عن جدوى الكتابة
الإبداع النسوي فداء وانبعاث أم نكوص واندحار؟
فائزةداؤد
يشغل السؤال عن جدوى الكتابة بعض الغارقين في اليومي والمعيش من شعوب العالم الثالث،
وأقدر أن الكثير من الشعراء والروائيين والقصاصين لاحقهم هذا السؤال وربما شكّل صدمةً لهم لأنهم بكل بساطة، وبينما هم غارقون في همهم الإبداعي، بعيدون عما يشغل العالم المحيط بهم... يأتي هذا السؤال ليقول لهم: ما جدوى مشروعكم إذا لم ينتج مشاريع استثمارية وعقارية كبيرة؟ ولاسيما أن هناك من يرى أن الكتابة هي عمل يقوم به أحدهم لمصلحة جهة معينة، وهذا النوع من الكتابة يجب أن يحترم لأنه وحده يصنع ثروة وحضوراً للكاتب الطامح للشهرة.
وللإجابة على السؤال عن جدوى الكتابة يكفي أن نذكر رأي «هوراس» المختصر في الكتابة وجدواها والذي يقول فيه: عاش الكثير من الأبطال قبل أخيل وآغا ممنون وهكتور وبريام وهؤلاء جميعاً طواهم النسيان الطويل وظلوا مجهولين ولامن يبكيهم، لأنهم لم يكن لديهم شاعر ينشد بطولاتهم ويغني عذاباتهم.
الأكثر حظاً
ويرى «هوراس» أن البشرية بعد هوميروس أكثر حظاً ممن عاشوا في زمن ماقبل زمن القصائد الهوميرية، ذلك لأن القصائد والقصص والروايات، ودائماً وفق ما يرى «هوراس»، ستكون فداء للبشرية وهي التي سوف تحقق انبعاثا لأقنوم المحبة وعودة لأقنومي الحق والعدالة، ويرى «هوراس» أن الكتابة الجادة والعميقة يفترض بها أن تحقق شرطها المأمول الذي يتجلى قبل كل شيء في تسمية الأفعال البشرية المقيتة والمشينة وذلك من خلال توصيفها بدقة وعمق من دون أن نغفل ضرورة إعطائها قواماً أدبياً رشيقاً ومستساغاً يجعل الناس يقبلون على قراءتها بنهم كي يصبح فكر الإنسان أكثر حكمة وتعقلاً وتالياً ينعكس تأثير القراءة بشكلٍ إيجابي على أفعاله المعلنة والمضمرة مع أخيه الإنسان والطبيعة المحيطة به بكل مكوناتها.
بداية لابد من القول: إن رأي «هوراس» في الكتابة الإبداعية يعني بكل تأكيد أن النص المكتوب يشكّل قوةً وحضوراً، وهو في الوقت ذاته يعني إضعافاً وربما تحطيماً لقوى الشر التي تكيد لأنصار المحبة بوصفهم سذجاً وتتربص بقوى العدالة والخير لأن قوى الشر تعدّهم أغبياء ومغفلين، وهنا لنا أن نسأل عن النصوص التي خضعت لرؤية «هوراس» حول الدور المأمول للكتابة ونسقطها على واقعنا العربي وتحديداً على النصوص التي أبدعتها المخيلة النسائية.
المخيلة النسائية
ترى هل اشتغلت الكتابات النسوية وفق رؤية «هوراس» أم تراها جنحت عنها ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن العقود الأخيرة عرفت حراكاً إبداعياً نسوياً مثيراً للاهتمام ويكاد أن يساوي في كمِّ إصداراته ما كتبه الرجل خلال المدة الزمنية ذاتها، وبعيداً عن المقارنة بين ما كتبه الأدباء الرجال والأديبات النساء، وهو بكل تأكيد لا يصب في مصلحة إبداعات المرأة الكاتبة كون تجربتها الإبداعية حديثة الولادة، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه ويتعلق بما قدمته نصوص المرأة الأديبة للحركات النسوية العربية... بمعنى آخر: هل جعلت الكتابات النسوية حياة المرأة أفضل ؟ مثلاً: هل ساهمت هذه النصوص في إنقاص عدد النساء الأميات في العالم العربي ؟ وهل رفعت هذه النصوص الحيف والظلم عن المرأة؟
أخيراً : هل أثرت كتابات المرأة في رأي المشرٍّع فجعلته يخفف من تحامله عليها ووصفها بأنها أقل مرتبة من الرجل ؟ بمعنى آخر هل أعاد ذلك المشرِّع النظر فيما نسب إلى السلف الصالح من أقوال عن النساء فقال عنهن أنهن «كاملات» عقل ودين، وأن حظوظهن يجب أن تكون مساوية لحظوظ الرجال؟ هل أعيد النظر في قانون الأحوال الشخصية ؟.
على أن السؤال الذي يبدو أكثر إلحاحاً - وفق مايرى بعض من يعمل في القضاء أو يدخل في أروقته السرية - يتعلق باللغة الدونية والخادشة التي تتداولها المحاكم دون الأخذ بالحسبان مشاعر المرأة وتحصيلها الأكاديمي والإبداعي.
