنّ
طرح المشاكل وحلّها يقتضي التفكير بالزّمان
[21]. "إنّ الحدس يعطي امتدادًا جديدًا للديمومة من جهة الوجود ومن جهة المعرفة"
[22]. لذلك فإنّ الحدس من جهة ما هو تفكير في الديمومة يصير رحلة البحث عن
الحقيقة الحيّة.
3) الحدس وتجربة البحث عن الحقيقة الحيّة.
هل يبحث الحدس عن الحقيقة والحال أنّه معرفة مباشرة والتحام بالأشياء في عفويّتها؟ إنّ الحقيقة تقتضي قدرًا من التفكّر والتمثّل أو إعادة إنتاج الحضور بواسطة التفكير (re-présentation) في حين أنّ الحدس لا يلتئم إلاّ إذا قطع مع المعرفة التمثليّة أي إذا كان معرفة غير مفهومية.
إنّ هذه المفترضات هي الّتي تحدّد الوضع الإحراجيّ الّذي تنشأ فيه التّجربة الحدسيّة بوصفها رحلة للبحث عن الحقيقة.
إذا كان الحدس يبحث عن الحقيقة فإنّه يبحث عنها دومًا على نحو من الأنحاء. معنى ذلك أنّ الحقيقة لا نحصل عليها انطلاقًا من رؤية تمثليّة بل إنّها تنتج عن الالتحام المباشر بالأشياء في بساطتها وعفويّتها. فالحقيقة الحدسية لا تتأسّس على الأوهام لأنّها عندما تخلق المشاكل تقاوم هذه الأوهام كما أنّها لا تستند إلى التمثلات. إنّ تمثّلي هو دومًا تمثّل فارغ ينقصه الامتلاء الذي تحتويه التجربة الحدسيّة. لذلك فإنّ الحدس إذا ما بحث عن الحقيقة فإنّه سيبحث عن الحقيقة الحيّة.
غير أنّ الحقيقة الحيّة هي حقيقة لا تهدأ لأنّها لا تصمد أمام الزّمان فهي لا تتقوّم إلاّ به أي أنّها لا تطلب إلاّ داخل الديمومة المتجدّدة، لذلك فهي ليست ما نحصل عليه بل هي ما نبحث عنه. إنّ الحقيقة الحيّة ليست عمليّة منطقيّة بل إنّها تغدو حياة إذا تبيّن لها أنّ التفكير المفهوميّ هو الخطيئة الأولى للفكر الفلسفيّ
[23]. لذلك فهي لا تعمل داخل منطق الخطاب بقدر ما تعمل داخل منطق الخلق
[24]. لذا فليس مقام طرح المشاكل مقامًا تفكّريًّا بقدر ما هو مقام حيويّ ينشأ من وحي اللحظة نشوءًا يكاد ينقلب إلى صدفة لها أن تخلق المشاكل وتوجّه مسار الحدس للبحث عن الحقيقة الحيّة، إنّها تنشأ إذن عن وقائع عرضيّة لكنّها وقائع حيّة لا تطالها اللّغة
[25].
4) الحدس ومشكل اللغة.
هل يمكن أن نعتبر اللّغة أفقًا ملائمًا للتّعبير عن الأشياء؟ كيف تكون اللّغة سبيلاً للإقبال على العالم إقبالاً من شأنه أن يدرك ما يعتمل داخلها من حركة؟
إنّ الشأن اللغويّ يتأسّس على بداهة العلاقة التي تربط عالم الأفكار بعالم الأسماء من جهة وعالم الأسماء بعالم الأشياء من جهة أخرى. إذ اللغة هي تصريف لإمكانات لفظية يفترض على نحو أوّلي أنّها تفي بتلك الإمكانات الجوهرية التي تضطلع بها الذوات كما تضطلع بها الأشياء. بيد أنّ إمكان اللغة لا يتأسّس إلاّ على اعتقاد ضمنيّ في قدرتها على قول الحقيقة. إنّ الموقف الذي استحدثه نيتشه والذي اعتبر اللغة تعبيرًا عن عالم وهميّ لا وجود له، هو المقام عينه الذي استعاده برغسون فـ "مبدع الكلمات يتصوّر أنّه لم يفعل سوى إسناد تسميات للأشياء"
[26].
