مشكلة العِلم في أمريكا
(*)لقد واجهت الولاياتُ المتحدةُ بشجاعةٍ الحكوماتِ المستبدةَ اليمينية
منها واليسارية؛ وربما هي الآن تواجِهُ بجسارة تحديا أعظم من الداخل
باختصار اتخذ عدد كبير من المنتمين إلى الحزبين الرئيسيين، والمتنافسين على منصب سياسي في انتخابات سنة 2012، مواقف مناهضة للعلم، مثلا، ضد نظرية التطور، وفكرة التغير المناخي الناتج من أنشطة بشرية، وضد التلقيح، وإجراء أبحاث في موضوع الخلايا الجذعية وغير ذلك. وتثير هذه المواقفُ الدهشةَ، لأن الاقتصاد عامل مؤثر في هذه الانتخابات، ثم إن نصف النمو الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية يمكن عزوه إلى الابتكارات في العلوم والتقانة. لقد أخطأ الموالون إلى الأحزاب على طرفي الطيف السياسي بنكرانهم العلم؛ ولكن الجمهوريين بوجه خاص، هم الأكثر خطورة لأنهم يهاجمون العلم نفسه. ويجب على الناخبين الأمريكيين الضغط على المرشحين وعلى الموظفين المنتخبين كي يُعبِّروا عن مواقفهم من المشكلات العلمية الرئيسية التي تواجه الأمة، وإلا فإنهم يجازفون بخسارة السباق العلمي أمام الدول ذات السياسات المبنية على الواقع. |
من الصعب إجراء تحديد دقيق للتاريخ الذي أصبح فيه مقبولا لسياسيي الولايات المتحدة أن يكونوا مناهضين للعلم. فقد كانت العلوم طوال نحو قرنين من الزمن قوة أخلاقية ذات مكانة مرموقة في السياسات الأمريكية. ومنذ الحرب العالمية الثانية، كانت الابتكاراتُ العلمية المحركَ الموجه للنمو الاقتصادي للولايات المتحدة. وفي ستينات القرن الماضي، كان الطلبة يجتمعون في كافتيرات المدارس كي يشاهدوا على شاشات تلفازات, محمولة على عربات, صورَ الإطلاقات الصاروخية نحو القمر والهبوط عليه. ومن ثم، فإن الفتوحات العلمية التي حدثت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، أشعلت شرارة الثورة الحاسوبية والاقتصاد المعلوماتي الحديث. واستحدث التقدمُ في علوم الحياة المبنيُّ على نظرية التطور أنشطةَ التصنيع في التقانة البيولوجية. وثمة أبحاث تُجرى هذه الأيام في علوم الوراثة يُتوقع أن تؤدي إلى إحداث تغييرات في فهمنا للأمراض ومجالات الطب والزراعة وحقول أخرى.
كان الآباء المؤسسون(1) شديدي الاهتمام بالعلم. فقد اعتمد المحامي والعالِمُ <.Th جيفرسون>(2) في تسويغاته الرئيسية لاستقلال أمريكا على مفاهيم كل من: <.I نيوتن> و<.F بيكُن> و<.J لوك> وهم، بالترتيب مستحدثو الفيزياء وأسلوب التفكير الاستقرائي والفلسفة التجريبية، فسمَّى هؤلاء الأشخاص «ثالوثه لأعظم ثلاثة رجال.» وكان <جيفرسون> يُحاج في قوله إنه إذا كان بإمكان أي شخص التوصل إلى اكتشاف الحقيقة بالتفكير المنطقي والعلم، فمن الطبيعي ألا يكون أي كائن آخر أكثر دنوا إلى الحقيقة منه. وكنتيجة لذلك، لا يمتلك أولئك، الذين يشغلون مواقع سلطوية، الحقَّ في فرض اعتقاداتهم على الآخرين. ويحتفظ الشعب نفسه بهذا الحق غير القابل للانتزاع. وبفضل هذه الحجج المؤسسة على قواعد العلم - أي المعرفة الناتجة من دراسات واختبارات منظمة بدلا من مزاعم أيديولوجية - توضحت صيغة جديدة لدولة ديموقراطية وضوحا بديهيا.
ومع ذلك، فعلى الرغم من تاريخ الولايات المتحدة وثرواتها الحالية غير المسبوقة والناجمة عن العلم، أخذت تَحيدُ عن أساسها العلمي، فبعد انقضاء نحو 236 عاما على وثيقة إعلان الاستقلال، التي خطّها <جيفرسون>، نجد في أحزاب رئيسية في دورة انتخابات عام 2012 عديدا من المتنافسين على منصب سياسي متخذين مواقف لا يمكن وصفها سوى أنها «مضادة للعلم»، بمعنى أنها ضد نظرية التطور والتغيير المناخي المسبَّب بشريا وضد أبحاث الخلايا الجذعية والتلقيح وأشياء كثيرة غيرها. حتى إن حاكما سابقا لإحدى الولايات قد حذّر من أن حزبه الجمهوري في خطر أن يصبح «الحزب المناهض للعلم.»
