تقرير: محمود علي وهدير محمود:تحول المجتمع البرازيلي من معدم وفقير في أغلبه إلى منتج، ويمتلك طبقة وسطى عريضة وفاعلة ومؤثرة، حيث تحولت البرازيل من دولة فقيرة ذات أوضاع اقتصادية متردية كثيرًا، تخضع للتبعية الأمريكية ومدينة بالعديد من الأموال لصندوق النقد الدولي، إلى دولة صاحبة اقتصاد كبير وضعها في مرتبة تاسع أكبر اقتصاد في العالم، وفي المرتبة الأولى بأمريكا اللاتينية، مع متوسط ناتج محلي للفرد يبلغ أكثر من 6 آلاف دولار في 2007.
في عام 1930 تولى الجنرال “غيتويلو فارغاس” الحكم ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية، وتراجعت الديمقراطية والحرية، وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل، وفي منتصف السبعينيات تولى الجنرال “ايرنستو غيسيل” وخلال تلك الفترة تبنت الحكومات العسكرية سياسات رأسمالية دافعت فيها عن مصالح رجال الأعمال وأصحاب الشركات، دون الاكتراث نهائيًّا بالطبقات الفقيرة وقامت بدور حامي البلاد من الوقوع في خطر الشيوعية وتكرار النموذج الكوبي، وشكلت تحالفًا قويًّا مع الرأسمالية الوطنية والإدارة الأمريكية، كما عمدت إلى الاقتراض من الخارج لتنفيذ مشروعاتها التنموية، مما خلف ديونًا اقتصادية كبيرة شكلت عبئًا على الأجيال اللاحقة.
جاء من بعد الجنرال “غيسيل” الجنرال ”جون بابتيستا فيغوريدو” لرئاسة البلاد حتى منتصف الثمانينيات، وفي هذه الفترة واجهت البلاد أزمة ديون كبيرة، خاصة بعد السياسات الاقتراضية المتهورة التي انتهجتها الحكومات العسكرية، ومن ثم شهدت فترة الثمانينيات عدة محاولات للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة، كما شهدت تراجعًا في معدلات النمو.
في تسعينيات القرن العشرين، التي كان تراجع فيها الجيش تمامًا عن الحياة السياسية، وأتم الانتقال السلمي والتدريجي للسلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، انتهجت الحكومات المدنية خلال عقد التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، حيث تبنت سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسات السوق وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرر الاقتصادي، كما كان الحال في العديد من دول العالم الثالث التي اتبعت توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين، مما أدى إلى تقدم مؤشرات الاقتصاد الكلي، ما لم يكن يعنى تقدمًا فعليًّا، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة، مما أدى إلى مزيد من البطالة، وتراجع حاد في الإنتاج المحلي، ومن ثم تراجع معدلات التصدير، وتزايد معدلات الفقر التي كانت مرتفعة بالأساس.
في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت البرازيل من أهم وأكبر العملاء لصندوق النقد الدولي، وكان الأمر مصدرًا للفزع على المستوى الوطني، ففي كل مرة كانت الأمور تخرج عن سيطرة القيادة البرازيلية كان ينتهي بهم الأمر إلى القروض، كي يبقوا الاقتصاد عائمًا، ولطالما كانت البرازيل عبر أكثر مراحل تاريخها ترسل الوفود إلى واشنطن ملتمسة خطط إنقاذ.
بذل الرئيس الأسبق “كاردوسو” محاولات عديدة لإصلاح الاقتصاد البرازيلي، حيث وضع خطة “الريال” التي كان هدفها دمج الاقتصاد المحلي بالاقتصاد العالمي، واتجهت محاولاته الإصلاحية ناحية تبني سياسات السوق الحرة والاستدانة الخارجية، حيث ارتفع الدَّين الخارجي من 150 إلى 250 مليار دولار خلال فترة رئاسته، وأدى هذا التضخم في الدَّين إلى أزمة انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي، سواء من الجهات الدولية المانحة أو المستثمرين المحليين والأجانب، كما اتجهت سياسات “كاردوسو” أيضًا نحو طرح سندات الدين الداخلي بفوائد مرتفعة، مما شجع المستثمرين على التخلي عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية، حتى ارتفع الدين الداخلي بنسبة 900%، وهكذا انحرفت محاولاته إلى مزيد من الأعباء على الأجيال القادمة، ولم تحقق تقدمًا في الإنتاج بل تقدمًا فقط في قطاع المال وزيادة الديون وتعقيد أكبر لأزمة الثقة، وبالطبع استمرار الأوضاع الاقتصادية المتردية للطبقات الفقيرة.
