** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 قراءة الثوابت في قصيدة النثر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
روزا
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
قراءة الثوابت في قصيدة النثر Biere2
روزا


عدد الرسائل : 267

تاريخ التسجيل : 11/04/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

قراءة الثوابت في قصيدة النثر Empty
09112011
مُساهمةقراءة الثوابت في قصيدة النثر

قراءة الثوابت في قصيدة النثر The-Loss-Of-Virginity-Aka-The-Awakening-Of-Spring
هرمين ريفاتير

منذ
بداياتها وقصيدة النثر تند عن التعريف. ويشير اسمها الجامع للمتناقضين
إلى السبب الواضح لذلك: الطبيعة المتسمة بالمفارقة والمتضمنة للتناقض. فقد
كان بمثابة اسم حركي (مع قليل من اللعب بالألفاظ). كان لابد من أن يحدث شيء
ثوري، فقد كانت ثمة ضرورة للانفلات من إسار الشعر التقليدي؛ وكان لابد أن
يتم الطعن في الجماليات التي جعلت من النظم العروضي عنصرا جوهريا في فن
الشعر. وبدافع من هذا التطلع كان ما كتبه بودلير في مقدمته إلى آرسين
هيوساي: "من منا لم يحلم في أيام طموحه بمعجزة نثر شعري يكون موسيقيا بلا
وزن ولا قافية؟... ".
دائما ما كان هناك منزعان متعارضان في الشعر: ينحو
الأول إلى تزايد الضوابط، والآخر إلى التحرر من الضوابط. وتنتمي قصيدة
النثر إلى النهج الثاني. في فترات أخرى نلاحظ الحث على اطراح القواعد
الشكلية: فالقافية، أو قواعد علامات الترقيم قد أسقطت من الحسبان، والوزن
المطرد قد حل محله الشعر الحر.free verse أما قصيدة النثر فتنطوي على تغيير
أكثر جذرية؛ ويمتد ليشمل النص بالكامل. إنه نوع أدبي نشأ بالأساس على مبدأ
الاستبعاد أو الاطراح.
وقد انبثق بصدد هذا النوع تياران نقديان:
المدرسة الأولى تمضي بعناد للبحث عن خصائص النظم في قصيدة النثر. والحقيقة
أن هؤلاء النقاد فعليا لم يتقبلوا أبدا فكرة إمكانية وجود ما يمكن اعتباره
شعرا بدون نظم، وأن شعرا حقيقيا خارج النظم ممكن وجوده. النقاد المتعسفون
من هذا القبيل يقرون بالشعرية في النثر فقط حين يمكنهم الإمساك بما يشبه
بنية نظام وزني متخفية، أو حين يعتقدون أن بإمكانهم إثبات أن قصيدة النثر
بها الحس الموسيقي للنظم ولكنها تختلف عنه في افتقادها لتساوي طول الأبيات
أو للوحدة العروضية. وتحت هذا النوع تندرج مونيك بارنت Monique Parent في
كتابها:
(Saint-John Perse et quelques devanciers) سان جون بيرس وبعض
سلفه. وهي هنا تستخدم الصوتيات والدراسة الفيزيائية للأصوات لتثبت أن
إيقاعات بيجوي Peguy تعد مؤشرا على أن في نثره كل خصائص النظم. كما أنها
تدرس تيمات قصيدة النثر، زاعمة أنها معطيات مضمونية، ولا يمكن ربطها حصريا
بقالب النثر، والتي تؤدي نفس الدور في الشعر المنظوم.
أما التيار الآخر
فيقر بقطيعة حقيقية بين الشعر المنظوم وقصيدة النثر، بيد أنه يهون إلى أقصى
حد من أهمية هذه القطيعة ويريد أن ينظر إليها من منظور التواصل. وحتى حين
كان نوع "الشعر النثري" في طور النشوء، كان لابد أن يبدو هذا التميز شديد
الصعوبة وقائما بدرجة كبيرة على الأشكال التقليدية التي خربت من قبل شعراء
النثر الأوائل الذين ناضلوا من أجل جعل أصالتهم ملموسة. والآن، حيث إن
التحرر قد تحقق، فإنه كان يجب ألا يبدو أي من هؤلاء - لا النوع الأدبي،
ولا نصوصه، ولا المؤلفون - في حاجة إلى مزيد من المطالبة بتعريف قطيعتهم مع
القديم، لم تعد هناك حاجة لهذه القطيعة لكي تعطي المبرر لخلقهم التجربة
الشعرية أو لما حازوا من قراء. فهذا موقف عفا عليه الزمن. فإذا كانت قصيدة
النثر نوعا أدبيا معترفا به لدينا، فإنها يجب أن تكون في غنى عن مثل تلك
المسحة التاريخية المحضة التي قد لا تتعدى أهميتها الوقت الذي تنتمي إليه.
وصوب
هذه النتيجة، التي نراها - بحق - الأكثر جدة، ونفاذا، يتوجه النقاد ذوو
الحساسية، أكثر مما يتفقون مع سطور مونيك بارنت. من هؤلاء النقاد، الناقدة
التي قدمت العمل الأعلى قامة والتي حققت أكثر الجهود إثارة للتقدير
والإعجاب في تأسيس جماليات قصيدة النثر؛ سوزان برنار. نقرأ في كتابها
الرائع:
إنه لضرورة بشكل حيوي لقصيدة النثر أن تكون قصيرة، باعتباره
شرطا لقياس وحدة التأثير، ومن خصائصها الكثافة، والمجانية، والتوهج...
القصيدة عالم مغلق، منغلق على نفسه، مكتف بذاته، وهي في الوقت نفسه، مثل
الكتلة المشعة، كيان صغير مشحون بعدد لا متناه من الإيحاءات، وقادر على أن
يهزنا في صميم وجودنا.
لست بصدد التعليق على جمل سوزان برنار الأخيرة؛
فهي تبدو لي أقرب إلى التأمل الصوفي أكثر منها إلى النقد. ولكنني أريد
الوقوف على فكرة الانغلاق: كون نص ما يمكن له أن يكون شعريا دون أن يكون
مغلقا، ولكنه سيصبح قصيدة - شيئا مختلفا تماما - فقط إذا ما توفر بشكل جيد
على بداية ونهاية من شأنهما أن يحولاه إلى وحدة منظمة. تتحدث سوزان برنار
كذلك عن الإيقاع، عن القيمة التعبيرية للصوت، وتؤكد على أن قصيدة النثر هي
دائما متحررة شعريا مقارنة بالشعر المنظوم. كل تلك التوصيفات مبهمة وذاتية
وانطباعية إلى حد بعيد. وعلاوة على هذا فإن العديد من القصائد تفتقد
لخاصتي الكثافة والتوهج اللتين تعزو إليهما قصيدة النثر. فبعض نصوص بودلير،
مثلا (Le Joujou du pauvre)، أو (Le Mauvais Vitrier)، أو (La Fausse
Monnaie)، أو غيرها، طويلة بل ومسهبة نسبيا.
