14، 2012 |
التعليقات: 2 بنمزيان معاذالمحاسبة
هي الوقوف على القائم بأمور المسلمين ورعاة شؤونهم، وهي محاسبة سياسية
وعمل سياسي وجب على الأمة أن تقوم به كي تحافظ على مصالح العامة من
المسلمين. بما في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد قال الله عز
وجل: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون”[1]. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الذي
يجب أن يقوم عليه العمل السياسي في الدولة الإسلامية.فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من رأى سلطانا جائرا،
مستحلا حرم الله، حاكما في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يغير عليه بقول
أو فعل، كان على الله أن يدخله مدخله”.
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم أهمية المحاسبة والعمل
السياسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فضربوا أروع الأمثلة عن محاسبة
ولاة الأمور والوقوف على أحوالهم ومتابعة رعيتهم لشؤون أمتهم. فقد قال
الإمام على بن أبي طالب – رضي الله عنه –: (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو
مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا أمن ذلك من فعلى إلا أن
يكفي الله من نفسي ما هو أملك مني).[2]
إن الجبن السياسي والتقاعس عن ممارسة المحاسبة
وربطها بالمسؤولية كان له انعكاسات وخيمة اختلت معها موازين القوي في
المجتمع، فوقع الظلم والطغيان والاستبداد. وبالتالي ينقلب الأمر من محاسبة
إلى مآزرة الاستبداد. ولا ينكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا وزراء آزروا
الاستبداد عمرا طويلا ثم ندموا على ما فرطوا فتابوا وأنابوا ورجعوا لصف
الأمة واستعدوا بأموالهم وأنفسهم لإنقاذها من داء الاستبداد.
كما أن مقاومة الطغيان هي حق لكل الشعوب ولا يجوز منعها منه،
وقد ثبث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن الناس إذا رأو
الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه”.[3] وهو أمرٌ
بالأخذ على يد كل ظالم وردعه ومنعه من ظلمه. ولا شك أن أفظع المظالم
وأكبرها وأضرها على الأمة بمجموعها، وعلى كل فرد من أفرادها: مظالم
الحكام؛ لأنها تفسد الحياة العامة؛ وتزلزل استقرار المجتمع؛ وتؤدي إلي
فتنة البشر وفساد ذات البين، ثم إلي الفوضي والاضطراب وسفك الدماء، وهذا
هو خراب الدنيا وضياع الدين.
وهذا هو الواقع المحسوس في الماضي والحاضر؛ فالأمة
تستقيم للحكام ما استقاموا لها، فإذا لم يفعلوا أي إن لم يستقم الحكام،
فالشرع يطالب المسلمين بمعصيتهم وعدم طاعتهم لقول رسول الله – صلى الله
عليه وسلم –: “فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة”.
شواهد في التاريخ الإسلامي
والأمثلة في التاريخ الإسلامي على مراقبة المواطنين للحكام كثيرة منها:
- أحد المواطنين البسطاء العاديين قال للفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله
عنه –: “لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا”، فيرد الفاروق عليه:
“الحمد لله الذي أوجد من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه”.
- وهذه امرأة تحاسب عمرا في تحديد المهور قائلة: “يا عمر لم تحدد ما لم يحدده الله” فرد عمر: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”.
من خلال الموقفين السابقين نستنتج عدة أحكام يجب أن تطبع العلاقة بين الحاكم والمحكوم:
- يمكن لأي فرد من المجتمع أن يمارس حقه في محاسبة ومراقبة الحاكم.
- يمكن لأي مواطن أن يتطرق لأي موضوع ولا توجد وزاراة للسيادة خارج منطق المحاسبة.
- لا يجوز الإعتراض على المحاسبة من قبل الحاكم، واعتباره تطاولا على الخليفة أو الرئيس.
- ضرورة احترام ولاة الأمور مع اللين في طرح الإشكالية وممارسة الحقوق.
فالله تعالي أرسل نبيا من أنبيائه – أي مكانة عالية – إلي فرعون شخصية
حقيرة، ومع ذلك أمره باللين.
- لا يجوز منع التعبير عن الرأي وممارسة الرقابة تحت ذرائع هيبة الحاكم أو التقديس أو واجب الاحترام.
- ضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة والتواصي بالحق بين الحاكم والمحكوم تحت مرجعية واحدة، وهي: الكتاب والسنة.
وتأتي الوفود من الأمصار (اللامركزية) لمحاسبة عثمان – رضي
الله عنه – (المركز). ويحاسب العبادلة الأربع معاوية لأخذه البيعة ليزيد.
ويحاسب سفيان الثوري المنصور قائلا: “اتق الله فقد ملأت الارض جورا”
فيطأطئ المنصور رأسه. ويحاسب أحمد بن حنبل المأمون في قضية خلق القرآن.
إنها نماذج فقط لدور العلماء في ممارسة رقابة خلاقة رفيعة
على الحاكم في غاية الاحترام والتوقير الواجبين لولاة الأمور، وإن كانت
النتائج غير ما يجب أن تكون.
إن محاسبة واعتراض الناس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم
–, ومحاسبة الخلفاء الراشدين والأئمة العادلين يعتبر تشريعا؛ تقريريا منهم
وإبرازا لخصائص المحاسبة ووظائفها في الأنظمة، وصلاحها، وحوكمة تدبير
الشأن العام لما يحقق من خير فمحاسبة الحكام فيها صلاح الراعي والرعية
وتركها ضياع للراعي والرعية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول:
“والذي نفسي بيده لتآمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن
يبعثن عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم”.