من الممكن صرف النظر عموما عن أمثال تلك المواقف بالادعاء أنها ليست سوى مجرد نماذج لمظاهر في عام إجراء الانتخابات، لو لم تكن تعكس تطابقا مع اتجاهات ضد العقلانية. وقد أخذت هذه الاتجاهات تكتسب زخما في الولايات المتحدة في ذلك الوقت بالضبط الذي يتطلب فيه النمو الاقتصادي والتهديدات الخطيرة لرفاه الأمة، إحاطة أفضل بالقضايا العلمية الحاسمة. وبإبعاد الرأي العام عن المبادئ المناهضة للاستبداد التي أنشأها مؤسسو هذه الأمة، فإن المواقف المستجدة الرافضة للعلم تخلق أزمةَ وجودٍ قلّما واجهت الدولة مثيلا لها من قبل.
وبسبب القلــق المتنامي من هذه النــزعة، أَقْـدَمَ في أواخر عام 2007 ستة وأنا واحد منهم على محاولة القيام بعمل شيء ما لمعالجتها، وهم الفيزيائي <.M .L كراوس>، والكاتب العلمي والمخرج السينمائي <.M تشابمان> (وهو من سلالة أحفاد <تشارلز داروين>) والمختص في فلسفة العلوم <.A ديسي> والكاتب الـعـلـمي <.C مـوني>، وعــالمـــة البيـــولـوجيــا البحريــة <.S كرشنبوم>. فقد قررنا الضغط لإجراء مناظرة في العلوم بين المتنافسين على منصب الرئاسة. فاستحدثنا لهذه الغاية موقعا على شبكة الإنترنت، وشرعنا في الاتصال بعلميين ومهندسين. وفي غضون أسابيع وافق على المناظرة 38000 شخص، من ضمنهم عدد كبير من رؤساء شركات كبرى، ومجموعة صغيرة من أعضاء الكونگرس من كلا الحزبين، وعدد من حائزي جائزة نوبل، وكثير من الجامعات الأمريكية الرئيسية، وجميع المنظمات العلمية الكبيرة تقريبا. وعلى الرغم من اعتذار كلا المتنافسين <باراك أوباما> و <جون ماكين> عن إجراء مناظرة بينهما في قضايا علمية، إلا أنهما أجابا كتابيا عن الأسئلة الأربعة عشر التي طرحناها عليهما والتي قرأها ملايين الناخبين.
أما في الدورة الانتخابية لعام 2012، فقد وضعنا قائمة مشابهة سميناها «أسئلة العلوم ذات الأولوية الأمريكية»، يُطلب فيها إلى المرشحين لأي منصب رسمي الإجابة عنها. [ويمكن الاطلاع على الإجابتين الكاملتين لمرشحي الرئاسة وكذلك على إجابات الزعماء الرئيسيين للكونگرس عن جزء من تلك الأسئلة في الموقعين الإلكترونيين الآتيين: www.ScientificAmerican.com/nov2012/science-debate و www.sciencedebate.org/debate12].
