مبادئ وإبدالات البحث المعرفي[1]
فرانسوا راستيي
ترجمة: عبد المجيد نوسي
ـ
الإمبراطور: ما هي الدلالة الأولى التي تعطى للمعرفة المقدسة؟ ـ
بوديدارما: إنها واسعة وبدون قدسية! مسلمات
البحث المعرفي: منذ
عشر سنوات، نلاحظ تأكيد تجميع للاتجاهات، نسميه في فرنسا بالبحث المعرفي (Recherche cognitive
)
وفي العالم الأنكلوساكسوني بالعالم المعرفي (cognitive
science
). جرد هذه التخصصات لا
يخضع لحصر ويختلف حسب المؤلفين. الإعلاميات واللسانيات وعلم النفس المعرفي هي علوم
تذكر دوما في هذا السياق وتشكل، بدون شك، مركز هذا التجميع. العلوم العصبية،
المنطق وفلسفة اللغة تثار في أغلب الأحيان، ولكن يظهر أن العلوم العصبية وحدها
التي يوجد حولها إجماع[2]. نلاحظ لنختم، غياب أي علم اجتماعي آخر، غير اللسانيات،
وهو ما يمنحه، بكل تأكيد، مسؤوليات خاصة. أ
ـ تذكير تاريخي موجز، يمكن أن يكون مفيدا، لا سيما أن تاريخ البحث المعرفي ما زال
يتطلب الإنجاز. التقاربات
الأولى بدأت تظهر في نهاية الخمسينيات. في اللسانيات، تسجل نظرية تشومسكي، داخل
مشروعها نفسه، تأثير النظرية السبرنطيقية للتحكم الآلي. يضاف إلى هذا أن الملكات
اللسانية تعتبر مثل مؤشر على القدرات المعرفية للذهن البشري، بل بسذاجة، على
أفكاره الفطرية[3]. في
علم النفس، سلوكية سكينر بدأت تنتقد، وبدأ الابتعاد عن الوضعية الشيئية لتنمية علم
نفس معرفي مغاير للنظريات السريرية[4]. في
الإعلاميات، تم في 1956، خلق المفهوم الذي كان ما يزال آنذاك في طور البرمجة،
مفهوم الذكاء الاصطناعي، وسار البحث في اتجاه صورنة الاستدلالات البشرية إلى وضع
حلول للمشاكل (انظر:General problème solver de Newell et Sinon
) في الستينيات، نما التعاون بين اللسانيات والإعلاميات، (أ) في
مجال اللسانيات الكمية، (أأ) في الأبحاث، التي كانت مخيبة للآمال، حول الترجمة
الأوتوماتيكية، و(أأأ) مع الحدود الأولى المشتركة في اللغة الطبيعية[5]. التعاون
بين علم النفس والإعلاميات تدقق بشيء من التأخير، في العقد 1965-1975، وخاصة مع
تحديد علوم الدلالة-الذاكرة الأولى التي وجدت أصداء مهمة في علم النفس المعرفي
(انظر: Collins
et Loftus, 1975
) وخاصة ما يهم
الولوج إلى المعجم وكل ما يهم تأثير السياق على هذا الولوج. (انظر: أعمال Meyer
وschvanevelt
وكذلك أعمال Swinney
).
هذه
الأشكال من التعاون بدأت تتأسس في العقد الأخير، خاصة بعد أن خصصت مؤسسة Sloan
ملايين الدولارات لهذا الغرض (ابتداء من سنة 1977). وكانت المجلات
مثل (العلم المعرفي 1977) أو نظرية المعرفة والدماغ، التي توحدت الآن، الأنوية،
لهذا التعاون الذي أصبح مؤسساتيا. في
الوقت الحاضر، نصل شيئا فشيئا إلى التطبيقات الصناعية، بل ونكون أوائل المهندسين
المعرفيين، المكلفين خاصة بتحقيق أنساق الخبرة. ب
ـ مع احتمال تقيدنا هنا بالتخصصات المركزية، يجب أن نبحث في الأسباب التي أدت إلى
هذا التجميع. إذا اتفقنا أن العلوم تشكل موضوعا، ربما الموضوع الأساسي للفلسفة،
يرجع إلى هذه وصف وضبط علاقاتها المتميزة بتعدد التخصصات. على أي حال، يبدو لنا أن
البحث المعرفي ينهض على مسلمتين متميزتين بطبيعة فلسفية، سيقوم، ربما، بتحويلهما
إلى أطروحات علمية. 1
ـ الثنائية التقليدية بين العقل والدماغ يجب أن تكون ضيقة، ربما إلى حد الاختفاء.