إن ما يستحق الإشادة في
تناول سوزان برنار النقدي أنها تحاول أن تعر ف القصيدة بوصفها نصا محكما؛
في حين أن النقاد السابقين عليها لا يفعلون ذلك. ومع ذلك تظل السمات التي
تعزوها لقصيدة النثر كما لو كانت تنزع إلى إهدار طبيعتها النثرية. فأنا
أؤيد أننا لا يمكننا التخلي عن التلاقي الجوهري بين الأضداد: إنها قصيدة،
نعم، ولكنها قصيدة نثر. فالقطيعة الأصيلة مع النظم تظل المبدأ الفعال لهذا
النوع، والأساس في تعريفه، بل والأساسي كذلك في تلقيه من ق بل القارئ. فما
يتبدى له على الفور هو النثر. إنه يقرأه دون أن يشعر بما يعكر صفو القراءة.
ومع المضي قدما في القراءة تتكشف له خصائص معينة تقتضي إعادة القراءة على
نحو شعري. إن ما أقصد إليه، إذن، أننا نجد، في أثناء ممارسة قراءة قصيدة
النثر، في طلب مفاتيح اللغز من أجل ذلك التفسير.
إن هناك - في الحقيقة -
مستويين من القراءة: قراءة تقتصر على فك شفرات النص، وهي قراءة ناقصة.
وقراءة حقيقية شبيهة بتأدية العازف للنوتة الموسيقية. فحين يعزف عازف
البيانو يفك شفرة العلامة على النوتة ويترجمها إلى عزف في الآن ذاته.
القراءة،
من ثم، عمليتان متزامنتان لفك الشفرة وللتحقق من خصائص معروفة ومألوفة
بالفعل، من رموز تكرست طويلا، من صور يقارنها القارئ تلقائيا بالنماذج
الطازجة التي يقدمها له النص الراهن. وهي المرحلة من التفسير التي يلاحظ
فيها القارئ عناصر معينة من النص يتكرر حضورها. قد يكون التكرار كليا أو
جزئيا - ترديد صريح لكلمة أو عبارة - أو على صيغة تكرار الصدارة(1)، حيث
يقول النص الشيء ذاته بصيغ عديدة متنوعة، تماما كما في حالة القافية في
النظم، على سبيل المثال.
إن إدراك الثوابت(2) يعد، فيما أزعم، العامل
الذي يجعل القارئ يشعر بأن النثر الذي هو بصدده نظام مغاير لذلك النثر
المحض. هذا العامل يجعله واعيا بأن ثمة تنظيما لا يقضي على النثر -
إيقاعاته، وتنوع جمله، وانعدام الضوابط المكرسة سلفا فيه - على الرغم من
أنه، في الوقت نفسه، يشتمل على المعنى والشكل. إنه تنظيم يصل النص كاملا
ببعضه من بدايته إلى نهايته في وثاق واحد، صانعا الانغلاق الذي يمنح
القصيدة تعريفها الأولي. تنظيم من شأنه أن يحكم وثاق النص بحيث لا يكون ثم
إمكان لجعل القصيدة تتبدى سابقة عليه أو لاحقة له. ومن هنا فإن هذا
الإدراك للثوابت لابد أن يكون له على القارئ التأثير ذاته الذي تولده
القصيدة الغنائية Ode أو السوناتة .Sonne
والثابت يتنوع إلى حد بعيد،
وربما يتخذ كل ضروب الأشكال الممكنة. فقد يكون إحالة مباشرة إلى نص آخر،
وهنا نكون بصدد واقعة تناصية، كما في النموذج الأول الذي سوف ننظر فيه. أو
ربما يكون صورة بلاغية، أو توازيا، أو نقطة التقاء لسلسلة من الصور، كما في
قصيدة رامبو التي سنحللها. هذا التنوع في الثوابت هو، في الحقيقة، ما
قادني في اختياري للقصائد التي سأحاول تحليلها.
ولأبدأ بنص ليس من قبيل
الشعر الرائع؛ ولكنني أستخدمه لقيمته التاريخية. فهو يشكل جزءا من الكتاب
الأول لما سميت فيما بعد "قصائد نثر": حيث رأى فيها نقاد القرن الثامن عشر
النماذج الأولى للنوع الأدبي الجديد.
القصيدة بعنوان ((Sur les rochers
de Chevremorte (على صخور شيفرمورت) وهي من نصوص "جاسبار الليل" لبرتراند.
وقد كان هذا الشاعر مدركا على نحو مبهم بأنه كان يكتب "شيئا جديدا" بدون أن
يكون قادرا بالفعل على تعريفه لمعاصريه. وبعدها بفترة كبيرة سوف يدرك
بودلير كتاب "جاسبار الليل" باعتباره كتابا لقصائد النثر؛ وكان بودلير من
ابتكر هذا التعبير، على الرغم من أنه قال بأن قصائده النثرية القصيرة
(Petits poemes en prose) كانت مختلفة. لقد رأى بودلير أنه كان يفعل الشيء
نفسه الذي فعله برتراند، حتى وإن كان التباين بينهما يمضي لأبعد من مجرد
المضمون. وهذا يعطينا مبررا إضافيا لننشد طبيعة قصيدة النثر في موضع آخر
غير التصنيف النظري المكرس.
لقد اخترت قصيدة ؛(Sur les rochers de
Chevremorte) لسبب آخر أيضا: فهي واحدة من القصائد التي علق عليها سانت بيف
في مقدمته لـ "جاسبار الليل" التي كتبها عام 1842. فقد اختار سانت بيف هذه
القصيدة لأنها "تطرح بطلاوة ساحرة التأمل عن كثب للواقع الموجع".