ومع أن هذه الجهود تمثل محاولة لمواجهة المشكلة، إلا أن سؤالا أوسع يبقى مفتوحا، ألا وهو: ما الذي حوَّل كثيرا جدا من الأمريكيين إلى اتخاذ مواقف مضادة للعلم، علما بأن العلم، هو بالذات، الأداة التي غيرت حياتهم نوعا وكما؟
تتضمن مناهضة العلم بين الديموقراطيين(3) الاعتقاد الخاطئ بأن التلقيح يؤدي إلى مرض التوحد. أما الجمهوريون(4) الرافضون للعلم فينكرون التغير المناخي والبيولوجيا التطورية. |
دعوة إلى التعقل(**)
إن المواقف الرافضة للعلوم غير الملائمة تأتي اليوم من قِبل مشايعي الأحزاب في كلا طرفي الطيف السياسي. فالدافع للموقف الرافض للعلوم عند مؤيدي الديموقراطيين هو سوء ظن لا سند له بوجود أخطار خفية، على الصحة والبيئة. ومن الأمثلة الشائعة على ذلك الاعتقاد بأنّ الهواتف الخلوية تسبب سرطان الدماغ (لكن فيزياء المرحلة الثانوية تُبيِّنُ استحالة حدوث ذلك)، أو الاعتقاد بأن اللقاحات الواقية من الأمراض تسبب مرض التوحد (إلا أن العلم يبين عدم وجود أي ارتباط مهما كان بينهما). أما مردّ الموقف الرافض للعلوم عند الجمهوريين فينحو إلى أن يكون بدافع من الحماس في مناهضة التشريعات الناظمة وأيضا من التّزمّت في مواضيع تتعلق بالتحكم في دورة الإنجاب والتكاثر. ومن الأمثلة الأخرى اقتناعهم الراسخ بأن الاحترار العالمي ليس سوى خديعة (إلا أن بلايين القياسات تشير إلى أنه حقيقة واقعة)، وكذلك دعوتهم إلى وجوب تعليم أطفال المدارس «الموضوع الذي يتصورون أن الآراء تختلف فيه» وهو ما إذا كانت الحياة قد نشأت على كوكب الأرض من خلال تطور على مدى ملايين السنين، أو أنها قد نشأت بفعل مصمم ذكي خلال آلاف السنين (يتفق العلماء على أن التطور حقيقة). ومن بين هذين النمطين من المواقف الرافضة للعلوم، فإن النمط الجمهوري أشد خطورة لأن الحزب أخذ على عاتقه مهاجمة صحة العلم بالذات كأساس للسياسة العامة وذلك عندما لا يتفق العلم مع أيديولوجية الحزب.
هذا، ولا يسرني التصريح بأن عائلتي هي التي أنشأت فرع الحزب الجمهوري في ولاية مينيسوتا. ولكن الحزب الجمهوري اعتمد في كثير من سياساته نهجا سلطويا مطالبا بتكيّف أعضائه مع أيديولوجيته، حتى ولو كان فيها تناقض مع أدلة علمية، أما أولئك الذين لا يتكيفون فيُنبذون من غير مساءلة. وقد ينجح هذا النهج في تجانس نسيج الأعضاء، ولكنه يؤدي في نهاية الأمر إلى إقصاء المفكرين بمختلف اتجاهاتهم - علما بأن المفكرين هم الذين نحتاج إليهم لحل المشكلات المعقدة في أيامنا هذه.
لقد خلّف هذا النهج مجموعة كبيرة من ناخبين صامتين، الذين هم محافظون ماليا، ومتسامحون اجتماعيا ومؤمنون بالعلم وبالسياسة المبنية على الأدلة ولكنهم تخلوا عن الحزب. هذا، وقد قوبلت هجمات الجمهوريين على القضايا الراسخة علميا - كالتطور والتغيّر المناخي المسبَّب بشريا - في معظم الأحيان، من قبل الديموقراطيين بالصمت، أو بما هو أسوأ بالمهادنة.
ويُقدم الحاكم <رومني> في مسار إقراره تشريعا يتعلق بحماية البيئة، مثالا يجسد المشكلة. إذ إنه أبلغ الناخبين بعد إعلان ترشيحه في الشهر 2011/6، خلال اجتماع عُقد في قاعة المدينة ما يلي: «أنا، بطبيعة الحال، لا أنطق بلسان المجتمع العلمي، ولكنني أعتقد أن حرارة العالم تزداد. وأنا لا أستطيع إثبات ذلك، ولكنني بناء على ما قرأتُ، أعتقد أن العالَم يزداد حرارة، وأعتقد ثانيا أن البشر يسهمون في ذلك.» ولكن بعد أربعة أيام شنَّ المعلق الإذاعي <.R ليمباو> Limbaugh في برنامجه هجوما عنيفا على هذا الموقف ل<رومني> قائلا: «وداعا للترشيح، وداعا للترشيح، واحد آخر لن يُرشح. نحن هنا في خضمِّ اكتشاف أن كل ذلك كان خديعة hoax. فقد ثبت في العام الفائت أن الادعاء بأن الاحترار العالمي هو من صنع الإنسان ما هو إلا خديعة. ومازال مرشحون للرئاسة راغبين في تقبّلها تماما.»
وبحلول الشهر 2011/10، أخذ <رومني> يعبر عن تغيير في موقفه، إذ صرح أمام جمهور من أنصاره في مدينة پتسبرگ قائلا: «رأيي هو أننا لا نعرف ما الذي يسبب تغير المناخ على كوكب الأرض. وإن إنفاق تريليونات وتريليونات الدولارات في محاولة للحد من انبعاث ثنائي أكسيد الكربون، فكرة ليست المسلك الصحيح لنا.» ومن ثم فقد دعا إلى تنقيب فعّال عن النفط. وفي اليوم التالي لانعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، عاد وغيّر اتجاهه فجأة نحو الموقف الذي اتخذه عندما قدم إجاباته إلى الموقع الإلكتروني ScienceDebate.org في الشهر 2011/6 عندما قدم إجاباته إلى الموقع الإلكتروني ScienceDebate.org.
عندما تصبح الحقائق آراء، تنهار عملية صنع القرار الجماعي في النهج الديموقراطي، إذ يغيب القاسم المشترك - المعرفة - الذي يمكنه جمع الفرقاء المتعارضين معا. |
لم يكن <رومني> وحيدا في إدراك الضرورة السياسية لتبني آراء مناهضة للعلم، فرئيس مجلس النواب الأمريكي <.A.J بوشنر>، الذي يسيطر على تدفق كثير من المعلومات في الكونگرس، نادى في إحدى المرات باعتماد تدريس نظرية الخلق(5) لطلبة المدارس في دروس العلوم. كما أكد على شاشة التلفاز الوطني أن علماء المناخ يلمحون إلى أن ثنائي أكسيد الكربون مادة مسرطنة، مع أنه من المعروف علميا أنها ليست كذلك. وحذرت <.M باكمان> [ممثلة مينيسوتا في مجلس النواب الأمريكي] خلال مناظرة الانتخابات الأولية التي جرت في ولاية فلوريدا سنة 2011 من «أن فتيات صغيرات بريئات في سن الثانية عشرة أُجبرن حكوميا على التلقيح بڤيروس الورم الحليمي البشري (HPV)(6) لمنع العدوى»؛ وأضافت في وقت لاحق أن التلقيح سبَّبَ «تخلفا عقليا»، ولكنه في الحقيقة يمنع السبب الرئيسي لسرطان عنق الرحم. ويعتقد المتطرفون دينيا أنه يشجع الاتصال الجنسي غير الشرعي. ولا يوجد أي دليل على وجود صلة لهذا اللقاح بالتخلف العقلي.
وفي مناظرة منفصلة، سُئِلَ <.J هنتسمان> [أحد مرشحي الحزب الجمهوري] عن تصريحات كان قد أدلى بها مفادها أن الحزب الجمهوري سيغدو الحزب المناهض للعلم، فأجاب: «كل ما أود قوله هو أنه كي يتسنى للحزب الفوز في معركة انتخابية، عليه ألا يهرب من العلم.» وكما يبدو فإن الناخبين الأوليين(7) في الانتخابات التمهيدية لم يوافقوا على ذلك، وقد حصل <هنتسمان> [وهو المرشح الوحيد الذي يساند العلوم بقوة] على أقل عدد من أصوات الناخبين.
وفي الواقع، فإن المرشحين الذين يتخلفون في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري غالبا ما يلجؤون إلى التصريح بعبارات مناهضة للعلم، ومن ثم ترتفع الأصوات التي يحصلون عليها عند الاقتراع. فمثلا <.H كين>، الذي يتمتع بسمعة حسنة في دوائر الأعمال، أبلغ الناخبين «بأن الاحترار العالمي هراء.» أما <.N جنگرتش>، الذي دعم مضاعفة ميزانية المؤسسات الوطنية للصحة، وهو أيضا من مؤيدي ScienceDebate.org بدأ يصف أبحاث الخلايا الجذعية بأنها «قتل أطفال بغية الحصــول على مــواد للبحـث.» ووصف المرشحان <.R پيري> و <.R پول> التغير المناخي بأنه خديعة. وفي الشهر 2012/2 علّق <.R سانتورم> متذمرا من وصم اليساريين للجمهوريين بأنهم مناهضون للعلم بقوله: «كلا، كلا، نحن لسنا كذلك، إنما نحن حزب الحقيقة.»
برزت السياسة المناهضة للعلم بشأن الأمور الجنسية على السطح ثانية في الشهر 2012/8، وكانت هذه المرة في إحدى أشد المعارك منافسة في الانتخابات لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي. فقد صرح <.T آكن>، الذي كــان ينافس <.C ماك كاسكل> في ولاية ميزوري قائلا إنه فَهِمَ من أطباء أنه من النادر جدا أن تحمل امرأة نتيجة اغتصابها «اغتصابا قانوني(8)» لأن لجسم الأنثى طرقا لمحاولة غلق كل شيء. ولكن ينبغي على السيد <آكن> أن يعي ما يقوله العلم عن القضايا السياسية الأساسية، خاصة وأنه عضو في لجنة العلوم والفضاء والتقنية التابعة لمجلس النواب الأمريكي، وهي اللجنة المسؤولة عن كثير من المشاريع العلمية الفدرالية للولايات المتحدة. وفي الواقع، تشير الدراسات إلى أنه ربما يتضاعف عدد النساء الحوامل نتيجة اغتصابهن. وعلى أي حال، لا توجد آلية بيولوجية لوقف الحمل في حالة الاغتصاب. والحقيقة أن وجهات نظر السيد <آكن> ليست عادية بين خصوم الإجهاض الذين يسعون في غالب الأحيان إلى التقليل مما يقوله العلم كي يبرروا اتخاذ موقف سياسي من مناهضة الإجهاض، بلا استثناء، وهو الموقف الذي أصبح فيما بعد جزءا من البرنامج السياسي على المستوى الوطني للحزب الجمهوري لسنة 2012.