بعبارة أخرى، العقل والدماغ ينتميان إلى نفس "مستوى الوجود" أو مستوى
الواقع. هذه الفرضية تعد بالتأكيد فرضية مادية. ملاحظة:
لقد حكم عليها طبعا بالاختزالية (انظر خاصة الانتقادات الموجهة للإنسان العصبي) في
حين أن الاتجاه الاختزالي يقتضي، أكثر من الإبقاء على الفرضية، الإقناع بها. إذا
كانت المادة تفكر، فإن المشكل الأساسي –الذي تتركه هذه المسلمة في الظل- يظل مشكل
العلاقات بين الدماغ وباقي الجسد. التوازيات السهلة والسريعة بين الأدمغة
والحواسيب تنبني، عامة، على نسيان الجسد: تنصب النقاشات على التمثلات، طرائق
الاستدلال، الخ… ولكن تترك جانبا في أعم الأحيان المشكل الرئيسي للإدراك. 2
ـ يستطيع الإنسان أن يحاكي اصطناعيا الصيرورات الذهنية. هذه الفرضية الثانية التي
تلخص حتى كلمات الذكاء الاصطناعي التباساتها بطريقة بليغة. أمكن تأويلها بطرق
مختلفة. (أ)
التأويل في حده الأدنى ينحصر في اصطناع "المخارج"، بدون الانشغال بإعادة
إنتاج العمليات التي تنبثق منها. في مجال الحوار إنسان-آلة، يمكن أن يؤدي هذا إلى
أنساق محادية يظل النموذج الأولي فيها هو إليزا (Eliza
) وإيزنبوم، ولكن أيضا إلى أنساق أكثر إحكاما، تتحكم في تمثلات
دلالية دون أن تكون أشكال هذه التمثلات ولا معالجتها، على الرغم من ذلك، مماثلة
لتمثلات الذهن البشري، (انظر: SHLRDU, de Winograd
). (أأ)
يمكن، مع قدر من الطموح، أن نعتبر أنه لإنتاج "مخارج" مماثلة، يعد من
الضروري اصطناع، وعلى الرغم من معرفتنا لها، العمليات الذهنية التي تنتج عنها.
يتوجه الإعلاميون، إذن، نحو علماء النفس، بل نحو الإحيائيين في مجال الأعصاب، من
أجل التدليل على صدق فرضياتهم. غير أنهم بالمقابل، يمكن أن يستلهموا ما يعرفونه عن
العمليات الذهنية لتحسين إنجازات أنساقهم، دون الادعاء مع ذلك إعادة إنتاج هذه
العمليات. (أأأ)
هنا يظهر التأويل الأقصى للفرضية الثانية للبحث المعرفي: من أجل تحقيق أكبر اصطناع
ممكن لاشتغال الدماغ، يجب معالجة المعلومات بواسطة شبكات من الخلايا الصورية. هذا
هو مبدأ النموذج الالتحامي، الذي تمت صياغته في الخمسينيات، والذي يعرف اليوم عودة
بالغة الاهتمام[6]. يمكن
أن نبني شبكة من الخلايا العصبية الصورية بواسطة برامج خاصة تدمج في آلات
كلاسيكية. ولكن للذهاب بعيدا، نعتبر أنه ينبغي توفير بنيات وأشكال أخرى: آلات
متطورة (تم تصورها لمعالجات أكثر توازيا)، بل حواسيب من نوع جديد. من
اصطناع "المخارج"، مثل الكلم، ننتهي إلى تصور اصطناع الأنسجة الدماغية
نفسها. كما
نرى، مفهوم الاصطناع يمكن أن يفهم بثلاث طرق رئيسية، توافق ثلاث درجات تصاعدية من
حيث الصدق: في الدرجة الأولى، التعاون بين اللسانيات والإعلاميات يمكن أن يفي
بالغرض، في الدرجة الثانية التنسيق مع علم النفس يصبح ضروريا، وفي الدرجة الثالثة،
يجب الرجوع إلى علوم الخلايا العصبية. ج
ـ مسلمة ثالثة، معرفية، هذه الأخيرة، تعد عموما مقبولة دون أن تكون موضع نقاش، مع
ذلك، المعرفة هي تمثيل رمزي للواقع. إذا
اتفقنا (أ) مع ديكارت بأن التفكير يقتضي الاشتغال بهذه التمثلات، و(أأ) مع هوبز
بأن الشكل الأسمى للفكر، الاستدلال يختزل إلى حساب[7]. إذن، آلة تشتغل برموز تعد
قادرة على التفكير في معارف[8]. هذا
يعضد المقارنة بين الدماغ والحاسوب اللذين يعتبران مثل أنساق مادية للحساب على
تمثلات رمزية[9]. هذه
المسلمة الثالثة تحايث مشروع الاصطناع، الذي يظهر في المقاربة القصوى للاتجاه
المعرفي، سواء في الذكاء الاصطناعي أو في علم النفس المعرفي: سنعرف حقيقة اشتغال
الدماغ حين نستطيع تحقيق اصطناعه بواسطة الآلات التي تعالج الرموز[10]. في مجال
اللسانيات، هذا يفضي إلى أننا لن نعرف حقيقة القدرات اللغوية البشرية واللغات إلا
إذا استطعنا أن ننتج وأن نعدد آليا كل الجمل النحوية لكل اللغات المؤكدة (بل وحتى
الممكنة)[11]. ـ
مشاكل إبستمولوجية على
الرغم من هذا التقديم الموجز، فإنه يثير سيلا من الأسئلة ذات الطبيعة
الإبستمولوجية. بدون أن ندعي، بطبيعة الحال، أننا وفينا الموضوع حقه، نطرح ثلاثة
أسئلة. أ
ـ مفهوم المعرفة يلعب، بطبيعة الحال، دورا مركزيا في البحث المعرفي. إذا كانت
نظريات المعرفة تتكاثر في تاريخ الفلسفة، يبدو جيدا أن البحث المعرفي يستعمل بشكل
موسع هذا المفهوم بدون البحث في تدقيق وضعه العلمي بوضوح. مثلا، في الذكاء
الاصطناعي وفي علم النفس المعرفي، نرجع، مرارا، لشبكات دلالية لتمثيل المعارف[12].