وليس
من شك في أن القيمة الشعرية لهذه القصائد بالنسبة لسانت بيف تكمن في هذا
التأمل في واقع شعري، في تجربة عاطفية. إنه رمز كامن تماما في مجموعة
الأكليشيهات الغنائية: تأمل شخص منعزل في مشهد طبيعي، قفر وموحش. وبالنسبة
لسانت بيف، وبشكل واضح، فأيا كانت الطريقة التي ك تب النص عليها، فسوف يكون
شعرا إذا ما كانت الأشياء والأفعال المصورة فيه شاعرية.
يشير برتراند
في هامش شارح للعنوان إلى أن Chevremorte تمثل مساحة نصف ميل من Dijo إنه
يؤكد على هذه التفصيلة، فيما يبدو، لكي يؤكد على مدى مصداقية الأحاسيس
الوجدانية المعبر عنها في القصيدة.
نحن نعرف أن هذه الصخور موجودة، وأن
برتراند اعتاد التجول بينها، وأنه كان حزينا هناك. فالعنوان موضوع بوصفه
برهانا على المصداقية: والنص يتم قبوله كقصيدة بقدر ما يعيد سرد تجربة
معيشة يمكن للقارئ أن يتمثلها وجدانيا.
عند صخور شيفرمورت
وأنا أيضا صرت ممزقا بأشواك هذه الصحراء، وأترك هناك في كل يوم جزءا من جثتي. – "الشهداء"
ليس لك هنا أن تتنشق طحلب شجر السنديان، وبراعم شجر الحور، ولا هنا تدمدم النسائم مع المياه سويا بحب.
لا أريج ، في الصباح بعد المطر، أو في المساء وقت الندى: وما من شيء ي طرب الأذن سوى صياح طائر صغير يرتجي نصل العشب.
صحراء لم تعد تسمع صوت يوحنا المعمدان، صحراء لم يعد يسكنها الناسك أو الحمامة.
وهكذا، فروحي قفر ، على حافة الهاوية، حيث طرف إلى الحياة وطرف إلى الموت، وأنا أطلق تنهيدة بائسة.
الشاعر مثل نبات اللبلاب الذي يربط نفسه، وهو هزيل وسهل الكسر، بالغرانيت، ويتطلع إلى الشمس أكثر مما يتطلع إلى الأرض.
ولكن واحسرتاه! لم تعد لدي شمس منذ أن غربت العيون التي بثت الحرارة في عبقريتي!

(22 يناير، 1832)
إن ما لا يراه سانت بيف هو أن
Chevremorte في القصيدة بها مما يربطها بكلمة "صخور" التي تتقدمها، أكثر
مما يربطها بالبقعة الجغرافية التي تشير إليها. وأيا ما كانت الطريقة التي
قد يعملون بها على طرح حقيقة واقعة وقابلة للإثبات، فإن هذين الدالين
((rochers و (chevremorte) يعملان على نحو شعري ليكررا مرة أخرى، وبنوع من
عدم المباشرة، مفهوم الصحراء، بمعنى مكان جدب قاحل. إنها ليست مسألة تأثير
لواقع، أو لمصداقية مضمونة، ولكنها بالأحرى تنويع شعري على كلمة "صحراء"
desert
إنه كناقل، لا يواري برتراند إحالاته. فالاقتباس الاستهلالي
يدفعنا دفعا للرجوع إلى نص شاتوبريان Chateaubriand (Martyrs I، p. 336)
"الشهداء". إنها فيليدا التي تتكلم: الراهبة الغالية [الفرنسية] تتفجع على
حبها غير المتبادل لإيودور، النبيل الروماني المسيحي. إن عاطفتها محر مة
بشكل مضاعف: من كونه عشق راهبة وثنية لمسيحي من جهة، ومواطنة غالية
[فرنسية] لروماني مستعمر من جهة أخرى. وهكذا يطرح الاستهلال سلفا ندب
عاشق(ة) لحب مستحيل. ولأستشهد بالمونولوج السابق على هذا الاقتباس:
تقول
فيليدا: "لو أنك أحببتني، أي مسرات كانت ستغمرنا ونحن نجوز تلك الحقول!
أية سعادة أن أهيم معك في تلك الطرق المنعزلة، مثل الشاة التي ظلت خصل
صوفها عالقة على هاتيك الأشواك".
العالم بالنسبة لمن يعشق ولا يبادله
أحد العشق يكون أرضا خرابا موحشة. العشاق ينشدون العزلة، التي تغدو "صحراء"
desert حين تكون وحيدا. تلك الفكرة (العزلة = الصحراء) في نص برتراند
متحققة من خلال نفي وجود نقيض الصحراء. والعكس تماما يحدث في مفتتح قصيدة
هوجو "حزن الأوليمب" (Tristesse d Olympio)
لم تكن الحقول سوداء، لم تكن السماوات معتمة، كلا، كان النهار متألقا في سماء صافية بلا حدود.
إن
كل شيء ها هنا مطروح في صيغة نفي للحزن، ويبقى الحزن قائما. أما في (Sur
les rochers de Chevremorte) لاصحراء - إذا جاز لي أن أصوغها على هذا
النحو - متحولة إلى صحراء عبر إنكار مضاعف. الوصف هنا مصاغ من عناصر البهجة
التي ينفيها النص – "لا يمكن هنا أبدا أن تتنشق طحلب شجر السنديان، وبراعم
شجر الحور، ولا هنا تدمدم النسائم مع المياه سويا بحب" - الذي يتيح
البقاء لشيء من قبيل ذكرى للحياة قبيل أن تتحول إلى صحراء. ولكن ما الذي
يقوله نص شاتوبريان؟ إنه الشيء نفسه في الحقيقة، وأنا بودي أن ألح على
حقيقة أن المتناص من نص برتراند مع نص شاتوبريان يحذو حذوه كلمة بكلمة:
"قل
لي، هل سمعت أنين النبع في الغابات ليلة الأمس، وعويل النسيم في العشب
الذي ينمو على نافذتك؟ حسنا، إنه كان تنهدي في هذا النبع وفي هذا النسيم!
لقد تبينت أنك أحببت همهمة المياه والرياح".