ويتبين من إلقاء نظرة على سباقات الانتخابات على مستوى الولايات المتحدة أن الأمور قد تغدو أسوأ. إذ من المرجح أن كثيرا من المشرعين المناهضين للعلم، الذين اُنتخِبُوا في مجالس الولايات سنة 2010، سيعملون على وضع آرائهم في المجرى السائد للسياسة حين يخوضون، عاجلا أو آجلا، انتخابات الكونگرس. وفي سنة 2012 تناولت الهيئة التشريعية بولاية ساوث كارولاينا مشروع القانون رقم 819 الذي يمنع استعمال التقديرات المستقبلية لارتفاع مستوى سطح البحر المعتمدة من قبل معظم العلماء بغية التخطيط لحماية المناطق المنخفضة. (يُتنبأ بارتفاع مستوى سطح البحر نتيجة للاحترار العالمي.) ويسمح القانون المقترح بالتخطيط لارتفاع مقبول سياسيا وقدره ثماني بوصات فقط بدلا مما يتوقعه العلماء وهو ثلاثة إلى أربعة أقدام للمنطقة في سنة 2100.
وفي الشهر 2012/6 اتخذ الجمهوريون في ولاية فيرجينيا إجراءً مماثلا، بعد دراسة حكومية مُكَلَّفة، بحظر استعمال المصطلح «ارتفاع مستوى سطح البحر،» وطالبوا باستعمال المصطلح «فيضانات متكررة» بدلا منه، لأن الأول يعتبر من مفردات الجناح اليساري حسبما صرح به أحد المشرعين.
تطور الموقف الأمريكي المناهض للعلم(***)
لم تنتقل الحركة الأمريكية المناهضة للعلم من حافة المجتمع إلى مركزه بين ليلة وضحاها. ومن الممكن تتبع جذور الحركة إلى ما قبل نحو قرن في الحملات الانتخابية للمرشح الديموقراطي <.J .W براين> للانتخابات الرئاسية لثلاث مرات، الذي اتسمت حملاته بالأصولية ضد نظرية التطور، مدعيا أن هذه النظرية تسبب انحطاطا أخلاقيا عند شباب الأمة بتقويضها سلطة الكتاب المقدس.
وعلى الرغــم من خسارته أمام كل من <.W ماك كنلي> و<.H .W تافت> اللذين كانا مؤيدين للعلم، فإن <براين> واصَلَ حملته في جميع أنحاء الجنوب الأمريكي في سعيه إلى استبعاد نظرية التطور عن أن تدرس في الصفوف الدراسية الأمريكية. وفي نهاية الأمر سَنَّت ولاية تنيسي قانونا يمنع تدريس أي نظرية تُنكِر قصة الخلق الإلهي للإنسان كما تُعلَّم في الكتاب المقدس، ويمنع القانون أيضا أن يدرس بدلا منها أن الإنسان منحدر من حيوانات أدنى منزلة. والتغطية الإعلامية، الناتجة من محاكمة <سكوپس> والمشهورة باسم «محاكمة القرد»(9) جعلت عامة الأمريكيين يَنْأَون بأنفسهم عن الأصولية الدينية طوال جيل من الزمن، كما دفعت الحملات المتواصلة ضد التطور معظم العلماء إلى الحزب الجمهوري.
وعندما نَشَبت الحرب العالمية الثانية، اكتسب العلم بريقا جديدا. فقد اعتمد <فرانكلين روزڤلت> [الرئيس الأمريكي آنذاك] على العلوم كسلاح فكري للمساعدة على الانتصار في الحرب. فطلب <روزڤلت> إلى <.V بوش>(10) [الذي كان يرأس ما يسمى معهد كارنيگي للعلوم] أن يتولى مهمة إرشاد وتنظيم مشروع الولايات المتحدة العلمي. وقد نجحت جهود <بوش> مما أدى إلى تطوير الرادار والمطاط الصناعي وإنتاج البنسلين على نطاق واسع والقنبلة الذرية. وبعد الحرب، أقنع <بوش> الرئيس <هاري ترومان> بأن الاستثمار الفدرالي المستمر للعلوم يمكن أن يجعل من الولايات المتحدة زعيمة عالمية.