غير أن "المفاهيم" المحددة بواسطة هذه الشبكات تعد ببساطة محتويات
لغوية، ولا يجب أن نماثل المعنى والمعرفة بدون التساؤل عن العلاقة بينهما. بدون
تخصيصه أكثر، يجب أن نتفق أنه لا بالبسيط ولا بالفوري. بإيجاز، البحث المعرفي
انتظم لحد الساعة حول نظرية "تلقائية" للمعرفة ظلت، بشكل واسع، ضمنية.
لتكوين نظرية للمعرفة تستحق أن يقال عنها إنها علمية، يحصل تأخر في إظهارها؛ لأول
مرة في التاريخ، مشكل المعرفة لا يصبح، إذن، من صميم اختصاص الفلسفة وحدها. ب
ـ إن ضبط العلاقات بين التخصصات داخل البحث المعرفي، يستدعي تدقيقات أخرى. أولا،
نظام ووضع هذه التخصصات يعد غير متساو. يجب أن نتفق أن الإعلاميات، علم النفس
المعرفي، اللسانيات وعلوم الجهاز العصبي تستطيع، بدرجات مختلفة، أن تدعي لنفسها
اسم العلم. وهذا ما لا ينطبق على الذكاء الاصطناعي الذي يتميز بكل خصائص
التكنولوجيا. لهذا يمكن أن يشارك في كل التخصصات المذكورة آنفا، التي تجد فيه
تطبيقات، بل عمليات تطبيقية. إذا
اعتبرنا الذكاء الاصطناعي بمثابة علم، فإننا نصبح ملزمين، ضرورة، بالاستمرار في
هذا الخطأ الذي أصبح اليوم مبتذلا: الاعتقاد بأن التطبيق الذي يشتغل على شكل نسق
من أنساق الذكاء الاصطناعي، يدلل بهذه الطريقة نفسها، على صدق التصورات النظرية
التي كانت وراء تكوينه. والحال،
أن مفهوما إذا كان إجرائيا، على المستوى التقني، لا يكون على الرغم من ذلك،
إجرائيا في النظرية. الاحتفاظ بهذا الغموض لا يسمح للأبحاث المعرفية بأن تتنزه عن
الإيديولوجيا التقنوية التي نصف بها بشكل غير عادل المهندسين. باختصار،
حين يكون تطبيق معين ناجحا، هذا يدل فقط على أن هذا التطبيق تمت برمجته بطريقة
منسجمة، كيفما كانت، فضلا عن ذلك، قيمة معرفة التصورات المستثمرة[13]. حينما
يتم تجنب هذا الغموض، فإن الذكاء الاصطناعي، باعتباره تكنولوجيا، يستطيع أن يلعب
دوره المركزي مثل تخصص وسيطي. بالطبع، فإن العلاقات الثنائية بين التخصصات الأخرى
ليست مستثناة، غير أن الذكاء الاصطناعي يظل الفضاء الوحيد، الذي تستطيع فيه كل
التخصصات أن تعمل مشتركة في آن واحد، كما تبرز ذلك بشكل جيد الأنساق الالتحامية. ج
ـ يمكن أن نخصص التجميع الذي يكون البحث المعرفي بتأثيره على كل واحد من هذه
التخصصات. وهو تأثير قوي على الإعلاميات وعلم النفس المعرفي، أقل تأثيرا على
اللسانيات وضعيف على علوم الجهاز العصبي. تغيرات في الإشكالية تؤثر مع ذلك على
الإعلاميات وعلم النفس المعرفي، وفي القريب، إن لم يكن ذلك قد تم، على اللسانيات. هل
هذا يعني أن هذا التجميع يقود نحو اندماج كما يوحي بذلك الاسم الأنكلوساكسوني:
العلم المعرفي؟ في الوقت الراهن، كل تخصص له موضوعه الخاص وأهدافه الخاصة به.