في قصيدة برتراند، هذه
الصحراء الصرف، وهي في الحقيقة عزلة باطنية موحشة، ناشئة أيضا من خلال
تلميح تناصي آخر، وهو إنجيلي هذه المرة. صحراء برتراند لا تقاب ل بصحراء
شاتوبريان وإنما بالنموذج الأولي للصحراء في العهد الجديد، حيث صوت النبي
الضائع في الخلاء(3)، وحيث البذرة، كما في المثل الرمزي، تسقط فوق الصخرة
فلا يمكن أن تنبت. الفقد الموغل، الفراغ الكلي للحياة من دون المحبوب حيث
لا يكون للمحب من يتكلم معه، هذا الصمت، هذا الخواء، يزداد بروزا من خلال
التعريج على تناص المعمدان. بل والأكثر تأثيرا، الصوت الصارخ الذي يصرخ سدى
(الصوت الصارخ في البرية)، هذا الصوت نفسه صامت: فهو لا يزال في الصحراء
لكنه لم يعد يصرخ. إنه السكين بلا نصل وبمقبض ضائع، كما في ابتكار الألماني
الساخر ليشتنبرج.
وتصف العبارة التالية الروح التي لا حياة فيها،
الوحشة التي لا حدود لها: "على حافة الهاوية، حيث طرف نحو الحياة وطرف نحو
الموت، وأنا أطلق تنهيدة بائسة". في نص شاتوبريان لا تزال فيليدا تقول:
"وحين لا يعود لي وجود... سوف تكتب لي رسائل وسوف حتى نتبادل الحديث
(ندردش)، على أي جانب من القبر". ويبدو الأمر كما لو أن برتراند يجعل صحراء
فيليدا أكثر من مجرد صحراء. إن نصه يعد ضربا من المزايدة أو المغالاة على
نص شاتوبريان. في قراءتنا لبرتراند اليوم، لا نتجاوب مع الوصف الساذج، أو
مع رمزية التمثيل المباشر لواقع الصحراء. فالقارئ يتجاوب مع الصحراء من
خلال نص آخر: ذلك النص الذي يقرأ القارئ النص الراهن في مقابله، ولا يمكن
للقارئ تفادي مقابلة النصين ببعضهما لأن الاقتباس الاستهلالي يفرض عليه
قراءة تزامنية للنصين معا. وما تؤكده القراءة المزدوجة هو أن كلتا
الصحراوين جغرافيتين على المستوى الظاهري فقط، فصحراء سيناء وصحراء ديجون
Dijon مجرد حيلة. القراءة المزدوجة توضح بجلاء أن الصحراء هي صحراء في داخل
النفس، وهو ما عبر عنه لامارتين بالفعل: "أن تفتقد لوجود فرد، وكل شيء خلو
ممن يأهله".
الآن نرى أهمية الاقتباس الاستهلالي: فحالما نتعرف على نص
شاتوبريان، يبدو نص برتراند وكأنه صيغة للمبالغة من نص الشهداء.Les Martyr
هذا التأويل بعيد كل البعد عن ما قام به سانت بيف، الذي يرى الاقتباس
الاستهلالي مجرد حلية، أو بومبونة(4) pompon كما يسميه. بالعكس، فالاقتباس
الاستهلالي شيء جوهري: فقراءتنا كلها للقصيدة تعتمد عليه. إن هذا الاقتباس
الاستهلالي هو الذي يمنح النص ثوابته ويجعل منه قصيدة.
الثابت من الممكن أيضا أن يكون تقاطعا لسلسلتين من المترادفات، كما في حالة قصيدة رامبو Ornières، التي سنطالعها الآن.
الأخاديد "آثار العجلات على الأرض اللينة"
على
اليسار، ينبه فجر الصيف أوراق الشجر والضباب والأصوات في هذا الجانب من
الحديقة، والمنحدرات على اليسار تستبقي في فيء أشجار اللافندر الآلاف من
الأخاديد الع ج ل ى على الطريق الرطب. موكب من الأعاجيب. كل هذا: مركبات
محتشدة بحيوانات مزينة بالخشب المذهب، صواري وأشرعة مشرقة الألوان، عد و
شديد لعشرين من خيول الحلبات المرقطة، وأطفال ورجال فوق الدواب المدهشة؛
عشرون عربة، مزركشة، ومكسوة، ومزينة بالورود كعربات العصور القديمة أو
الحكايات، المحملة بالأطفال المزدانين نحو الضواحي الريفية، حتى التوابيت
تحت أردية الليل تشب بأنواطها الأبنوسية، مندفعة إلى هرولة الأفراس السوداء
الكبيرة.
إنني أطرح هذا النموذج الثاني لأنه يبدو بالنسبة لي حالة من
الصور المتباينة ظاهريا، والتي ت در ك في آخر الأمر كسلسلة متصلة. هذا
التواصل الشكلي الذي يتم إدراكه، ولكنه غير مفسر بالضرورة، يمثل المعادل
لتحدي الوزن المتمثل في غياب العروض. إنها تكمن في اتحاد سلسلتين من
المترادفات في ختام القصيدة، معطيا لتلك الصور الختامية تعقيدا في المعنى
يربط جدائل الخيوط التي يحاك منها النص. وهذا التلاقي النهائي، هذا التحويل
لخاتمة تبدو مجرد خاتمة طبوغرافية، هو المكون النصي الذي يفسر صيغة الجمع
في العنوان. لا أعتقد أن أحدا قد علق أبدا على هذه النقطة، ولكنها هي التي
ستستكمل توضيحي.
السلسلة الترادفية الأولى هي متوالية مرادفات
"السرعة": وهي تبدأ بـ "الأخاديد العجلى" وتستمر مع "عد و شديد"، بل
ويمكنني القول بأنه "عدو شديد لعشرين من الخيول المرقطة". في الواقع، فإن
نظام التمثيل الأدبي للواقع على هذا النحو يؤدي هنا معنى أن عدو عشرين
حصانا يعطي شعورا بأنه أسرع من عدو حصان واحد، أو من العدو في عمومه.
المتوالية الترادفية للسرعة تنتهي بتوابيت "تشب نحو الهرولة" تبلغ، أو
بالأحرى، تبلغ الأوج. إن الهرولة - على وجه الدقة - أبطأ من العدو" ولكن
"نحو الهرولة" أضافت إلى الفعل التعبير عن ازدياد السرعة النهائية وخفة
الحركة في "تشب".filan الأكثر أهمية، أن هذه الحركة تعطي إحساسا بأنها سرعة
قصوى لأنها غير اعتيادية بالمرة، ومستغربة جدا في صلتها بالتوابيت. هذه
الغرابة في حد ذاتها موظفة بصورة هزلية من قبل لافونتين في قصيدته Le Cure
et Ie mort "الخوري والميت": "خوري كان مبتهجا وهو في طريقه لدفن هذا الرجل
الميت على عجل". يستخدم رامبو هذا التنافر لا ليبدع معنى هزليا وإنما
فانتازي.