لقد أتى الاستثمار بثماره. ولكن تدفق التمويل الفدرالي المستمر كان له تأثير جانبي غير متوقع، إذ لم يعد العلماء في حاجة إلى استمالة عموم الناس أو المشاركة في أحاديث عامة بغية تمويل أبحاثهم. ونتيجة لذلك بدؤوا بالانسحاب من الحوار العام الوطني للتركيز بإمعان أكثر على أعمالهم البحثية وحياتهم الخاصة. ومن ناحية أخرى صارت أنظمة الجامعات تسمح بتثبيت الأساتذة في مناصبهم، مما جعلهم بعيدين عن الجماهير. وانتهى الأمر بالعلماء إلى أن يروا الانخراط في المهمات المدنية والسياسية عبئا مهنيا.
وعندما انخفض صوت العلم وآل إلى الصمت، بدأ صوت الأصولية الدينية بالانبعاث. وقد أدت حالة القلق الأخلاقي الناجمة عن القنبلة الذرية عند الكثيرين، إلى التنبؤ بقرب نهاية العالم، فبرزت موجة جديدة من الإنجيليين الأصوليين. ومن أشهر هؤلاء واعظ شاب ذو قابلية فذة على سحر الجماهير بمواعظه، اسمه <.B گراهام>، فقد قال في سنة 1949: «يعلم الناس في جميع أنحاء أوروبا أن الوقت ينفد»، ثم استطرد قائلا: «روسيا تمتلك الآن القنبلة الذرية، فالعالم مقبل نحو سباق تسلح يدفعنا إلى الدمار.»
وقد وسّع التحكم المتزايد في الإنجاب الصدعَ خلال السنوات التالية، إذ يشعر المحافظون دينيا بأنه ينبغي على الإنسان عدم التدخل في المخطط الإلهي، فشجبوا الشعبية المتزايدة لحبوب منع الحمل في ستينات القرن الماضي، وأثاروا في سبعيناته نقاشا فيما إذا كان «أطفال الأنابيب»، الناتجون من تلقيح صناعي يمتلكون أرواحا، وأعادوا تعريف الحمل ليبدأ عند لحظة الإخصاب، بدلا من الازدراع implantation في جدار الرحم، وحاجوا في أن الإجهاض جريمة قتل.
وزاد العار الذي لحق بالعلم مع نمو حجم الجماهير. ففي خمسينات القرن الماضي كان الأطفال يلعبون في ضباب المبيد الحشري DDT الذي ترشه شاحنات في المناطق المجاورة. بيد أنه في سنة 1962 التي نشرت فيها <.R كارسن>(11) كتابها «الربيع الصامت»(12) عرفنا أن هذا المبيد الحشري سام. وتكرر هذا النمط مرارا وتكرارا حين ظهرت للعيان عواقب غير متوقعة على الصحة والبيئة للعلوم المستغلة تجاريا لغرض الربح السريع. واندلعت فضائح مماثلة لتأثيرات عشرات التطبيقات الصناعية بدءا من ثنائي أكسيد الكبريت إلى الأمطار الحمضية، وإلى نوع من هباءات جوية(13)، وإلى الثقب في طبقة الأوزون، والبنزين الحاوي لمركبات الرصاص، والضعف الإدراكي(14)، وإلى ما هو بمثابة «السلف» لها جميعا الوقود الأحفوري، والتغير المناخي العالمي.
إن تلك الحوادث المؤسفة الناتجة من الصناعات أدت إلى وضع ضوابط علمية جديدة تسمى علوما ضابطة(15) regulatory science للصحة والبيئة. ولكن القيود المتزايدة دفعت شركات الصناعات الأقدم في حقول الكيمياء والنفط والأدوية إلى معارضة القيود الجديدة لحماية مصالحها التجارية. فوجد أصحاب هذه النظرة أنفسهم في تحالف طبيعي مع الأصوليين الدينيين المتزايدين بسرعة والذين يعارضون تدريس نظرية التطور. وسرعان ما شكل التمويلُ الصناعي والجنود المشاة(16) المتدينون أساسا جديدا للحزب الجمهوري. وقد صرح <.R ريگان> في خطاب تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة سنة 1981 بقوله: «لا يكمن الحل في هذه الأزمة الحالية في الحكومة، إنما الحكومة هي المشكلة.» هذا وإن التحالف المناهض للعلم وللعلوم الضابطة يُحدّد اليوم إلى حد بعيد الأحزابَ السياسيةَ، ويساعد على تفسير سبب أن - وفقا لمسح سنة 2009 - تسعة من كل عشرة علماء من المرتبطين بحزب سياسي رئيسي قالوا إنهم ديموقراطيون.