البحث الحقيقي المشترك التخصصات لا يضعف ضرورة هذه الخصائص، ولكنه يمكن أن يحافظ
عليها بل يسهم في تقويتها. ملاحظة:
كثيرة هي المشاكل الراهنة للعلوم الإنسانية التي تجد مصدرها في تصور خاطئ لفكرة
التخصصات المشتركة، والتي تؤدي بكل تخصص إلى البحث عن شرعيته عند التخصصات الأخرى
إلى حد خلق شبه تخصصات هجينة[14] دون موضوع محدد. نتقدم بإعادة تخطيط حدود، بدون
فتور، وليس بالشرود داخل الحدود. إن
مفهوم التخصص المشترك الذي يقدمه اليوم نويل (Newell
) لتخصيص الذكاء الاصطناعي يلائم جيدا هذه التكنولوجيا المستقلة،
ولكن لا يجب أن يتوسع للبحث المعرفي في شموليته. لقد بينت التجربة أن المشترك،
العبر أو الميتا-تخصصات تعد في الواقع فلسفات لا تجرؤ على ذكر اسمها، وهي، في هذا
المجال على الأقل، دون الفلسفات التقليدية. ـ
إبدالات: لا
نستطيع، لحسن الحظ، تقديم رؤية ثابتة للأبحاث المعرفية، لأنها تخترق بواسطة نقاشات
متناقضة. أزمة
النمو الصحية التي تعرفها منذ سنوات عديدة الأبحاث المعرفية تفاقمت أخيرا. إبدالان
مغايران نظريا وتطبيقيا يتنافسان بالتباس: الاتجاه المعرفي المصطلح عليه
بالأرتوذكسي، والاتجاه الالتحامي[15]. هذه
التسميات نفسها تعد مضلمة: الاتجاه المعرفي لم يتكون أبدا بشكل أرتوذكسي ولا يظهر
بهذه الصفة إلا من وجهة نظر خصومه. وظلت أسسه الفلسفية مجهولة من طرف أغلب
المتحمسين له. الاتجاه
الالتحامي لا يعد "إبدالا جديدا"، فهو موجه، بطبيعة الحال، ليحل محل السابق.
الإبدالان يتنافسان، فعلا، منذ الخمسينيات، كل واحد يستفيد، على التوالي، من
صعوبات الآخر. الإشكاليتان
العلميتان مضاعفتان بنمطين فلسفيين (فلسفة تحليلية وفينومينولوجيا)، بأنطولوجيتين
ضمنيتين (فكر الانقطاع وفكر الاستمرار)، بل بشعريتين (استعارة الحاسوب واستعارة
الدماغ). إذا كان ذلك ضروريا، فالتذكير بهذه التقسيمات يصبح بالضرورة مغرضا؛ من
جهة، الفريقان مختلفان بشكل قوي؛ زيادة على أن الغموض يسود، إلى حد الساعة، في
النقاشات سواء تعلق الأمر بالاستدلال أو بما يهم المرجعيات النظرية. رغم
أن النقاشات تمركزت حول الذكاء الاصطناعي، فإن الإبدالين لا يهمان هذا التخصص
وحده. فيما
يأتي، نعني بالدرجة الأولى بالاتجاه المعرفي، الاتجاه المعرفي المتشدد وخاصة مدرسة
(M.I.T
)، التي يعد من أبرز ممثليها تشومسكي في اللسانيات وفودور في علم
النفس المعرفي. بصياغة انتقادات اتجاهها، لا نريد إدانة الذكاء الاصطناعي في ذاته.
إذا كان خصوم الاتجاه المعرفي يروق لهم إدانة الذكاء الاصطناعي، فإنهم ينسون، بطيب
خاطر، أن الانتقادات الأكثر ملاءمة للاتجاه المعرفي المتشدد، جاءت خاصة من الأعلام
البارزين للذكاء الاصطناعي، المصطلح عليه بالكلاسيكي (شانكز وويلكز خاصة)[16]. نذكر
أولا بما يسمح للأبحاث المعرفية أن تنعت نفسها بهذا الاسم. أ
ـ بالنسبة للإبدال المعرفي، يظهر أن له موضوعا مشتركا، المعارف. هذا الموضوع ليس
من نمط موضوع علم، وإلا فإن الأبحاث المعرفية يمكن أن تندمج داخل علم موحد، يتعلق
الأمر على الأصح، بتيمة متكررة. (أ) علم النفس المعرفي يعالج، حسب اختيار مسألة
الاستدلال، الاستنتاجات حول المعارف، تخزينها ومصادرتها[17]. (أأ) الذكاء
الاصطناعي يرتبط بإشكال تمثيل المعارف (أأأ) اللسانيات تقترح له نماذج من أجل
إنجازه. داخل هذا الإبدال المعرفة هي سيرورة تمثل يتم تصورها مثل ترجمة رمزية: (أ)
يتكون العالم من أشياء ومن حالات الأشياء. (أأ)
المعارف تعد تمثيلات رمزية لهذه الأشياء ولحالات هذه الأشياء. (أأأ)
الذكاء الاصطناعي، اللسانيات وعلم النفس لهم، خاصة، مسؤولية بناء تمثيلات رمزية
للمعارف نفسها، بطريقة يمكن معها القيام بإجراء حول هذه التمثيلات. هذا
الإبدال يحدد تصورا قائما على مقاربة الترجمة للمعنى: معنى رمز معين وترجمته إلى
رموز أخرى[18]. نعرض
إذن بأن تمثيل موضوع برمز وتمثيل رمز بآخر لا يوجد بينهما قاسم مشترك[19]. هذا
لا يمنع أن يكون هذا الفرق في غالب الأحيان مهملا، كما أن موضوعات العالم كانت في
حد ذاتها رموزا: في الأنتولوجيا المعرفية التلقائية، يقتسمون بالفعل خصائص، مثل
الرصانة والهوية[20]. زيادة
على ذلك، فإنه حينما لا يتم خلطه ببساطة باللغة (كما يشهد على ذلك الاستعمال
المعمم لكلمة مفهوم من أجل تعيين المدلولات اللسانية)، فإن الفكر نفسه يشبه
باللغة. ومن هنا أطروحة أن أي تمثل ذهني هو متوالية من رموز ذهنية، يصفها فودور
(لغة الفكر، 1975) أو ويرزبيكا (اللغة الذهنية، 1980) مثل نوع من اللغة الصورية.