وتقودني هذه الوسيلة إلى السلسلة الترادفية الثانية، متوالية
الفانتازيا أو الحلم. إنها تبدأ مع "موكب من الأعاجيب" وتمضي قدما مع
"بحيوانات مزينة بخشب مذهب" والـ "مركبات" التي تشبه "العربات [الفاخرة
التي تجرها الخيول]" ، تفصيلتان تدعمان كونه وصفا لألعاب السيرك والحواة،
ولكن قراءة ثانية سوف تعزز انطباعنا عن الفانتازي. هذا الانطباع، الذي ينشأ
في البداية بعيدا عن فكرة "الأعاجيب"، ناتج عن مشهد "الدواب المدهشة"
متبوعا بمشهد "العربات [الفاخرة التي تجرها الخيول] في العصور القديمة أو
الحكايات حتى تكون "الحكايات" مشابهة لـ"الأعاجيب". وتصل السلسلة لذروتها
مع ظهور المركبات، ليس فقط في اقترانها بالعربات الميدانية، ولكن فعليا في
مطابقتها لها: "حتى التوابيت تحت أغطيتها الليلية". وبالتأكيد فهذه المظلات
تخص الخيول التي تجر عربات الموتى المغطاة بغطاء أسود - ولكنها كذلك مصاغة
استعاريا من خلال النقل من black "أسود" إلى "(night) ليلي". والاستعارة
كفيلة بمنح الوصف تلوينا للفانتازي. إنها تؤكد وتلح على كيف ينبغي أن تبدو
التوابيت مهيبة في موكب مقصود منه إضفاء البهجة للصغار والكبار.
وفي
النهاية، فالفانتازي يؤيده، على نحو مبالغ، السباق الذي تجري فيه التوابيت.
فالمواكب الجنائزية بطبيعتها متوانية ورزينة، كما في القصيدة الرابعة
لبودلير من "سأم باريس":
وموكب جنائزي طويل، بلا طبل ولا موسيقى، يسير ببطء داخل روحي.
السرعة
في قصيدة رامبو، كما أشرت من قبل، خروج على المعتاد يمكن أن يكون شبيها
بقصيدة لافونتين، كما أن قصيدته يمكن أن تنحو نحو السخرية وتفسر بوصفها
هزلية. غير أنه إذا كان السياق لا يسمح بمثل هذا النزوع الهزلي، إذا كانت
الدعابة متعذرة، فإن ما هو مناف للطبيعة - من ثم - يغزو المشهد. أنا أذكر
مشهدا من فيلم "دراكولا" حيث يرى مسافر تائه عربة موتى تعدو بها الخيول في
أرض مقطوعة الشجر يغمرها ضوء القمر، وكانت الخيول سوداء كما هي في قصيدة
رامبو.

الآن ندرك كيف تحقق الخاتمة ذلك التأثير. فالمتوالية الترادفية للسرعة
ومتوالية العجائبي مربوطتان برباط مهم يحول السباق إلى موكب عربات فانتازي.
وباستخدامي لعبارة "موكب عربات فانتازي" فإنني أستحضر للذهن تيمة مألوفة
موظفة كثيرا في الأدب لإضفاء الانطباع بالخارق للطبيعة. ولكن إذا كنا
سنبتدئ بالمتوالية الثانية، فإنه بإمكاننا كذلك القول بأن السباق بمثابة
منظر عابر يلوح، أو حلم خاطف.
إن المزية الشعرية في النص، أو ما يجعل من
هذا النثر قصيدة، هو أنه في داخل تصوير شديد الانتماء للواقعية، أو على
الأقل واقعي، نكون مجبرين على الإقرار بوجود ضرب من التخييل أو الإيهام،
حلم أو رؤيا يقظة. إن الخاصية الشعرية تكمن في التوتر الحادث بفعل مخالفة
للواقع تصير، للحظة، واقعا. وينبغي أن أؤكد على أن هذا التوتر التوليدي
للشعرية يكمن برمته في تراكب المتواليتين معا، في هذا الثنائي من التقييدات
الشكلية للنص، وفي الخاتمة التي تحقق هذا التراكب. إن خاصية شكلية ستكون
ملحوظة كذلك في المكونات النصية المولدة للمتواليات الترادفية:
الجمع
بين الأضداد ملاحظ من ق بل كل النقاد ولكنه لم يفسر أبدا، هؤلاء الذين
يقولون إن عمله لم يكن مفهوما. كذلك لم تفسر صورة "موكب من الأعاجيب"،
المتجسدة بجرأة من خلال كناية "الأعاجيب"، المجردة من تجريديتها ومردودة
إلى دلالتها المسرحية. بمعنى أنها ترد إلى الدلالة التي تحتم عليها أن تكون
في نص للخيال أو الهلوسة.
إن كل ما كنت أناقشه تتم إضاءته من خلال صيغة
الجمع "الأخاديد".orniere ففي صيغة الإفراد كانت الكلمة ستغدو ذات معنى
أخلاقي واستعاري: عادات سيئة، وكسادا أخلاقيا(5). أما في صيغة الجمع فإنها
واقع آثار العجلات على الطريق. هذه الحقيقة المرئية والملموسة هي حقيقة عن
الغياب: إنها الآثار التي يخلفها العبور السريع خلفه، واللمحة الخاطفة
للسباق إنما يقوم بها المتفرج الذي تخلفه وراء ظهرها. من هنا فإن العنوان،
بصورة أولية، يوحي فعليا بالتوتر الشعري للنص: فالأخاديد المحفورة على
الطريق تعد سبيلا للإفصاح عن الحضور المتخفي للمركبات التي هي - حرفيا - قد
مرت. إنها طريقة معكوسة للتصوير، عن طريق وسيط: آثار العجلات المخلفة على
الطريق، الطبيعة التخيلية لهذا الاستعراض، والطبيعة الفانتازية لهذه
الرؤية. وبذلك فإن الخاصية الشعرية للنص غير منفصلة عن اتحاد فريد بين سمات
شكلية وسمات ثابتة. قد تكون ثوابت للنظم أو العروض، ولكنها هنا خاصة بهذا
النص لأنها تعتمد كلية على مغزاه.