ترى هل عجزت إبداعات المرأة عن استبدال تلك اللغة التي يعود تاريخ استخدامها إلى عصر القين والجواري بلغة حضارية وإنسانية تنسجم مع المستوى العلمي والأدبي الذي وصلت إليه المرأة؟.
ليس جديداً القول: إن الكتابة النسوية أو لنقل النصوص النسوية كانت ردة فعل على اضطهاد المرأة أو طريقة حضارية اختارتها المرأة المبدعة من أجل الاحتجاج على العنف الذي يمارس عليها وعلى بنات جنسها من قبل المجتمع بشكل عام والذكوري منه بشكل خاص، فالذكر، ومنذ هزيمة الأنثى على يده وهدم معابد الآلهات وبروز مبدأ الملكية، نصب نفسه بطركاً تختلف مرتبته تبعاً للمكان الذي أتيح له أن يتبوأه. ففي الأسرة يكون الأب هو رب الأسرة وبطركها ووريثه الوحيد هو الذكر الأول، وتتسع دائرة البطركة طرداً مع ازدياد عدد التابعين والموالين، فالبطرك في القبيلة هو شيخها يسن ويشرع، يحلل ويحرم بما يراه مناسباً، وهو غالباً يخدم مصالحه الشخصية ونزواته الآنية، ولا يختلف الأمر كثيراً في المجتمعات المدنية حيث تتخذ البطركة لبوساً مختلفاً، فمدير الشركة هو رب العمل يعطي ويحرم يعزل وينصب... إلخ.
لعنة التفكير
لم تنل هذه التركيبة الاجتماعية رضا المرأة المصابة بلعنة التفكير، رغم أنها خضعت لها مكرهة ولاسيما أن ملكية الذكر تطول مايقيتها وما يستر عريها أحياناً، والقانون الذي صاغه الذكر وصار من تراث الذاكرة الجمعية يحكمها ويجعلها معزة ضالة بعيدة عن حملان خاضعة إن هي تمردت على قانون البطرك ورفضت أعطياته التافهة.
لكن هذا الخضوع لم يستمر أو لنقل لم يعد كلياً بعد مطالبة المفكر الكبير قاسم أمين بتعليم المرأة، وهذه المطالبة جوبهت في حينها من قبل رجال الدين بالرفض والاستهجان، ورغم ذلك كان هناك من يرسل بناته إلى المدارس وثمة من حذا حذوهم وهذا بدوره أدى إلى انتشار التعليم بين الإناث، ومع مرور الأيام عممت هذه الظاهرة وانتشرت وصارت قانوناً، ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه ويتعلق بردة فعل المرأة صاحبة الروح الشاعرة والمبدعة بعد اكتشافها للعالم الذي صاغه الرجل تبعاً لمصالحه ورغباته متجاهلاً الآخر الذي جعله الرجل تابعاً وجزءاً يسيراً منه.
يكمن الجواب فعلا في المنتج الأدبي الذي حمل في بداياته روح المغامرة والتحدي، وقلة أولئك الذين يعلمون أن ثمة مبدعات دفعن حياتهن ثمناً لصرخاتهن الإبداعية في وجه النظام البطريركي ورغم ذلك استمرت قافلة الإبداع، ونصاً إثر نص توضحت قضية المرأة الكاتبة التي تبين فيما بعد أنها اشتغلت على الفكرة أكثر من اشتغالها على الفن. وقد كان هذا في بعض الأحيان مأخذاً على تلك النصوص المليئة بالاحتجاج والثورة على السلطة الذكورية كونها تتحمل مسؤولية شقائها وتخلفها وفشلها... ولكن سيكتشف المتابع لتلك النصوص أنها اشتغلت على النتائج ولم يلامس حبرها الأسباب وهذا ما جعل تلك النصوص لا ترقى إلى مستوى رؤية «هوراس» وتالياً حكم على قضية المرأة أن تراوح في مكانها لتصبح فيما بعد قضية يتناولها البعض بسخرية وتظل في الوقت ذاته في عمقها وقانونيتها وشرعيتها مهمة الرجل الذي لا يخضع برأي المشرعين للميول والأهواء يفتي بها كما يشاء متجاهلاً ما وصلت إليه المرأة في جميع مجالات الحياة وما أنجزته على الصعد كلها.
رؤية «هوراس»
أخيراً من المؤسف القول: إن ما وصلت إليه المرأة لم يدفع من نصبوا أنفسهم حماة لقوانين أكل الزمان عليها وشرب إلى ترك المرأة تصوغ قدرها بنفسها، حيث ظل الذكر يفكر عنها ويقرر مصيرها من دون أن يستشيرها حتى فيما يخص أنوثتها وأمومتها وجسدها، ومن يطلع على قانون الأحوال الشخصية سيتساءل عن الزمن الذي أنتج قانوناً كهذا.. ولكن، هل يجعلنا هذا نصاب باليأس ؟ كأن نقول: إن مقولة «هوراس» عن الأدب هي حلمية يمكن إدراجها تحت نطاق التمني وربما الإنشائية. أقدر أن قضية المرأة ليست فقط محكومة بالأمل وبمبدأ التطور بل هي كذلك خاضعة لما ستبدعه مخيلة المرأة في العقود القادمة، والتي يفترض بها أن تشتغل حصراً وفق رؤية «هوراس».