هذا الافتراض كان ضروريا من أجل إدماج الفكر داخل تراكب من التمثلات الرمزية التي
تترجم بالتتابع. صورة سيرورة المعرفة التي تفرض نفسها إذن هي صورة التقميش[21]:
ترجمة متواليات من الرموز إلى متواليات أخرى من الرموز، وبالتالي ترجمة لغات من
درجة عالية إلى لغات من درجة دنيا. أن نعرف هو في نهاية المطاف تحويل لموضوعات إلى
وحدات أولية للمعلومات. فيما
يهم اللسانيات خاصة، هذا الجهاز النظري يفضي إلى نتيجتين رئيسيتين: 1
ـ من حيث الجوهر، المعنى اللساني يصبح تقريريا: الرموز اللسانية تعين موضوعات
للعالم. 2
ـ دور اللسانيات يرمي إلى تمثيل رموز اللغات الطبيعية بواسطة رموز اللغات الشكلية
(هو ما يفتح خاصة إمكانية التجذيرات الإعلامية). ب
ـ ولهذا لنخصصه عموما[22]، الإبدال الالتحامي ينتظم حول المعرفة بصفتها تكوينا،
تعلما ومصادرة للمعارف. والأفضل من ذلك، معرفة تدل على كل تفاعل مركب مع محيطه،
وليس فقط على النشاط الذهني لجهاز عضوي، المصطلح عليه بالعالي الذي يفترض أنه يبلغ
مداه عند الإنسان مع اللغة، بل مع اللغات. الأبحاث المعرفية تنفتح إذن على علوم
الجهاز العصبي. مفهوم
المعرفة يجد نفسه على الأقل في إطار التوسيع. (أ)
المعارف لا تحدد مثل تمثيلات. نضع حدا فاصلا مع نظرية الانعكاس (ولو في شكلها
اللينيني). (أأ)
لا تعد المعارف ضرورة واعية أو سهلة المنال. الدماغ لا يختزل إلى القشرة الدماغية،
كما لا يختزل الجهاز العصبي إلى الدماغ. (أأأ)
بالأحرى لا تعد المعارف ضرورة مفهومية، نستحضر بطواعية "مستوى ما تحت
مفهومي". (أأأأ)
بالأحرى، لا تتميز، ضرورة بطبيعة رمزية، سنعود في مكان آخر، بعد سمولنسكي، إلى
مفهوم "المستوى ما تحت الرمزي". وفي كل الأحوال العلوم المعرفية، ومن
ضمنها اللسانيات، لا يمكن أن تحصر دورها في وصف العمليات على مجموعة من الرموز. في
الوقت الذي يعالج الاتجاه المعرفي المتشدد بشكل تفاضلي الاستدلال والعمليات
الموجهة على الرموز، فإن الاتجاه الالتحامي يرتبط بشكل خاص بمشكل الإدراك
(البيولوجي أو الاصطناعي)[23]. يعطي
إذن أهمية خاصة للسياق (بالمعنى غير اللغوي للمفهوم) المكاني، الزماني بل القصدي:
كل إدراك لظاهرة يتوقف بشكل دقيق على محيطها، يتوقف أيضا على عوامل زمنية، ويتطور
مع الزمن، وهو محدد بغاية (اندفاع جهاز عضوي، قصدية فرد، هدف تجربة تطبيقية). ملاحظة:
كل هذا يغيب بطبيعة الحال عن التصورات المنطقية التي وضعها الاتجاه المعرفي
المتشدد؛ وداخل الذكاء الاصطناعي المسمى بالكلاسيكي، فإن الخصوم وبالتدقيق، الأكثر
تشددا للنزعة المنطقية، هم الذين خلقوا أو طوروا المفاهيم الأساسية الموجهة
لاستيضاح السياق (اللساني أو غير اللساني): الأفضليات لويلكس، الخطاطات والمدونات
لشانك. العلاقات
بين التخصصات تغيرت: خاصة، الإعلاميات التي فقدت تفوقها لفائدة علوم الجهاز
العصبي[24]. داخل
التخصصات، نعاين هكذا حدوث تقلبات، خاصة في الذكاء الاصطناعي. لا نبرمج ابدا آلية،
ولكن نعمل على تشريطها، لا نكتب قواعد، نخصص علاقات بين "خلايا شكلية"؛
لا نحصل على نتائج (أو على الأقل على متواليات رموز مؤولة مثل نتائج)، نضبط
تفعيلات مؤقتة أو ثابتة لبعض أجزاء الشبكة. الأنتولوجيا
التلقائية للاتجاه الالتحامي ليست منطقية، ولكن "فيزيائية": الموضوع ليس