في عام 2002 اعتلى رئيس البرازيل الأسبق “لويس إناسيو لولا دا سيلفا” كرسي الحكم، ونفذت البرازيل برنامجًا للتقشف وفقًا لخطة صندوق النقد الدولي، بهدف سد عجز الموازنة والقضاء على أزمة الثقة، وأدى برنامج التقشف إلى خفض عجز الموازنة وارتفاع التصنيف الائتماني للبلاد، ومن ثم ساهم ذلك بقوة في القضاء على انعدام الثقة في الاقتصاد البرازيلي.
مدّد الرئيس البرازيلي الأسبق خطة “ريال” التي كانت تقضي بوضع حدّ لسنوات الإفلاس الحاد واحترام شروط صندوق النقد الدولي، الذي كان قد وافق على منح البرازيل قرضًا بقيمة ثلاثين مليار دولار قبل الانتخابات بأشهر قليلة، وفي نهاية 2005 أعلن الرئيس تسديد كامل القرض، وفي عام 2009 أصبحت البرازيل دائنة لدى صندوق النقد الدولي.
خرجت البرازيل من حالة المديونية لتتحول إلى دائنة، ففي عام 2009 عرض على البرازيل أن تشتري سندات صندوق النقد الدولي بقيمة 10 مليارات دولار لمساعدة الدول النامية التي تعاني مشكلات كانت البرازيل قد اعتادت عليها في السابق، إضافة إلى أن احتياطات العملة الخارجية شهدت فائضًا في البرازيل، بحيث تجاوزت 350 مليار دولار.
تبنت حكومة رئيس البرازيل الأسبق “لويس إناسيو لولا دا سيلفا” في عام 2009 شعار “البرازيل، القوة العالمية الخامسة”، مشيرة بذلك إلى أن البرازيل بطاقاتها الكامنة قادرة على دفع البلاد إلى نفس المستوى الذي تتمتع به الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الصين أو الهند على المستوى العالمي، معتمدة في هذا الشعار على أن البرازيل تتمتع بخيارات تؤهلها إلى الاكتفاء الذاتي في النفط والغاز.
الرئيس البرازيلي وضع أيضًا أولولية للحد من الفقر، من خلال برنامج مساعدة كبرنامج “المنحة العائلية” و”مساعدة الفلاح البرازيلي”، مما جعله يستطيع أن يساعد ملايين من البرازيليين في الخروج من دائرة الفقر، ورفع دخل الفرد البرازيلي في حدود 30% مع ارتفاع للعملة، مما يجعل زيادة الدخل حقيقية وليست وهمية.
اعتمد “لولا دا سيلفا” في برنامجه التنموي على امتلاك البرازيل قدرات طبيعية ضخمة، من أراضٍ زراعية شاسعة وأنهار وأمطار بوفرة كبيرة، ومناخ جعل منها منتجة لمحاصيل زراعية متميزة، عليها طلب عالمي وغير متوفرة في بلاد أخرى، مثل البن وأنواع من الفواكه، وكذلك أيضًا ثروات معدنية ونفطية هائلة، واعتمدت البرازيل على تصدير هذه المنتجات الخام في السنوات الأولى في حكم “لولا”.
تمتلك البرازيل طاقات طبيعية نادرة ومذهلة من غابات وشواطئ وجبال مؤهلة وبقوة لاجتذاب أفواج سياحية كبيرة، وشهدت البرازيل في الفترة السابقة نموًّا ملحوظًا في هذا المجال، ونجحت في استقبال 5 ملايين سائحًا سنويًّا، مما يساهم كذلك في إنعاش الاقتصاد وتحقيق مزيد من النمو.
وفيما يخص النهضة الصناعية البرازيلية، تشغل الصناعة 20% من اليد العاملة النشيطة وتساهم بحوالي 44% في الناتج الداخلي الخام، وتتميز الأنشطة الصناعية بالتنوع؛ فإلى جانب الصناعات الاستهلاكية كالغذائية، والصناعات الثقيلة كالصلب والكيماوية، تطورت الصناعات العالية التكنولوجيا، كما أصبحت البرازيل أكبر منتج للسيارات في أمريكا اللاتينية، وأصبحت المنتجات الصناعية تمثل 65.7% من مجموع الصادرات.