المحاسبة والمراقبة الذاتية
إن المقترب الإسلامي لربط المسؤولية بالمحاسبة يرتبط أيضا
ببعد أخر، يتمثل في التنصيص على المراقبة الذاتية وهي: الإيمان بالله عز
وجل والخوف في الوقوع في الحرام، وهي ما يسمي بالضمير المهني في قوله
تعالي: “إن الله كان عليكم رقيب”[4]، وقوله تعالي “وهو معكم أينما
كنتم”[5]. وفي الحديث الشريف حول الإيمان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فهو يراك)[6]
المحاسبة إعمال وحدود
وانطلاقا من ذلك فإن المحاسبة في المقترب الاسلامي مفهوم
منهجي من مفاهيم الإسلام الأساسية؛ لأنه صمام الأمان لتجسيد الإحسان في
فهم الإسلام وتنفيذه وحمل دعوته في القوي السياسية المتمثلة في الدولة
والأحزاب السياسية، في إطار فقه السياسة الشرعية التي تنظم علاقة الفرد
بالدولة، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو الراعي بالرعية، أو السلطة بالشعب،
وهو ما ينظمه في عصرنا الحالي الفقه الدستوري والمالي والإداري والدولي.[7]
ولو أن ولاة أمور المسلمين أخلصوا لله في قيادتهم للأمة بدل
الاغتناء الشخصي والعائلي من خلال الأخذ من المال العام، ومن خلال
امتيازات وإعفاءات غير مشروعة لفائدة أعمالهم التجارية والصناعية
والزراعية.[8]
وبالتالي فيجب إعمال قواعد للتيسير الإداري والمالي محكمة
ومنظمة على نحو ما وصل إليه العلم في الغرب خاصة في الديمقراطيات
التقليدية، حيث يعد المس بأموال دافعي الضرائب خطأ لا يغتفر، يقود إلي
المحكمة وإلي الهاوية الاجتماعية وسالب لحقوق المواطنة في الولايات
المتحدة الأمريكية.
وهناك إعطاء للمال العام لعلماء وأدباء وكتاب وصحفيين
وكذابين، ونحوهم من المؤيدين والمناصرين، لا لشيئ إلا لخدمتهم وتأييدهم
ومدحهم للحاكم وحزبه وسياسته.[9]
وصرف المال العام في غير موقعه سبب من أسباب الفساد وعامل
مذكي له؛ حيث تنشط الأجهزة السرية ذات الأهداف والوظائف الغامضة ومنها
تمويلات سرية لأطراف معينة لأهداف معينة ربما غير شرعية أو شريفة.
وبالتالي فإن إعمال أليات المحاسبة كفيل بحوكمة تدبير الأموال العمومية.
والمحاسبة محاسبة الحاكم في الشريعة الإسلامية تقوم بترتيب جزاء وثواب على من يقوم أو يتقاعس عن محاسبة الحاكم.
فالرسول الاكرم يقول: “أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان
جائر”، أي كأنما قال: أن أفضل الجهاد مكافحة أنظمة الحكم الفاسدة
والمستبدة، في شتي المجالات سواء كان (دينيا، علميا، ماليا، اخلاقيا،
تربوي)[10] فكفاح الحكام الذين يهضمون حقوق الرعية أو يقصرون في واجباتهم
أو يهملون شأنا من شؤون الأمة.
فقد عد سيدا للشهداء من قام إلي إمام – أي حاكم – فأمره ونهاه فقتله، وفيه الحث على طلب النصح للإمام وهو حق للإمام على الرعية أيضا.
فقد رتب الله عقوبات على من لا يقدم النصح والمحاسبة
إلي الحكام، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: “من رأي سلطانا جائرا
مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد
الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا بفعل كان حقا على الله أن يدخله
مدخله”. إن الإسلام قد عني بمحاسبة الحكام وأدواتهم عناية فائقة واهتم به
إهتماما عظيما، والتقاعس عن إجراء المحاسبة للنفس ولحملة الدعوة وللمسلمين
وعلى رأسهم الحكام من علامات النفاق. والمحاسبة لازمة للقوي
السياسية؛لأنها تصحح المفاهيم وتقوم السلوك وتحقق الغايات.أما أسلوب المحاسبة يجب أن يكون مناسبا لحال من نحاسبه،
فمنهم من تكفيه نظرة، ومنهم من تكفيه كلمة، ومنهم من يلزمه نقاش، وأخر
يلزمه تعليم وهكذا.
فمن يحاسب أباه لا يحاسبه محاسبة ابنه، ومن يحاسب أميرا للمؤمنين يحاسب ليس كما يحاسب أميرا حاكما فاجرا عميلا.
فلا إفراط ولا تفريط في المحاسبة، بل المحاسبة
بالقدر اللازم والكيفية المناسبة وجرعة شافية، فلا هي دون المطلوب ولا
يؤمل منها شفاء، ولا هي فوق المطلوب فتحدث ضرارا أكبر من مما نحاول علاجه،
فالهفوات والزلات يتغاضي عنها، إذ لا يخلو منها أحد من الخلق إلا من عصم
الله، ولا يتهاون في المنكر الواضح الذي لا لبس فيه. وهكذا تكون المحاسبة
بلسما شافيا وسببا من أسباب السير نحو الكمال.