وحدة لا منقطعة ومتسمة بهوية خاصة بها، ولكنها خصوصية متفردة على فضاء متصل، والتي
تتميز بأن تصفيفاتها يمكن أن تتغير بشكل لا نهائي. ج
ـ الأنطولوجيات التلقائية تبحث عن دعم عند فلسفات واضحة. العلم
المعرفي المتشدد يرث باعتزاز عن الفلسفة المنطقية-الوضعية كما نجدها أولا عند
فيتكنشتاين، روسل[25] وكارناب خاصة. وفي المجال الذي لا يعترف بانتسابه إليها،
تصبح بالنسبة إليه المعنى المشترك: مثلا، التصور التبسيطي للتمثل الذي أثرناه
أعلاه يجد مصدره في "التراكتتيس Tractatus
ot]]. هذه
الفلسفة تعقد مع العلم المعرفي علاقات وطيدة وبدون شك ضرورية. من جهة خلقت شروطا
نظرية من أجل وضع تصور للحواسب، وتعد صورتها الحامية سائدة على مستوى المتخيل
المعرفي. في هذه الحالة، هايدكر لم يخطئ حينما رأى في التكنولوجيا وخاصة
التكنولوجيا "السبرنطيقية" نتيجة قصوى للميتافيزيقا الغربية، ومن جهة
أخرى، الفلسفة المنطقية -الوضعية، وما بعدها الاتجاه المعرفي، تقترح كمثال رمزي
اللغات الشكلية- وهو ما لا يكون دون عواقب على التصور المعرفي للغات. وبشكل
تبايني، فإن بعض مؤيدي الاتجاه الالتحامي استحوذوا على بعض أشكال
الفينومينولوجيا[27] لمحاربة الاتجاه المعرفي على الساحة الفلسفية. لقد ساروا إذن
في نفس نهج دريفيس H.Dreyfus
في نقده الراديكالي للذكاء الاصطناعي وأبعد من ذلك، في نقده للوضعية المنطقية. غير
أن المعركة بين هاتين الفلسفتين فقدت بريقها الذي ميز مرحلة ما بين الحربين، ومن
الشفقة أن نرى كيف أن وينوكراد وفلورس (1986) يجمعان بشكل مدرسي مقاطع من (Sein
und Zeit
)
مؤمركة بنية، محمودة بكل تأكيد، تأسيس تصميم إعلامي جديد[28]. مع
الأسف، إن أعداء أعدائنا ليسوا دائما أصدقاءنا. الفينومينولوجيا الهيدجرية تعد
معادية للتكنولوجيا، في حين أن الاتجاه الالتحامي يبقى أولا شكلا للتجذر الإعلامي.
زيادة على ذلك، في الوقت الذي يسعى فيه الالتحاميون إلى الاستناد إلى الفيزياء
(انظر نظرية الانسجام عند سمولنسكي)، فإن الفينومينولوجيا الهيدجرية تتخلى،
مبدئيا، عن معالجة الكون الفيزيائي، بما في ذلك العالم البشري (بمعنى كيف أن
المعيش يمنحه معنى). في النهاية، فإن التكنولوجيا، في كليتها، توجد في اتجاه
الكائن، في حين أن الفينومينولوجيا تنتظم حول إشكالية الكينونة. باختصار،
في الوقت الذي يربط فيه الاتجاه المعرفي المتشدد علاقات وطيدة بالوضعية المنطقية،
فإن الاتجاه الالتحامي لا يمكن أن يدعي الانتساب، بحق، للفينومينولوجيا الهيدجرية.
د
ـ الإبدالان المتنافسان تطورا حول استعارتين متناقضتين. بالنسبة
للاتجاه المعرفي، القطب الاستعاري يتكون من الحاسوب. علم النفس المعرفي يبرز بوضوح
هذه الشعرية: "الأفراد يفترض فيهم أنهم يعالجون الخبر في زمن واقعي، في إطار
مجموعة أو بشكل متواز، تقميش نص ثم تنفيذه، تخزين معلومات في مختلف أنواع الذاكرة
(الذاكرة المنشفة، السجلات، الخ […])؛ الكل بطبيعة الحال، فإن المتشددين يعدون في
الطليعة (انظر، فودور، Fodor, The Modularity of mind, 1983
). أدب
الذكاء الاصطناعي ليس بأدب مدين: انظر: (Thinking
computers (Rapharel), Cognitive computers (Schank), Machines Who think
(McCorduck
).