وهذا التزاوج للمال الصناعي مع قيم الأصوليين منح الحركة الأصولية سلطة متجددة في الجدل العام، فعادت الجهود من جديد إلى مقاومة تدريس نظرية التطور في المدارس العامة في العديد من الولايات. وفي الواقع، أصدرت مؤخرا كل من ولايات تنيسي وساوث داكوتا ولويزيانا تشريعات مشجعة كي تُدرس في مدارسها العامة الانتقادات التي لا تسوّغ نظرية التطور. وفي سنة 2012 شَنَّ المشرعون الإنجيليون وأعضاء مجالس المدارس في ولايات أوكلاهوما وميزوري وكانساس وتكساس وألاباما حملات مماثلة، كما ورد في البرنامج السياسي للحزب الجمهوري لولاية تكساس نصٌّ ينتقد «تدريس مهارات التفكير النقدي وما شابهها من برامج والتي.. غرضها تحدي معتقدات الطالب الثابتة وتقويض السلطة الأبوية.»
فلسفة مناهضة للعلم(****)
إذا كان الحزبان الديموقراطي والجمهوري قد ارتديا كلاهما عباءة المناهضة للعلم، فلماذا لا يُكتفى فقط بالانتظار إلى أن يتأرجح النواس (البندول) مرة أخرى فتفقد التوجهاتُ الرافضةُ فعاليتَها السياسية؟ إن الحجة لاتخاذ إجراء ما تستند إلى الإدراك أنه، وللمرة الأولى منذ بداية عصر التنوير في أواسط القرن السابع عشر، تُجرى حملات عامة ممولة تمويلا سخيا هدفها التشكيك على نطاق واسع في صميم الفكرة بأن العلم وسيلة لتثبيت سجل معرفي للعالم.
ومن المفارقات أن الوسيلة الفكرية المستغلة حاليا من قبل اليمين السياسي لإحداث مثل تلك التأثيرات السلبية قد نشأت أصلا في اليسار الأكاديمي. ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي انتشرت حركة فلسفية تسمى «ما بعد الحداثة»(17) postmodernism بين أساتذة فروع الدراسات الإنسانية المستائين لكونهم معزولين عن العلم الذي اعتبروه جنوحا نحو اليمين. فقد تبنت فلسفة ما بعد الحداثة أفكارا للأنثروبولوجيا الثقافية ومن نظرية النسبية(18) لاستنتاج أن الحقيقة نسبية وخاضعة لفرضيات وتحيزات المشاهد. فادعوا أن العلم ما هو إلا مجرد واحدة من طرائق كثيرة للمعرفة، وطريقته ليست أكثر ولا أقل صحة من غيرها، مثل تلك التي سلكتها الشعوب البدائية أو سكان الولايات الأمريكية الأصليون أو النساء. ومن ثم فإنهم عرّفوا العلم بأنه طريقة المعرفة عند الرجل الغربي الأبيض، ووسيلة للاضطهاد الثقافي. ورنَّ صدى هذه الحجج عند كثير من الحركات النسائية والنشطاء في مجال الحقوق المدنية، وغدت معتمدة على نطاق واسع، وهذا أدى إلى «الصواب السياسي»(19) الذي يكرهه <ليمباو> كرها مبررا، والذي سخر منه <.W آلن>(20) بنعته «إنه استمناء ذهني(21)».
إن قبول هذه النظرة النسبية إلى العالم يقوض الديموقراطية، ولا يؤدي إلى التسامح بل إلى الاستبداد، إذ إنه قبل ثلاثة قرون تقريبا بيَّن الفيلسوف <جون لوك> [وهو واحد من ثلاثة أعظم رجال في ثالوث <جيفرسون>] الأسباب لذلك الاستنتاج. فقد راقب <لوك> مختلف الزمر البروتستانتية المتجادلة، التي كان كل منها يدعي أن دينه هو الدين الصحيح الوحيد. فتساءل: كيف نعلم أن شيئا ما صحيح؟ وما هو أساس المعرفة؟ لذا عرّف في سنة 1689 مفهوم المعرفة وكيف أنها ترسخ على مشاهدات للعالم الطبيعي، وذلك في كتابه بعنوان: «مقال خاص بالفهم البشري(22).» فكتب أن كل ادعاء يفشل في اجتياز هذا الاختبار لا يكون معرفة، إنما هو مجرد إيمان أو رأي. لقد كانت هذه الفكرة - بأن العالم قابل للمعرفة وأن المعرفة الموضوعية التجريبية هي الأساس لأكثر السياسات العامة اعتدالا - هي التي قامت عليها حجة <جيفرسون> التأسيسية للديموقراطية .
