المعاطف المقلوبة
صبحي حديدي
6/7/2010
مقالاته الأحدث أخذت تقتفي الموضوعات التالية: الثناء
على الموقف الفرنسي في رفض انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، والرثاء
لحال قطاع غزّة الواقع تحت سيطرة 'حماس' (ولكن دون كلمة عن العدوان الوحشي
الإسرائيلي، أو الحصار البربري)، والمراهنة على أنّ سقوط صدّام حسين
(والإحتلال الأمريكي للعراق، إستطراداً) هو السبب الأوّل في الحراك الشعبي
الذي شهدته إيران بعد الإنتخابات الرئاسية الأخيرة. موضوعات أخرى تتضمن
مديحاً لكتاب رديء بعنوان 'المعرفة الخطرة'، يكرّسه روبرت إروين للنيل من
كتاب 'الإستشراق'، 1978، ومن إدوارد سعيد شخصياً؛ ومراجعة متعاطفة مع كتاب
ليس أقلّ رداءة وسطحية، هو 'كافرة'، للصومالية ـ الهولندية أعيان حرسي علي؛
وأخيراً، مقالة بعنوان 'الحرب داخل الإسلام: المخاطر المتزايدة للخصام
الشيعي ـ السنّي'، يؤكد فيها أنّ المعركة بين المذهبَيْن آتية لا ريب فيها،
وضمنها حرب باتت وشيكة 'بين الطائفة العلوية التي تحكم سورية، والإخوان
المسلمين السنّة'!
هذه المعرفة، وهي خطرة أوّلاً، قبل أن تكون استفزازية
أو سجالية أو إشكالية أو تبسيطية، لا تصدر عن مستشرق متعصّب متحزّب، أو
ضحيّة زائفة محترفة، أو معلّق جاهل أحمق؛ بل ينتجها بهمّة عالية رجل كان
ذات يوم عقلاً لامعاً دائم التغريد خارج السرب، وناقداً ثقافياً دائب
الإنشقاق عن المألوف، ومعلّقاً سياسياً منحازاً إلى القضايا الخاسرة:
الكاتب البريطاني ـ الأمريكي كريستوفر هتشنز. ولم يكن غريباً أنّ منحنى
الإنحدار هذا كان بدأ مع تأييد قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش غزو العراق،
وقرار هتشنز بالتوقف عن الكتابة في مجلة The Nation، أعرق دوريات اليسار
الأمريكي والمنبر البارز الذي احتضن كبرى قضايا الإنشقاق الفكرية والسياسية
في الولايات المتحدة، على هذه الخلفية: معارضة هيئة تحرير المجلّة، ومعظم
كتّابها، لغزو أفغانستان والعراق.
آنذاك، في زاويته المعتادة، كتب
هتشنز مقال الوداع الذي حمل عنوان 'المراسلة الختامية'، استعرض فيه جرائم
نظام صدّام حسين، وخصّ بالذكر مغامرتَيه العسكريتين الفاشلتين في إيران
والكويت (وكلاهما تمّ بـ'ضوء أخضر من واشنطن'، حسب يقينه)؛ ولقاء محمد عطا
(قائد مجموعة تفجيرات 11/9) بالدبلوماسي العراقي محمد العاني في براغ، وذلك
بهدف التخطيط لتفجير إذاعة 'العراق الحرّ'؛ وعلاقة المجموعة الكردية
الأصولية 'أنصار الإسلام' بكلّ من أسامة بن لادن وصدّام حسين... أسباب كهذه
كانت تشكّل 'تهديداً قذراً' في نظره، وتبرّر بالتالي تأييد الحرب، رغم أنه
لا يأمل خيراً من بوش في 'معركة المجتمع المدني' التي 'تستعر في العالم
الإسلامي من أندونيسيا إلى نيجيريا'، لأنّ 'الحمقى وحدهم هم الذين يأمنون
تسليمه هذه المهمة'.
الحكاية، مع ذلك، كانت أعمق من مجرّد اختلاف مع
هيئة تحرير المجلة، أو مع معظم كتّابها، أو حتى مع تسعة أعشار معارضي حروب
بوش في أمريكا وأوروبا وأربع رياح الأرض. ففي نقاش عاصف مع طارق علي،
الكاتب البريطاني الذي شارك هتشنز في العديد من معارك الإنشقاق السياسية
والفكرية، أعاد الأخير هزّة 11/9 إلى فتوى الإمام الخميني ضدّ سلمان رشدي
وروايته 'الآيات الشيطانية'. وأمّا 'الحرب على الإرهاب' فإنها تستمدّ
شرعيتها من كون 'الأصولية الإسلامية فاشية متخفية خلف قناع الإسلام'. وهي
حرب 'مناهضة للكهنوت'، رغم أنّ الذي يقودها رجل مسيحي هو جورج بوش؛ والذين
يعارضونها هم من النوع الذي إذا عثر على أفعى خبيثة في سرير طفله، فإنّ
أوّل ما يفعله هو الإتصال بجمعية الرفق بالحيوان!
ورغم أنّ عراق اليوم
أبعد ما يكون عن الديمقراطية التي حلم بها وحثّ عليها، وأكذوبة أسلحة
الدمار الشامل كشفت سوأة مؤسسات القرار العليا وكبرى وسائل الإعلام في
أمريكا وبريطانيا بصفة خاصة، فإنّ هتشنز لم يتوقف عن محو العديد من مواقف
الحقّ التي اتخذها على امتداد مسارات حياته. آدم شاتز، أحد أفضل الكتّاب
اليساريين اليهود في أمريكا، يسجّل أنّ آراء هتشنز المؤيدة لحروب أمريكا
قادته إلى 'مواقف غريبة' في قضايا أخرى، كأنّ يكفّ عن الاعتراض على استخدام
وزير الدفاع الأمريكي السابق، دونالد رامسفيلد، عبارة 'ما يُسمّى الأراضي
المحتلة' في وصف الضفة والقطاع؛ وأن لا يجد مشكلة في الإنذار الذي وجهه بوش
إلى الفلسطينيين: إمّا التصويت ضدّ عرفات، أو العيش إلى الأبد في ظلّ
الإحتلال؛ ثمّ الذهاب أبعد، إلى درجة امتداح خيارات بوش في السياسة
الخارجية.
ولا يلوح أنّ مآلات الغزو الكارثية، سواء في افغانستان او في
العراق، قد فتّت في عضد صاحبنا، وها أنه ـ في كتابه الجديد 'هتش 30:
مذكرات'، الذي صدر قبل أيام ـ يعيد التغنّي بسيرته الشخصية، وكيف بدأ
تروتسكياً يدعو إلى قتال الشوارع ضدّ الرأسمالية؛ وهو اليوم مصاب بهستيريا
تأييد سياسات أمريكا ضدّ 'الإسلامو ـ فاشية'، حسب تعبيره، المستمدّ مع ذلك
من قاموس المحافظين الجدد. وهو يعقد فصلاً خاصاً لتبيان اغتباطه بالتخلّص
من 'الطوباويات'، وبلوغ 'حكمة سنّ الستين' و'نضج العمر الوسيط'، و'اليقين
بأنه لا يقين إلا عدم وجود اليقين'. وإذا كان راضياً إلى هذه الدرجة
بالمعطف اليميني الذي يرتديه، فلماذا يستشيط غضباً لأنّ أمثال نوام شومسكي
وأوليفر ستون وغور فيدال وجون بيرغر ومايكل مور... لم يقلبوا معاطف اليسار
على قفاها، كما فعل هو؟
qla