ملاحظة:
هكذا، فإن آندلر يمكن أن يكتب: "أطروحة الذكاء الاصطناعي مزدوجة: أولا،
الحاسوب يعد احتمالا ذكيا، ثانيا، العقل البشري (الذي يحدد بصفته عضو الذكاء) يعد
–منظورا إليه من هذه الزاوية الملائمة- نسقا رمزيا ماديا أو توماتيكيا، بمعنى،
بنسبة قليلة، أنه الحاسوب. لنلاحظ بأن الأمر يتعلق هنا بقول دقيق جدا، وإذن، بقول
أكثر جرأة ولكن ربما أكثر خصوبة، من القضية القديمة التي يعد الدماغ وفقها
آلة"(1985، 46). في
حين أن التأكيد، ولو الضمني، بأن الدماغ يشتغل مثل حاسوب لا يبدو لنا من طبيعة
يمكن أن تسهم في تطوير البحث. زيادة على أنها تسير بعكس المعطيات الأولية، تفترض
منتهيا ما يبقى قابلا للبرهنة. إن قيام الذكاء البشري بتفويض بعض وظائفه للحواسيب
لا يبرر أي تماثل يخص اشتغالهما وأيضا بنسبة أقل بنيتهما. يجب
أن نذكر بأن بنية واشتغال الحواسيب ذات الاستعمال العام الحالي نتجت بالخصوص عن
اختيارات تمت في الأربعينيات انطلاقا من أهداف (عسكرية بالأساس) ومن إكراهات
تكنولوجية للمرحلة. وفون نيومان (Neuman
) نفسه كان يتمنى تحديد أنماط أخرى من الآلات غير تلك التي حظيت
بحمل اسمه، والتي لم يكن أقل مجانية مقارنتها مع الدماغ البشري. الحاسوب
الكلاسيكي يتكون أساسا من وحدة جبرية ومنطقية (U.A.L
)، موحدة، تشتغل بطريقة مقطعية، ومن ذاكرة منفصلة، بواسطتها نشتغل
إجرائيا اعتمادا على برامج ومعطيات. مقارنة مع هذا، يبدو الدماغ البشري مختلفا
بطريقة درامية[29]. المجهودات الأخيرة للأفازيولوجات (Aphasiologie
)، وخاصة للتصوير المخي، أفضت إلى تنسيب ما كنا نعتقد معرفته عن
المواقع فيما يهم نشاط قشرة الدماغ، لا يمكن أن نحدد بدقة، في أي مكان الذاكرة، أو
أي شيء يناسب U.A.L
،
مثلا حينما يحل فرد مشكلة رياضيات، فإن النسبة الكبيرة للقشرة تعد منشطة. خلايا
الجهاز العصبي لها أزمنة لردود الفعل تفوق الجزء من الألف في الثانية، ومسارات
حالية تعالج المعطيات تقريبا بسرعة تتجاوز مليون مرة!! بالمقابل، كما أن سلوكات
معقدة يمكن أن نحصل عليها في أقل من مائة جزء من الألف في الثانية، يمكن القول إن
الحصول عليها يتم في أقل من مائة وحدة زمنية. بالمقارنة، فإن برامج الاصطناع في
الذكاء الاصطناعي تتطلب بشكل عادي ملايين الوحدات الزمنية. هكذا، مع كل التحفظات،
فإن الدماغ يصل بسرعة إلى نتائج رغم أن الأخبار تنتشر ببطء. إن الحاسوب يعالج
الأخبار بسرعة ولكن يجب أن يعالجها طويلا للحصول على نتائج مماثلة بشكل عام. في
النهاية وبشكل خاص، فإن التمييز بين برنامج إعلامي ومادة (رغم تنسيهما من طرف
المؤسسة الحربية) لا يطبق على الدماغ البشري الذي يتصور استراتيجياته بطريقة
مستقلة، والذي يمكن أن نقول عنه –بطريقة استعارية- إنه يتصور بالتعلم برامجه
الخاصة. الرهان
النظري ليس صغيرا، يتعلق الأمر باختزال المعرفة إلى عمليات آلية على رموز.
وبالتالي اختزال الأبحاث المعرفية إلى الإعلاميات، التي لا تصبح سوى مظهر نظري
لها. ـ
انظر: (Winograd,
1983 : 4
) "تحقيق الأنساق
الإعلامية له […] مظهر نظري، نصطلح عليه عادة بالعلم المعرفي"، أو أيضا بشكل
موسع: "نفس المفاهيم للبرنامج وللمعطيات التي تشكل إطارا لبناء وتأويل برامج
الحاسوب يمكن أن تستعمل لفهم كل نسق يفضي جيدا إلى سيرورات يمكن أن تفهم مثل تسخير
محكم للرموز". هذا
الاختزال الحسابي يوافقه عند الالتحاميين الاستعارة العصبية. Rumelhart
ريملهارت، هنتون Hinton
، وماك كللاند Mc Clelland
، يؤكدون ذلك بوضوح: "نريد أن نبدل "استعارة
الحاسوب" بصفتها نموذجا للعقل "باستعارة الدماغ" باعتبارها نموذجا
للعقل" (Mc Clelland et
Rumelhart, 1988, 75
).