بعد أن عززت البرازيل اقتصادها وأصبحت من أقوى دول أمريكا اللاتينية، سعت إلى تقوية نفوذها على الساحة الدولية، حيث استطاعت خلال أعوام قليلة أن تكوّن شبكة دبلوماسية واقتصادية شاسعة من أمريكا الجنوبية إلى جنوب إفريقيا، ومن أوروبا إلى آسيا، في سابقة من نوعها في تاريخ هذا البلد.
وضع “لولا” خطة جديدة للعلاقات الدبلوماسية منذ وصوله إلى سدة السلطة، مُعْرِضًا عن سياسة “العملاق الاقتصادي والقزم السياسي”، ساعيًا إلى تثبيت دعائم سياسة البرازيل الخارجية، التي تتوق إلى أن تصبح عملاقًا اقتصاديًّا وسياسيًّا على السواء.
لم يكن بعد المسافات بين البرازيل والمنطقة العربية ليقف حاجزًا أمام تطوير علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياسية وحتى ثقافية، في هذا الإطار عكست مرحلة الرئيس البرازيلي السابق “لولا” طفرة نوعية في تغيير السياسة الخارجية للبرازيل منذ 2003، والتي تقضي بتعزيز العلاقات مع دول الجنوب ومنها العالم العربي.
وترجمت هذه العلاقات بين البرازيل والدول العربية إلى إنشاء “قمة أمريكا اللاتينية ـ الدول العربية” المعروفة اختصارًا باسم “ASPA”، وهي آلية ثنائية للتعاون الإقليمي، ومنتدى للتنسيق السياسي، وتأسست سنة 2005، وعلى المستوى الاقتصادي زاد حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والبرازيل من 4,5 بليون دولار أمريكي عام 2000 إلى أكثر من 20 بليون دولار أمريكي بحلول العام 2008.
ونظرًا للأهمية التي تحتلها القضية الفلسطينية، فإن الرئيس “لولا” عيَّن مبعوثًا خاصًّا له في الشرق الأوسط، وافتتح مكتبًا في رام الله يمكن من خلاله مواصلة العمل الدبلوماسي، وبدا الموقف البرازيلي واضحًا فوصفت الخارجية البرازيلية الوضع في فلسطين بأنه “احتلال”، وأوصت بضرورة العمل على إيجاد حل عادل للمعاناة الفلسطينية.
أكثر ما ساعد البرازيل للصعود والخروج من التبعية الأمريكية، قوتها الاقتصادية الهائلة، حيث ظلت خلال السنوات الماضية تسجل معدلات نمو مرتفعة، وشهدت تنويعًا كبيرًا في مصادر الدخل واتساعًا للشراكات وتناميًا كبيرًا في التجارة الخارجية، وفوق هذا تمتعت البلاد أيضًا بسوق ضخمة، حيث تصل مساحتها إلى 8,5 مليون كلم مربع، وبعدد سكان ما يقارب 200 مليون نسمة.
ويؤكد أغلب المراقبون أن أسباب صعود قوة البرازيل وتعاظمها، كثرة مظاهر الأداء الاقتصادي ودعائمه، والنفوذ السياسي الإقليمي والدولي المتنامي، على خلفية قوتها الداخلية بما فيها من موارد طبيعية كثيرة، واقتصاد فلاحي بالغ القوة والتنوع والتوسع، إضافة إلى توافر الأيدي العاملة وكون الشباب الشريحة الأعرض على هرم السكان، وارتفاع مستوى التأهيل وجودة مخرجات النظام التعليمي، وتوافر الاستقرار وصلابة المؤسسات.
لعبت البرازيل أدوارًا جيوبوليتيكية مؤثرة في فضائها الإقليمي، من جهة، وعلى صعيد عالمي ضمن مجموعة الدول البازغة “البريكس”، من جهة أخرى، فضلًا عن منتدى “إيبسا” للحوار الذي يضم الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وهو تحالف استراتيجي للدفاع عن المصالح المشتركة للدول النامية داخل المؤسسات الدولية، وكأرضية للتعاون الثنائي والثلاثي.
في عملية الاندماج في المجتمع الدولي أيضًا، عملت السياسة الخارجية البرازيلية على المشاركة الفعالة في المنظومة العالمية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني، من خلال مهام حفظ السلام، كما استطاعت البرازيل أن تضمن عضويتها في قمة العشرين، وهو عبارة عن منتدى دولي لاتخاذ القرارات العالمية.