فإذا كانت اللغة صورة لترتيب الوقائع فإنّ هذا الترتيب- الذي هو تصريف للأفكار- لا يمكن له إلاّ أن يكون
ترتيبًا مكانيًّا بحسب استقرار الشيء وثباته داخل العالم. إنّنا عندما نسمّي الأشياء نفقدها حركتيها. فالكلمة تنزع بالطبع إلى التشكّل المكاني الذي يفترض أنّ وضع الكلمات ينبغي أن يتطابق مع وضع الأشياء. إنّ اللغة تنزع إلى الثبات في حين أنّ الأشياء والذوات تتقوّم بالحركة، لذلك "فنحن لا نرى الأشياء ذاتها؛ إنّما نكتفي في معظم الأحيان بقراءة بطاقات ملصقة عليها"
[27].
نتبيّن أنّ الـلّغة لا تعبّر عن الواقع إلاّ إذا ما اقتطعت منه جزءًا فهي لا تنظر إليه في كلّيّته
[28]. إنّ "اللّفظ الذي لا يستبقي في الشيْء إلاّ أعمّ وظيفة له وأكثر جوانبه ابتذالاً، فإنّ من شأنه حينما يتسلّل بيننا وبين الشّيء، أن يحجب صورته عن عيوننا، إذا لم تكن الصّورة قد توارت من قبل خلف تلك الحاجات التي أبدعت ذلك اللّفظ نفسه"
[29]. معنى ذلك أنّ الألفاظ تعبّر دومًا عن حاجات اجتماعيّة واقتصاديّة، إذ اللغة هي مؤسّسة (institution) في حدّ ذاتها.
إذا كانت اللّغة لا تعبّر عن الموضوعات الخارجيّة فإنّها لا تعبّر أيضًا عن حالاتنا النّفسيّة. إذ يفلت من طائلها ذلك الطّابع الذاتي الشّخصي والأصيل. "إنّنا لا ندرك من إحساساتنا سوى مظهرها غير الشّخصي"
[30]. فهي تضبّب رؤيتنا للعالم كما تضبّب رؤيتنا لذواتنا لذلك ينبغي محاكمتها. إنّ الوعي المباشر يمكن أنّ يتأسّس
لغةً مضادّة للّغة.
فالوعي المباشر هو ما تتقوّم به التّجربة الحدسيّة التّي تنقلب إلى تجربة صوفيّة - إذا ما بلغت أقصاها - حيث تباشر الذّات الحقيقيّة في صفائها ووضوحها التّام.
من البيّن إذن أنّ الحدس يقيم داخل قارّة الصّمت المتلحّف بديمومة لا يمكن التّعبير عنها. إنّ الدّيمومة هي ما تتقوّم بها التّجربة الحدسيّة، بيد أنّ هذه الدّيمومة هي "
المسكوت عنه (ineffable)"
[31] لأنّ الكلام يثبّت حركتها. إنّنا قد لا نتحدّث إلاّ عن الثّوابت لكنّنا نحسّ بالمتحرّكات. فاللّغة لا تخضع لمنطق الزّمان بما هو سيل متدفّق متجدّد. لذلك فالشّأن الحدسي لا يتأسّس إلاّ على أنقاض الشّأن اللّغوي. لذا فإنّ اقتضاء الحدس لحقل المعطيات المباشرة كما تحدّد هكذا لا يحتاج إلى الوسائط التّي تضعها اللّغة بل يقتضي "توجيه النّظر نحو الأشياء عينها دون الكلمات والدّلالات". لذلك كان برغسون يسعى إلى جعل لغته ذات سحر خاصّ، لغته موسيقى الدّيمومة، تكاد تنقلب شعرًا، تعتمد الصّور المجازيّة سبيلاً، لغة سلسة منسابة انسياب السّيل. فإن كانت اللّغة بالنّسبة إلى برغسون عائقًا تعبيريًّا فإنّه يريد أن ينحتها كائنًا حيًّا ينبض حركة
[32]. إنّ الحدس البرغسوني مقلق في مباشريّته، مذهل في قدرته الفائقة على التّأليف، سحريّ في لغته، بليغ في صمته، ألن يصير معجزة برغسون؟
ملاحظة: لقد اعتمدنا طبعة الأعمال الكاملة لبرغسون الصادرة سنة (Edition du Centenaire) 1970. أما بالنسبة إلى عدد الصفحة الموضوع بين معقفين فيرمز إلى ترقيم صفحات كتاب برغسون التفكير والمتحرّك ضمن طبعة (Les Presses Universitaires de Frances).