شاهدي الأخير سيكون من
نص كلوديل Connaissance de I Est (معرفة الشرق):
من
أحد الأسنان، غالبا التي ألقيت خطأ في مكان ما، من بين تلك التي بذرها
كادموس في حرث طيبة، ولد صبار رهيب. جلبته الشمس، جندي المشاة هذا، من
أرض ضارية. إن له قلب السيوف، مزهر بزنار أخضر بحري. إنه حارس القفار،
بلون البحر والدرع، يبسط في كل مكان الصفائح الشوكية لمناشيره المهولة.
ولزمن طويل سوف يظل ينشر مسحاته، صفا وراء صف، إلى أن - عندما يصير مزهرا -
يموت. إلى أن يطفر العضو الزهري من قلبه مثل صار ، ومثل شمعدان، ومثل
الراية المغروزة في قلب آخر فيلق على ساحة النزال.
إن موضوع القصيدة هنا
هو الصبار.aloe ولأقل مباشرة إن عالم النباتات سوف ي صدم من تسمية هذا
النوع من الصبار.aloe فكلوديل يستخدم التسمية الخطأ: فهو بالتأكيد يقصد
الصبار الأمريكي (6) agave، ولكن استخدامه هذا خطأ شائع جدا. وسان جون بيرس
يقوم بالخطأ العكسي، إذ يطلق على الصبار الفعلي aloe اسم الصبار
الأمريكي.agave وعلى كل حال، فإن كلوديل وأغلب قرائه يتصورن الصبار aloe
بوصفه نباتا ضخما، وأشد ضراوة بكثير من الصبار المألوف cactus الذي تصوره
كتب النباتات مثل السيف. ويمكننا أن نرى كيف من السهل الانتقال من تصوير
لنبات إلى صورة بطل مدجج بالسلاح من رأسه حتى قدميه. إن سيمون دي بوفوار
تدرك أن الصبار aloe ليس هو نوع الصبار الأمريكي، بيد أنها تتوصل إلى نفس
الصورة الضارية للصبار التي توصل إليها كلوديل: ففي Mandarins تتحدث عن
الصبار قائلة "الذي يطعن الأرض".
لذلك، فإنه ليس مستغربا أن يستحضر
الصبار أسطورة كادموس في ذهن كلوديل. ففي الأسطورة اليونانية كادموس هو
الأب المؤسس لطيبة، بعد قتله للتنين يبذر أسنانه في الحقول. وقد تم استدعاء
هذه الأسطورة كذلك في قصيدة نرفال(Delfica) : والكهف، المشؤوم على الزوار
الغافلين، حيث ترقد البذور القديمة للتنين المهزوم". من تلك الأسنان التي
بذرها كادموس، كما تبذر حبوب القمح في الحياض، يطلع محاربون مسلحون. ذلك كل
ما يحتاجه كلوديل ليكو ن صورة كائن ولد فعليا من بذرة - الصبار - ذلك
الذي أنعمت عليه الطبيعة بالسيوف. إننا هنا أمام مزج رائع لتصوير دقيق:
الفانتازي الميثولوجي، وصورة استعارية من عالم النبات.
إن شراسة الصبار
يعززها نعته بـ "صبار رهيب" فهو يضفي على الموصوف دلالة القوة لكونه مخيفا،
ومكتسبا قوة إضافية مجاز ce hoplite التي تعني "جندي المشاة اليوناني
المدجج بالسلاح"، ولأن حرف (h) غير منطوق في الكلمة الفرنسية فكان لابد
لأداء النطق أن يكتب cet hoplite، بيد أن كلوديل في الغالب يوظف الصيغة
المخالفة للقاعدة؛ إنه يغازل اللغة اليونانية. ففي اللغة اليونانية ثمة
تلفظ أساسي يدل عليه أداء صوتي يسمى التلفظ الأجش rough breathing، على
العكس من عدم النطق أو غير الملفوظ.smooth breathing هذا التلفظ المنطوق في
اليونانية يقابله حرفيا في الفرنسية حرف (h) الاستهلالي. ولكن هذا الحرف
(h) ليس منطوقا دائما، وفي حالة كلمة hoplit فإنه ليس منطوقا. وبجعله
منطوقا يخلق كلوديل أثرا صوتيا يستثير شيئا موجعا. إن تسمية طريقة في النطق
بالتنفس (breathing) أمر شاذ: فهو يذهب بالسمة الإنسانية في "التنفس" إلى
مدى أبعد عند نعتها بكونها رقيقا smooth أو أجشا rough، ولعب على الكلمات
يغدو ملائما. وبفضل التناص مع اليونانية، تبدو (ce hoplite) وكأنها تجسد
وحشية الجندي البربرية. هذه الوحشية تتصاعد مع المجاز "أرض ضارية" (sol
feroce)، الذي يجعل الشمس هي المولدة لوحشية الجندي المفرطة.
إن كلمة
"قلب" في "قلب السيوف" مؤلفة من تركيب لفظي من ثلاثة عناصر؛ وهذا التركيب
وحده كان كافيا لإثبات أن لغة النص لغة شعرية. ولكن النثر الشعري يمكن أن
يتحقق خارج النوع الأدبي الذي يشغلنا هنا. إن ما لا يزال يتحتم إثباته هو
كون شعرية الأجزاء المكونة للنص متصلة بخاتمته. في غضون ذلك فلنرى ما الذي
يتألف منه هذا التكوين المركب. إن كلمة "قلب" Coeur تحمل معاني مختلفة في
سياقات ثلاثة: السياق الإنساني، والنباتي، وفي سياق ذلك النبات الشوكي على
وجه التحديد. وقد رأينا على المستوى الإنساني أن الصبار كان مشابها للمحارب
اليوناني. وعلى مستوى النبات يمثل اللب، قلب الشجرة؛ فمجاز الإزهار قد
ارتبط بصلات استعارية تؤنسنه "قلب"، "عضو" عاكسة حيوية الشجرة. وفي نهاية
الأمر فإن كلمة "قلب" تعمل على مستوى يتوسط ما بين النباتي والإنساني، ناتج
عن اللعب بالكلمات في صيغة "قلب [النبات] الشوكي" التي ينبغي أن ترد على
الذهن لأن كلمة "الشوكي" واردة في النص. فقلب النبات الشوكي ليس فقط هو
اللب لثمرته اللذيذة، بل إنه كذلك استعارة للقلب الإنساني المتقلب. إنني لا
أزعم أن كلوديل يحاول جعلنا نعتقد في صبار من نوع ما يتسم بالقسوة؛ بما
يعني القلوب الغادرة القاسية تجاه محبيها. فهذا أمر سخيف. ولكنني أزعم أن
كلا من الصلتين الحرفية والاستعارية بين كلمتي "قلب" و "شوكي" تجعل من
الممكن لكلمة "شوكي" أن تعزز وتحفز كلمة "قلب" لتمنح "القلب" واقعية
وحياة تدعمان تشخيص وتجسيد "المحارب اليوناني" . hoplite

إن الغرض الموضوع للنص هو تكوين صورة المحارب اعتمادا على أية ذريعة،
ولو من دون أدنى قدر من احتمالية الصدق. وهذا الهدف المحدد صارخ الوضوح في
مسألة "لون البحر والدرع". فلون البحر في الحقيقة تم تحفيزه دلاليا من خلال
الوصف "الأخضر البحري". فالأخضر القاتم هو لون أوراق الصبار: والقاموس
يعرف هذا اللون بأنه لون البحر. بيد أن "لون الدرع" لا وجود له مع ذلك
اللون، وله فقط تحقق شكلي: في إطار الجناس الاستهلالي alliteration، حتى لو
كان جناسا صوتيا، بين البحر (de mer) والدرع damure لا يصاغ لشيء سوى
الرغبة في عمل سيمترية.symmetry ومن الجدير بالذكر أن هذا الفراغ داخل
الجملة، الذي استهل بإغواء السجع والتكرار، تم ملؤه تلقائيا بكناية الجندي:
فارتداؤه الدرع يكرر على المستوى الأسلوبي ما كان النص يكرره منذ البداية:
أن الصبار يشبه محاربا رهيبا.