في
الواقع، في الذكاء الاصطناعي، معجم الالتحاميين يعج بالافتراضات من الفيزيولوجيا
العصبية: كبح، تفعيل، خلايا شكلية، الخ.. إذا
أخذنا بعين الاعتبار البساطة المذهلة للأنساق الالتحامية، فإن "استعارة
الدماغ" تصبح أكثر فقرا: الخلايا العصبية، الخلايا "الحبلية"
بامتياز، تنسي الخلايا التي تعد، مع ذلك، كبيرة العدد وأكثر وظيفية، ونهمل كلية
الدماغ الهرموني، الذي لا يمكن أن يختزل نشاطه، بأية حال، إلى نشر العلامات
الكهربائية. بدون الحديث عن الجهاز العصبي المجاور، الدائم، المتروك في طي النسيان
(على الرغم من أن أنساق الإدراك الأوتوماتيكي تستلهمه). هنا أيضا، الاتجاه
الالتحامي يظهر مثل الوجه الثاني الشريك للاتجاه المعرفي: كلاهما[30] يرفضان، ولو،
على الأقل، بتعبيرات استعارية، قبول الاستقلالية العملية والنظرية للحسابي، لأنهما
يعتقدان إيجاد، بالتجذر الإعلامي، التصديق التجريبي لافتراضاتهم الفلسفية. تاريخ
العلوم يعج بالاستعارات: وهي تثير بدون أدنى شك الإبداع النظري؛ كما تكشف أيضا عن
الرهانات الإيديولوجية. الأهم يبقى هو أن لا يتحقق الشعور بالرضى[31]. الاستعارة
المعرفية عقل --< حاسوب والاستعارة الالتحامية حاسوب --< دماغ يقرآن كليهما
بصيغة موحدة، من أجل شيء قليل نتفق بأن المادة تفكر وبأن الثنائية بين العقل
والدماغ يجب أن تختزل. تظل إذن المقارنة الاقتضائية دماغ --< حاسوب؛ هنا يمكن
التواطؤ السري بين الإبدالين، مع فرق أن الاتجاه المعرفي يريد أن يفكر في الحاسوب
على منوال الدماغ. و
ـ مصدر هذا التواطؤ يكمن في توسيع مفهوم الإخبار، الذي تحكم في تكوين السبرنطيقا.
بالثناء عليه، يلخص J.P. Dupuy
ديبي، بشكل دقيق تماثله الأساسي: "بمعنى من المعاني، قابل للاكتشاف، يتم
التواصل بين خلايا الإنسان "العصبي" كما يتم التواصل بين أفراد نفس
المجتمع، أو أيضا أن "الأخبار تسير داخل حاسوب كما تفعله بين بشر وبين آلات
أو، ولم لا، كما تستطيع أن تفعله، في مستقبل قريب جدا، داخل مجتمع من
الآلات". (10-1985: 9)[32]. نسلم اليوم زيادة على ذلك، بوجود نوعين من
الأخبار: "يوجد، حسب معرفتنا، نوعان: بيولوجية واصطناعية" (Andler,
1986 : 21
). الإبدالان المعرفيان
يواجهان نفس المأزق. إما
أن المفهوم المؤسس: الإخبار، يصبح مفهوما غامضا يعني كل أشكال التواصل، وحتى
التفاعل، بما في ذلك المستوى البيلوجي. في هذه الحالة يوشك البحث المعرفي أن يعرف
المصير الحزين للسيميوطيقا المعاصرة، حينما خرجت من مجال العلامات لتنشئ خطابات
حول "السنن التكويني"، بل حول الكيمياء نفسها. أو
أن مفهوم الإخبار يحتفظ بمحتواه التقني (بتضاد مع التكرار)، ويهم المتلقين
الإلكترو-ميكانيكيين ذوي القدرة القابلة للحسابية. الإخبار بهذا التحديد لا يمكن
أن يوصف إلا بلغة الفيزياء الرياضية. "والحال أنه، يؤكد فعلا آندلر، بأي شيء
نتعلل لافتراض أن نوع الإخبار الذي تختار مؤسسة معينة مبادلته مع محيطها يستطيع
أيضا أن ينظر إليه مثل تصويرية رياضية منظمة من تبادلات الطاقة؟" (65-1986)؛
أي كوانطا طاقية نستطيع قياس وتيرتها؟ وهذا لا يتطابق إلا قليلا مع المعارف
البيولوجية الحالية. في
انتظار أن البيورياضيات تحل يوما هذا المشكل المطروح بشكل غير جيد، إذا ما خرجت
العلوم المعرفية من هذا المأزق، فإن مشكل دلالتها لا يصبح، مع ذلك محلولا. إنه
يعود، بدون شك، بالدرجة الأولى إلى السيميوطيقا. ومع
ذلك، فإن السيميوطيقا غائبة عن النقاشات التي تقسم اليوم الأبحاث المعرفية. ولكن
كما يكون القارئ قد لاحظ ذلك في أماكن متعددة من هذه الدراسات، فإن عددا كبيرا من
المشاكل الكلاسيكية للسيميوطيقا قد أعيد اكتشافها من جديد ومناقشتها من طرف
الأبحاث المعرفية، في قلب الإشكاليات المتجددة تارة والمتجاوزة تارة أخرى. الأبحاث
المعرفية والسيميوطيقا نفسها هي الرابحة في هذا المجال