والمعادلة الزائفة بين المعرفة والرأي تجعل أتباع فلسفة ما بعد الحداثة وكذلك المحافظين المناهضين للعلم يعيدون تفكيرنا إلى عصر ما قبل التنوير(23)، تاركين السياسة العامة من دون أساس مشترك. فيتحول عندئذ التخاطب العام إلى آراء متصارعة لا نهاية لها، ولا ينظر إلى أي رأي منها على أنه أكثر صوابا من غيره. وتتحدد السياسة بأعلى صوت ارتفاعا، ونتحول إلى عالم القوة وهي التي تصنع الحق - وهو التعريف التقليدي للاستبداد.
تسللت فلسفة ما بعد الحداثة إلى جيل من برامج التعليم الأمريكية، كما أشار إلى ذلك <.A بلوم> في كتابه «انغلاق العقل الأمريكي(24)». ومن ثم فإن هذه الفلسفة تفشت أيضا في الصحافة، حيث صارت العبارة «ليس هنالك شيء من قبيل الموضوعية» تتكرر في غالب الأحيان وكأنها تعويذة.
إن المراسلين الذين يتفقون مع هذه العبارة ليسوا بحاجة إلى البحث العميق كي يحصلوا على الحقيقة، إنما سيميلون بكل بساطة إلى عرض «كلا الجانبين» للقضايا المثيرة للجدل، لا سيما إذا لم يكونوا قادرين على الحكم على صحة الأدلة العلمية. ويغدو هذا التوازن الكاذب مشكلة عندما يستند أحد الجانبين إلى المعرفة، والجانب الآخر إلى مجرد رأي، وهي حالة غالبا ما تحدث عند تقاطع مشكلات السياسة مع العلم. إذا لم تناضل الصحافة لنقل الحقيقة الموضوعية التي تكون الأدلة العلمية فيها هي المرشد الوحيد المعول عليه، فإن سفينة الديموقراطية ستجري على غير هدى من المنطقة التي يوجد فيها الناخبون من ذوي الاطلاع الحسن، وتصبح الديموقراطية مرة أخرى عرضة للطغيان الذي كان يخشاه <جيفرسون>.
أزمة وجودية(*****)
يقول <.J آدمز>(25): «إن الحقائق أشياء عنيدة؛ فمهما كانت رغباتنا، ومهما كان لدينا من ميول، أو ما تمليه عواطفنا علينا، لا يمكن تغيير حالة الحقائق والأدلة.» وعندما تصبح الحقائق آراء، تبدأ العملية الديموقراطية الجماعية لصنع السياسة بالانهيار، إذ يغيب القاسم المشترك - وهو المعرفة - الذي يمكن أن يجمع الأطراف المتعارضة معا. وتصبح الحكومة رجعية ومكلفة ومتأخرة في حل المشكلات، أو يغرق الحوار الوطني في آراء متصارعة.
إن عصرا يؤثر فيه العلم في كل جانب من جوانب الحياة - بدءا مما هو في غاية الخصوصية كالعلاقات الجنسية والإنجاب إلى ما هو في غاية العمومية كالتغيُّرات العامة في المناخ والاقتصاد - وفي زمن أصبحت فيه الديموقراطية النمط السائد على هذا الكوكب، فمن المهم في مثل هذا العصر أن يدفع الناخبون جميع المسؤولين المنتخبين ومرشحي جميع الأحزاب إلى التحدث بصراحة عن وجهات نظرهم في أسئلة العلم الكبرى التي تواجه الأمة. وبطرح هذه القضايا في الحوارات العامة، يكتسب مواطنو الولايات المتحدة فرصة اكتشاف ما إذا كان أولئك الذين يقودونهم يمتلكون الثقافة والحكمة والشجاعة الضرورية للحكم في قرن يُسيَّر علميا والحفاظ على الديموقراطية للجيل القادم.
المؤلف
| Shawn Lawrence Otto |
المؤسس المشارك للموقع الإلكتروني ScienceDebate.org، ومؤلف كتاب عنوانه «اخدعني مرتين»: مكافحة الانقضاض على العلوم في أمريكا(26). وهو حاصل على جائزة «الخدمات المتميزة العامة» التي تمنحها جمعية مهندسي الكهرباء والإلكترونيات (فرع الولايات المتحدة) (27) IEEE. ويكتب في الموقع الإلكتروني Huffington Post. ويدوِّن Neorenaissance.org. | |
مراجع للاستزادة
(*) AMERICA’S SCIENCE PROBLEM
(**) A CALL TO REASON
(***) THE EVOLUTION OF AMERICAN SCIENCE DENIALISM
(****) AN ANTISCIENCE PHILOSOPHY
(*****) AN EXISTENTIAL CRISIS