ويتولد التأثير ذاته من عبارة "الصفائح
الشوكية لمناشيره المهولة"، التي تنقل إلى الحقل المعجمي لبستان مسالم وإلى
معجم العدد الحرفية ما كان معبرا عنه من قبل في لغة حربية. فالمنشار يمثل
لدى الح رفي ما يمثله السيف بالنسبة للمحارب. فتحويل الدال transcode قائم
على مشابهة جزئية: خاصية القطع فيهما.
إن الجملة الأخيرة كلها تعمل على
إبراز الكلمة الأكثر لفتا للانتباه: المسحاة herse إنها لافتة للانتباه
بداءة؛ لأنها تتجاوب في نطق الحرف h فيها مع hoplite فتكرر التقاء الحرفين
الصائتين في (Ce hoplite) (sa herse) يعزز الصلة بينهما: الأولى تمثل
الصورة المجازية للمحارب والثانية تمثل الكناية لتلك الصورة المجازية.
وتفوق المسحاة، بوصفها كناية، كثيرا، مجرد الأداة الزراعية التي هي دال
عليها: فالمسحاة - أيضا - تكتسب شراسة الصبار. هذا ما تفعله على ثلاثة
مستويات في الآن نفسه؛ ذلك أن كلمة مسحاة herse تعد مفصلا من نوع ما، رابطة
تتقاطع عندها ثلاثة سياقات دلالية، ثلاثة مشتركات من الأفكار التي تعود
جميعها إلى الصبار. وهو نوع الرابطة نفسه الذي وصل ما بين متواليتي السرعة
والعجائبية في قصيدة رامبو. ويتكئ الارتباط بالصبار على المعاني المعجمية
الثلاثة لكلمة "المسحاة":
1. "أداة من أدوات الزراعة مجهزة بصفوف من الأسنان".
يقول نص كلوديل: "سوف يظل يشهر مسحاته، صفا وراء صف".
2. شبكة التحصين، قضبان حديدية تستخدم لحماية مدخل حصن.
وبذلك
تستعمل المسحاة كناية عن التحصن. والصبار، بافتقاره كلية لرقة وهشاشة
النبات، يكون محصنا جيدا. إن الكلمات (صاري، راية)، و (أحشاء آخر مربع) Le
dernier carre ترتبط بالمعنى الثاني للمسحاة. وعبارة "آخر مربع" مصطلح حربي
مستمد من التكتيكات الحربية القديمة: حيث كان الجنود المشاة يصفون على شكل
مربع كحصن بشري، فيصنعون بأجسادهم متراسا (عبارة "مربع واترلو الأخير"
كليشيه مألوف للدلالة على خندق المقاومة الأخير).
3 - وأخيرا، يولد
المعنى الثالث للمسحاة herse الصورة الوحيدة للصبار التي تفلت من مجاز
الحرب وتعد في الحقيقة شاذة عنه: "الشمعدان المفر ع" [شمعدان الكنيسة أو
المعبد.] وهذا تمثيل دقيق للحالة النباتية، لأن جزع الصبار وأوراقه
المنتشرة تمثل في الواقع صورة لقنديل ضخم ذي فروع عدة. مخلصا للواقع كما
هو، وبعيدا عن الحرب أو ما يتعلق بها، لا يزال هذا المعنى يكرر الثابت
الشكلي مبتدئا بـ "المسحاة" herse، التي يتمثل معناها القاموسي الثالث في:
"شمعدان الكنيسة الثلاثي بأسنان للإحكام على الشموع".
إن الكلمات
المحورية في النص هي: كادموس Cadmus، البطل المحارب والذي يبذر البذور
كذلك، والمسحاة herse التي عرضنا لمعانيها المتعددة توا: تلك الكلمات
تعطينا مفتاح النص كقصيدة نثر. ومن خلال تلك الكلمات الركائز أو المحورية
يتقاطع السياقان المحارب/النبات: وصيغة letendard enracine (الراية
المغروسة) هي الصيغة النموذجية كشاهد، لأنها قاسم مشترك بين السياقين في
الآن نفسه.
إننا نرى الآن، في لعبة الانتقال هذه من شيء إلى شيء، أن كل
الدوال تتلاقى في الوقت نفسه بمدلولات عدة. فالنص يبدأ مع صورة للحرب
وينتهي على النحو نفسه تقريبا.
بيد أن هذا الافتراض لا يكون ظاهرا إلا
من جهة المعنى. ولكن فلنختبره من جهة الشكل. يبدأ النص بكلمة "سن« dent،
السن الوحيد الذي له صلة بالموضوع في سياق نباتي لأنه السن الوحيد الذي
يعني كذلك "البذرة". وقد مضى النص بكلمة سن إلى مدى أبعد بواسطة "المسحاة":
بأسنانها الحادة في معانيها الثلاثة. مرادف متصل بالنظم يسري خلال الصور
والأصوات المتنوعة لهذين المتواليتين أو السياقين المزدوجين. فالمتواليات
تجعل من النص تنويعة على موتيفة واحدة، موتيفة تواؤمها ذو صياغة مركبة من
خلال التعبير المتداول: الصبار محارب "مدجج بالسلاح حتى الأسنان".
هذا
المقطع الشعري المكتفي بذاته يمثل فكرة خيالية عن قتالية النبات، وتشكل
جزءا من قصيدة أكبر بعنوان "ساعات في البستان". والمقطع اللاحق عليه هو
تأمل فلسفي. وهو معقد في تركيبه مثله مثل الصبار، ومتصل بصورة مماثلة مع
النص. فالبستان يعد مسرحا للتأمل وساحة للتجوال في الوقت نفسه. فمنذ
المشائين(7)، صار التجوال دالا على التأمل. ومن الجانب الآخر - ولوجا إلى
صلب الموضوع، وبالأحرى استكشافا لمشكلة ما - يكون ممثلا بصيغة تقليدية بأن
يكون اتجاهه نزولا . حيث ت خفي الحقيقة، في أمثولة شهيرة، في قاع بئر.
يتحدث فيكتور هوجو عن "انحدار الخيال" بما يشتمل على المنحدر، والانحدار،
والسلم الحلزوني الداخلي، تلك الصور المفضلة عن الخيال منذ الرومانسيين.
وقد استخدم كلوديل السلم الحلزوني في عمل آخر من أعماله، في كتابه.Dutch
painting إنه يصف لوحة الفيلسوف لرمبرانت ويدون ملاحظة على هامش الصورة، عن
السلم الحلزوني الرمزي:
الطريق المستخدم ليؤدي بالابن الضال إلى
التلاشي في الأفق، قد طوته لوحة رمبرانت، جعلت منه سلما حلزونيا، هذا
الحلزون الذي يوظفه للهبوط درجة درجة إلى أعماق التأمل.
إن كلمة
"الحلزوني" cochleaire صفة من حلزونة cochlea أو قوقعة، وهو مصطلح طبي يدل
على الجزء الحلزوني من الأذن الداخلية. فحين يصف كلوديل اللوحة، فإنه يصف
معا وفي الوقت نفسه السلم الحلزوني الرمزي والأذن المستقيمة للفيلسوف متيقظ
الذهن.
ولنعد إلى البستان حيث ينمو الصبار، وحيث تجوال الفيلسوف. ذلك
البستان له شكل شديد الغرابة؛ فهو ليس متعرجا على شاكلة البستان الإنجليزي،
ولا هو هندسي على شاكلة البستان الفرنسي. إنه ممر يتخذ شكلا حلزونيا،
وينتهي هذا الشكل الحلزوني ببئر. وبالضرورة ستخمن الكلمات التي يستخدمها
كلوديل لوصفه: "الحلزون الذي ينطوي على ممر دائما ما يردني مرة أخرى لنقطة
محورية محددة، كما في لعبة الإوزة، مرتدا إلى أكثر الأماكن سرية، إلى جانب
البئر".

إن هذا مقطع تام. وتقوم وحدته على حقيقة كونه صورة للتأمل، وإصغاء
ميتافيزيقيا للكون. إن تنويعا مجازيا على كلمة "فيلسوف" Philosophe يقوم
بتحويل هذه الصورة: فهو مشاء (مشي البستان)، وهو متيقظ الذهن، وماورائي
ميتافيزيقي (السلم الحلزوني، والبئر).
وختاما، فقد نو عت في النماذج
التي قدمتها بغرض أن أوحي بتعددية الأشكال التي يمكن أن تتخذها قصيدة
النثر. لم أدع، بأية حال، أنني أشرت إلى كل الاحتمالات لها، ولا سقت أية
فكرة عن كل أصنافها. ولكن في داخل الحدود المفترضة بالضرورة، فإن هذه
النصوص تمتلك كل الثوابت المبي نة التي تختلف من نص لآخر، بالرغم من أنها
كلها تشترك في خاصية الشكل والمحتوى الواصل بينها على نحو لا يمكن التنصل
منه، وجعل تكوين المعنى تابعا لتكرار شكل ما أو التنويع على هذا الشكل. هذه
التبعية بحد ذاتها من شأنها أن تكون كفيلة بإثبات أن هذه القطع النثرية
مبنية كقصائد.
وأحب أن أمضي لمدى أبعد. إن قصيدة النثر يمكن تمييزها على
الفور؛ فالنص غير منظوم ومع ذلك فالقارئ يشعر بوحدة الشكل فيه كما لو أن
له قالبا نثريا. ومن ثم فإنني أسوق الطرح التالي: إن الفارق بين قصيدة
النثر وقصيدة النظم يتمثل في أنه في هذه الأخيرة تكون للقالب الشكلي خصائص
دائمة مخصصة لكل الأغراض التي يحتويها، ولكل النصوص التي يرغب المؤلف في
إدراجها فيه. أما في قصيدة النثر، وعلى العكس من القصيدة المنظومة، فالقالب
مخلوق ومرتجل لهذا الغرض بالذات، مبني على أساس المحتوى الموضوع فيه وم
واء ما ومتشكلا عليه، تماما كما يكون المحتوى مواءما ومتشكلا على النظم في
القصيدة المنظومة. إن الثابت المخلوق والمرتجل لهذا الغرض هو ما يحل محل
النظم. الثابت الذي ليس م ص ن عا سلف ا كما في طريقة النظم. وهو ليس سابقا
على النص مثلما الحال في العروض. إنه يخلق هيكله في النص في اللحظة التي
يتم فيها إدراك عناصر متكافئة مع بعضها البعض بفضل المعنى، على الرغم من
الاختلافات في السطح الظاهري: ومتكافئة مع بعضها البعض بفضل الشكل، بالرغم
من الاختلافات في المعنى. فهذا الثابت ليس موضوعا من ق بل التقاليد
المتوارثة، كما في الوزن السكندري والوزن عشري المقاطع؛ إنما يتم خلقه بفعل
التنظيم الداخلي الخاص للنص. ويبقى الثابت كما هو من بداية النص وحتى
نهايته. تماما كما يظل النظم كما هو، يمكن إدراكه دائما، بغض النظر عن أية
كلمات يمكنها أن تعطيه تعي نه المتجسد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

قراءة الثوابت في قصيدة النثر :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

قراءة الثوابت في قصيدة النثر

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: