** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

  هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

 هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد Empty
09112011
مُساهمة هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد

 هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد ImagesCA4T6BHK

حوار: كمال الرياحي


الذي لا يملك الشجاعة لأن يكون مزعجا، هو وعمله، ليس بكل تأكيد مفكرا من الطراز الأول....

(نيتشه)



ماذا يفعل الذي يرفض؟ إنه يتوق إلى عالم علوي، يريد أن يتابع تحليقه أعلى وأبعد من كل أناس الموافقة.

(نيتشه)



اكتملت المغامرة. اكتملت الحبكة. فيروس غريب يصيب دماغ رجل غريب تصدّى
للأصولية والجهل بالعقل وحده. رجل خاض معركته الأخيرة بتحدي التأشيرات
ليحدّث العالم عن بعد مثل إله.(1) ويلقي بسؤاله المحيّر «من يملك
أوطاننا؟». سنة كاملة جمعتني بالمفكّر والفيلسوف د نصر حامد أبو زيد من
خلال مراسلات أسبوعية ويومية أحيانا تحضيرا وإنجازا لكتاب حواري سيري ضمن
سلسلة «هكذا تحدّث». قبل شهر فقط سألته هل يخاف من القتل؟ فأجاب: «حين يحين
أوان الموت سيأتي فلماذا أقلق على كيفيته؟ لم أعش أبدا في أي لحظة من
حياتي هذا الخوف من القتل. وصلتني تهديدات كثيرة، ولا أزال بين الحين
والحين أتلقاها.» لم يحدّثني عن خوفه من فيروس مجهول. بل حدثني عن حلمه
الذي تمنّى أن يُحفر على قبره علامات طريق للزائرين وتعويذة تقيهم من خوف
المقابر، مقابر العقول.

رجل الاحتمالات الغريبة : اللاسلكي المتمرّد والشاعر المستقيل والناقد
الأدبي المنشق اختار أن يكون مفكّرا. نصر حامد أبو زيد لم يكن شخصية عادية
فهو من أواخر المفكّرين المعاصرين الكبار من أرض العرب. حياته سلسلة
مواجهات من أجل نصرة العقل. رحلة فرار من الأقدار، قدر الفقر والجهل وقدر
الشرق الاستبدادي وقدر الأصولية التي نشأ في جلبابها وقدر المؤسسة الدينية
الراديكالية التي كفّرته وقدر السلطات القامعة التي تواطأت عليه بصمتها.
كان
آخر المنفيين من أجل الفكرة. ومن أجل الحب ففتوى التفريق بينه وزوجته جعلت
من قول صاحب «دوائر الخوف» أكثر شراسة. فلا ردة عنده إلا الردّة عن العقل.
لم
تكن هولندا أرض فان غوخ لتحتمل جنون فكره فلوّح بها إلى الغرب والشرق
والمغرب والشرق الأدنى. كما الدين تجتاح أفكار أبو زيد عقول مريديه في كل
الدنيا. لم يكن مكفّروه يعلمون أنهم بنفيه سيطلقون جناحيه في سماء ثامنة لم
يسمعوا بها.
سنة كاملة جمعتني به تحدث فيها نصر حامد أبو زيد، بشجاعة
وصراحة وذاكرة حيّة عن طفولته وأحلامه الأولى وارتباطه بالإخوان المسلمين
وعن انشقاقه عنهم. تحدّث عن البحث العلمي وعن علاقته بالدين والأدب وعن
رؤيته المختلفة لشؤون النص وكيف رُمي بالكفر والردة. وعن قصة الحسبة
ومحاولة التفريق بينه وزوجه. كان يسأل بين الرسالة والأخرى عن توقيت نشر
الكتاب وكنت أماطل في ابتزاز معرفي لم يرفضه لمزيد من الأسئلة ومزيدا من
الأجوبة كأنما كان يقبض على ذهني حدس بأنه آخر كلام للرجل. كان نصر حامد
أبو زيد يعمل معي بنفسه على تجميع الصور المصاحبة وقد طلب في آخر رسالة قبل
شهر من رحيله أن يراجع النسخة الأخيرة من الحوار كاملة وكان ما أراد
وأعادها إلي بملاحظاته.
رحل الفيلسوف العقلاني أبو زيد وغاب عن جنازته
كل المسؤولين وجل المثقفين وهرب من العزاء أهالي قريته «قحافه» بمدينة طنطا
وأحجموا عن تقديم واجب العزاء، خوفاً من أن تصيبهم اللعنة التي أصابت
المفكّر المرتد، بينما شمت فيه الأعداء من كل فج وعبروا عن كراهيتهم
الكريهة في تعليقاتهم وتصريحاتهم وتهاتفوا مستبشرين بخبر «هلاك المرتد»
ليختتم مشهد الاغتراب. بعضهم من سلالة الفكر الغيبي الذي فضحه في كتابه
الشهير «نقد الخطاب الديني» اعتبروا الفيروس الغريب الذي فتك بخلايا دماغه
لعنة إلهية. هل كان الله يحتاج كل هذا الوقت لينزل لعنته على عبده المفكّر؟
هكذا يلوذ الجهل بأسواره وينكفئ على نفسه مثل ثعبان يحتضر. الكل يركض خلف
جنازته بلسانه أو بعصاه طلبا للجنة. يقول نيتشه في المعرفة المرحة
«انظروا... انظروا إنه يفر بعيدا عن الناس. لكن هؤلاء يتبعونه لأنه يجري
أمامهم، لشد ما هم قطيعيون».
عبد الصبور شاهين صاحب التقرير الأسود الذي
كان وراء ما سمي، «قضية أبو زيد» أكثر من ظهوره هذه السنوات ليتبرّأ من
تكفير(2) صاحب «نقد الخطاب الديني» بعد أن ذاق من نفس الكأس مع صدور كتابه
«أبي آدم» ويلوذ بالأمانة العلمية وهو من العلم بعيد. هل كان شاهين يشعر
بوخز الضمير؟ كيف يمكن أن ينبت له ضمير وهو الذي اعتبر تقريره التحريضي صكه
للجنة في أحد خطب الجمعة التي كان يلقيها بمسجد عمرو بن العاص؟
كان
يمكن لنصر حامد كما قال الغيطاني «خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر،
[..] أن يكون نجماً في المنابر الإعلامية الكونية، وكان باستطاعته أن يكون
القوة الضاربة في مواجهة الحركات المتشددة التي تلحق بغبائها، وعدم فهمها
للإسلام وللعصر أبلغ الضرر بالإسلام والمسلمين»(3). ظل نصر حامد أبو زيد
وفيا لوجهه الأكاديمي ومشروعه الفكري وضرب عرض الحائط بكل الإغراءات التي
عرضت عليه. تلك الإغراءات التي توقع حدوثها منذ ان وطئت قدماه أرض هولندا
فكانت ضربته الاستباقية في أول محاضرة يلقيها هناك بأن نطق الشهادتين ليلجم
الانتهازيين والمترقبين والمستثمرين في بورصة العقول والضمائر والذين
يقفون على «شواطئ» المطارات في انتظار المنفي الغاضب. رفض نصر كما قال لي
في الحوار حتى اللجوء السياسي وفضل الاحتفاظ بجنسيته المصرية.
هذا حوار
سيري يرصد سيرة هذا الهرمنيوطيقي العربي الذي انتصر لعقل الباحث فيه وأخلص
للفكرة دون غيرها. يتحدث فيه بكل حرية الرجل الشجاع الذي لم يعد يعنيه أن
تصطاده رصاصة فرج فودة أو سكين نجيب محفوظ. يأتي إليه الرصاص من كل الجهات
الأربع على حد عبارة معين بسيسو : من الإسلاميين ومن رجالات السلطة
الانتهازيين ومن الشعوب المسكوبة مثل المرق في طناجر الخرافة والميتافيزيقا
ومن العدو الرابض هناك بعيدا والذي يحرك الثلاثة السابقين وإن كانوا لا
يعلمون.
حوار أردناه سيريا من الولادة إلى الموت، وأردناه عميقا لرجل
وهب حياته لعمق أعماق الفكرة لتشييد المعنى. تحدّث بضراوة الذئاب عن
الأصولية الدينية والقمع السياسي والفساد وتأمّل معنا بعمق واقعنا الثقافي
والسياسي والديني والعلمي.
حوار أصغينا فيه كثيرا وسألنا قليلا متى وجب السؤال. حتى يبقى الحوار وفيا لعنوانه: «هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد»
البداية: ُيتم
vv
نصر حامد أبو زيد المولود سنة1943 في أسرة ريفيّة بسيطة الحال، إنسان هارب
من أقدارٍ غريبة كان من الممكن أن يجد نفسه في أماكن أخرى. ما بين قدر أن
يكون شيخًا أزهريًا أو متخصصا فنيًا لا سلكيًا أو شاعر عامية أو ناقدًا
أدبيًا، انتهى به الأمر إلى باحثٍ في الظاهرة الدينيّة والفكر الإسلامي،
باحثًا أيّده الكثيرون وعاداه الكثيرون أيضًا لإشكاليّة طرحه وخطورته.
حدّثنا عن القدريّات الغريبة منذ البدايات. النّشأة والتكوين النّفسي داخل
هذه البيئة، هل كان لها أثر في تحديد المسار لاحقًا لتكون واحدًا من أكثر
المفكّرين البارزين والجدليين في مجال فقه اللغة والدراسات الإسلاميّة؟
لا
أعتقد أنه كانت هناك قدريات غريبة بالمعنى الذي أفهمه من عبارتك، بقدر ما
تطورت الحال وفق متغيرات طرحتها الحياة آنذاك. كان حلم الأب أن أواصل
تعليمي في الأزهر بعد أن حفظت القرآن في كُتِّاب القرية. تبين للأب أن
المسار طويل والعمر قصير فتحولتُ إلى التعليم المدني. ازدادت وطأة المرض
على الأب وأنا على أبواب امتحان الإعدادية، فقرر أن ألتحق بالتعليم الفني
وحسنا فعل، فقد وافته المنية في 24 أكتوبر 1957، أي في بداية العام
الدراسي. هذا مكنني من الانخراط في المسؤولية التي وضعتني فيها الظروف –
مسؤولية الإبن الأكبر – بعد الحصول على الدبلوم والعمل فنيا لا سلكيا. كانت
القراءة متعتي الوحيدة ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة «اليُتْم».
كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة، لكن نهم القراءة ظل هو الحاكم. لم يفارقني
حلم الأب، لكنه صار حلما من نوع آخر انتهى بي إلى قسم اللغة العربية بكلية
الآداب جامعة القاهرة، وكان هدفي قسم الفلسفة. كانت محاضرة الفلسفة في
السنة الأولى مخيبة لكل آمالي فقررت قسم اللغة العربية.
vv أستاذ نصر،
يقول هوغو في كتاب «التهذيب للقدّيس فيكتور»: «الإنسان الّذي يرى موطنه
أثيرًا على نفسه هو إنسان غفل طري العود، والإنسان الذي ينظر إلى أيّة تربة
وكأنّها تربة موطنه هو إنسان قويّ، وأمّا الإنسان الكامل فهو ذلك الإنسان
الذي يرى العالم بأسره غريبًا عليه». هل كنت تفكّر بالغربة بهذا المعنى
داخل وطنك في مرحلة البدايات لتفكّر في خوض المغامرة الفكريّة والتميّز
حينها؟ هل الشعور بالغربة والمنفى داخل الوطن هو دائمًا ما يجعلك مدفوعًا
بغريزة الإبداع نحو التفرّد والإصرار على الخروج عن القاعدة؟
تجربة
«اليتم» تمثل مستوى ما من الاغتراب، خاصة في المجتمعات التي تخلو من نظام
للرعاية الاجتماعية للمواطن. لكن هذه الغربة كانت تخفف منها الحياة في
مجتمع يحاول النهوض. كانت ثورة 1952 تمثل هذا الحلم بالنهوض، لكن ملابسات
الصدام الذي حدث بين قادة الثورة وبين القوى الوطنية المختلفة بسبب مسألة
«الديمقراطية» ألقت بظلالها على وعيي منذ منتصف الخمسينات. وهذا مستوى آخر
للاغتراب أسميته بداية «الحزن السياسي»، لأنه لم يصل أبدا إلى حد التقاطع
مع حلم النهوض. هزيمة 67 عمقت هذا الاغتراب وحولت الحلم إلى كابوس. كان
انقلاب 1970 – ثورة التصحيح – بمثابة النهاية وتحول الاغتراب إلى جرح عميق،
أعتقد أنه لا يزال ينزف.
vv مرحلة السبعينات من القرن العشرين: عام
1972 الليسانس في اللغة العربيّة بامتياز، عام 1976 الماجستير بامتياز وعام
1981 الدكتوراه مع مرتبة الشرف من قسم الدّراسات الإسلاميّة. هل يمكننا أن
نقول إنّ فترة السّادات المشحونة اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا أثرت في وعيك
الفكريّ وكانت حافزًا لهذه الإنجازات؟ أهي العائلة والبيئة الشخصيّة؟ أم
أنّك كنت طالبًا بأجندة فكريّة منذ البداية؟
يجب تصحيح المعلومات: أربع
سنوات لليسانس (1968- 1972)، خمس سنوات للماجستير بعد السنة التمهيدية
(1973-1977) ثم أربع سنوات للدكتوراه (1977-1981). كانت خطواتي متأنية سعيا
للإجادة. كثيرون من أقراني سبقوني كثيرا في الإنجازات حتى صاروا رؤسائي
الإداريين. لم أكن متعجلا. السنوات المشحونة اجتماعيا وفكريا وسياسيا تبطئ
من إنجازاتي بحكم الانشغال بالهم العام. فقط هؤلاء الذين لا يعنيهم الشأن
العام يخطون بسرعة.
vv كيف جاءك قرار دراسة اللغة العربيّة وآدابها ثم
الانتقال إلى دراسة الفكر الديني لاحقًا؟هل كان في حياتك من أخصب وعيك مع
هذه الموهبة الدّفينة داخلك، وحدّد أمامك مسارًا سيغيّر فيما بعد مسار
حياتك، أم أنّك كنت مدفوعًا بروح الموهبة والطموح المتأججين والرّغبة في
تجاوز الفكر الجهاز «المألوف»؟
كما ذكرت التحقت بكلية الآداب لدراسة
الفلسفة، ثم أصابني الإحباط من أول محاضرة فقررت الالتحاق بقسم اللغة
العربية، وعندي تصميم بحكم قراءاتي في الأدب أن أتفوق فأكون «معيدا» ثم
أواصل دراستي العليا حتى الدكتوراه لأكون أستاذا. قراءتي في الفكر الديني
قبل الجامعة كانت لا بأس بها بتأثير فكر «الإخوان المسلمين» الذي تأثرت به
في صباي الأول، كتابات سيد قطب ومحمد قطب بصفة خاصة. كنت مفتونا بكتابات
القطبين عن القرآن والفن، وتفسير سيد قطب «في ظلال القرآن» كان مدهشا
ومذهلا بالنسبة إلي. إلى جانب فكر الإخوان كنت قارئا نهما للعقاد وطه حسين
ونجيب محفوظ. كان ببالي أن أدرس شيئا عن «النظرية الجمالية الإسلامية»
متأثرا بكل هذه القراءات. تصادف أن قرأت عن أزمة «محمد احمد خلف الله» في
دراسته للفن القصصي في القرآن الكريم بإشراف الشيخ أمين الخولي وكيف انتهت
بفصله من الجامعة، وبحرمان أستاذه من الإشراف على رسائل في القرآن. طبعا
كنت على وعي بالأزمات التي أحدثتها بعض الكتب الجسورة مثل كتاب علي عبد
الرازق «الإسلام وأصول الحكم» وكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، بل وعاصرت
أزمة «خالد محمد خالد» في كتابه «من هنا نبدأ» كما عاصرت أزمة كتاب «لويس
عوض» «في فقه اللغة العربية». كل هذا غير توجهاتي فقررت أن أكون «ناقدا
أدبيا».
ما لا يعرفه الناس، أن مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعادني
إلى الاتجاه الأول: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب، حيث قرر مجلس القسم
أنني يجب أن ألبي حاجة القسم إلى متخصص في الدراسات الإسلامية، وألا أبحث
لنفسي عن عمل آخر. شرحت لمجلس القسم مخاوفي من الدراسات الإسلامية فلقيت
نوعين من رد الفعل: تطمينات بأن ما حدث في الماضي كان سببه خلافات شخصية
بين الأساتذة (طبعا هذا كلام لا يقنع أحدا، فطرحت التساؤل: ما الذي يضمن
عدم تكرار هذه الخلافات في المستقبل؟) وهنا لقيت رد الفعل الساخر: أتظن أنك
ستأتي بما لم يأت به الأوائل؟ كان ردي: أليس هذا هو ما يجب أن أفعل، أليس
هذا معنى البحث العلمي!
vv إذًا، تحصّلت على الليسانس في اللغة
العربيّة وآدابها. ثمّ دمجت بين الأدب والفكر الديني في دراسة الماجستير
حول قضيّة المجاز في القرآن عند المعتزلة. تُعتَبر هذه نقلة وبداية نشوء
وعيٍ فكريّ ما بأجندة مخفيّة. ما الذي دفعك لاختيار هذا الموضوع، وكيف
انفتحت على قرار دراسة المجاز كفن بلاغي في القرآن عند فريق المعتزلة؟
حدّثنا عن هذه النّقلة وأسباب اختيار هذا الموضوع وهل كنت بدأت وقتها
بالتأثّر بمنهج تحليل الخطاب؟
انتهى الأمر باقتراح موضوع «قضية المجاز
في القرآن عند المعتزلة» جامعا بين ولعي بالفلسفة والأدب من جهة، وبين
احتياج قسم اللغة العربية لمتخصص في الدراسات الإسلامية من جانب آخر. لم
أكن أعرف بعد منهج تحليل الخطاب أو غيره من المناهج، إنما معالجة البحث
بجدية وأناة والإفادة من كل الأساتذة إلى جانب المشرف، وعدم الانغلاق في
مسمى «التخصص» كل ذلك قادني إلى مسألة المنهج. وفي هذا الكتاب الأول، نشر
بعنوان الاتجاه العقلي في التفسير تجد جنوحا أكثر نحو منهج التحليل
التاريخي الاجتماعي باعتبار الأفكار ثمرة العلاقة الجدلية بين حركة الواقع
وموقف هذا المفكر أو ذاك من هذا الواقع. إلى حد كبير كنت متأثرا بهذه
العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، لا على أساس الانعكاس الآلي للبنية
التحتية في بنية فوقية. كلا كنت أسخر من هذا التصور الآلي للعلاقة بين
الفكر والواقع. كانت هذه بداياتي مع «المنهج» ومشكلاته.



 هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد ImagesCAQKVKSU


طرق المحظور
vv وهذا المجال، أي
القرآن وهذا الولع بدراسته انفتح مع أطروحة الدّكتوراه في فلسفة التأويل
والّتي كانت دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي. كيف تكوّنت
لديك ثقافيًا فكرة دراسة تأويل القرآن عند ابن عربي أولاً، ولماذا جاء ابن
عربي بعد قراءة المجاز القرآني عند المعتزلة؟
النتائج التي توصلت إليها
في الدراسة الأولى أثارت أسئلة من قبيل: إلى أي حد يمكن القول إن منهج
تأويل النص الديني يعتمد على مقاربة موضوعية؟ ولماذا اتفق المتجادلون حول
معنى القرآن على تقسيمه إلى «محكم ومتشابه» ثم تشعبت بهم الطرق واختلفوا
حول تحديد «المحكم» وتمييزه عن «المتشابه»؟ لماذا صار «محكم» المعتزلة
«متشابها» عند خصومهم، والعكس صحيح؟ وهل الخلاف حول «بؤرة المعنى» مجرد
خلاف لاهوتي، أم أن هذا الخلاف اللاهوتي يعكس اختلافا في مواقف الجماعات
المختلفة من الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي؟ يؤيد هذه الافتراضات التي
انطلق منها البحث الأول «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة» حقيقية أن
الاختلاف حول الواقع السياسي منذ مقتل الخليفة الثالث – عثمان بن عفان –
وما تلاه من حروب مثل «الجمل» و«صفين» هو الباعث الأول للنقاش اللاهوتي.
النتيجة
التي توصل إليها الباحث في بحثه الأول وجهت الباحث إلى محاولة اكتشاف منهج
التأويل في فضاء أخر، هو فضاء الفكر الصوفي مفترضا أن الفضاء الصوفي فضاء
روحي خالص، من هنا دراسة «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي». لكن
النتائج لم تختلف كثيرا، أعني من حيث تأثير مشكلات الواقع في وعي/أو لا وعي
المفسر. الاستجابة الصوفية مختلفة بحكم اختلاف المنحى الفكري من جهة،
وبحكم اختلاف الواقع السياسي الاجتماعي من جهة أخرى، حيث أثر مناخ الأندلس
التعددي من جهة، وظروف حروب «الاسترداد» من جهة أخرى، في تشكيل طبيعة الوعي
الصوفي وصياغة المعنى الديني.
التأويل وتكفير التفكير
vv القرآن
كنصّ مهيمن يؤسس ذاته ديناً وتراثًا. وأنت تبحث في هذا الإشكال، أكنت على
وعي بخطورة ما تقوم به في مجتمع لا يسمح «بالعبث» داخل هذه المساحة
المحظورة؟ هل كنت مطّلعًا على الدراسات التأويلية الغربيّة للنصوص الدينيّة
والدراسات اللاهوتيّة؟ ما نقصد فهمه هنا هو منظورك الفلسفيّ ومفهومك ومدى
وعيك لمدى محظوريّته فيما يخصّ النصّ القرآني؟
كنت واعيا للمخاطر، لكنني
كنت في نفس الوقت مدركا لضرورة التعامل مع أسئلة من نوع «طبيعة» النص
الديني، حدود قابليته للتأويل وضوابط هذا التأويل. انبثقت الضرورة من
حقيقتين: النتائج التي توصلت إليها في أبحاثي عن تاريخ الـتأويل في بعديه
اللاهوتي والصوفي، وهي نتائج كشفت عمليات التلاعب الدلالي في إنتاج المعنى.
الحقيقة الثانية أن المعنى الديني في الواقع المصري العربي الذي عشته في
عقدي الستينات والسبعينات كان موضوعا لتأويلات شتى من الاشتراكية والقومية
إلى الحاكمية والإسلاموية. كان السؤال الجوهري الذي انبثق في «مفهوم النص»
هو «ماهية القرآن» ومنهجية مقاربته. في تصوري أن التلاعب الدلالي ممكن في
حالة عدم تحديد ماهية النص تحديدا يعتمد على الحقائق التاريخية والثقافية
التي تولدت في رحمها النصوص. حين أقول تولدت في رحمها أفترض أن القارئ يفهم
أنني لا أنكر إلهية المصدر، مفهوم «البذرة» أو «البذور» التي تتولد في رحم
التاريخ والثقافة يحيل إلى الجدل الإلهي/الإنساني في عملية الوحي وفي
صياغة المعنى.
الأمر عويص، لكنه ليس مستحيلا في ضوء أرهاصات تراثية
لاهوتية/فلسفية/صوفية تسمح للباحث المعاصر في التواصل مع إنجازات الفكر
الإنساني في أرقى تعبيراته. ولا ننسى أن ثمة محاولات بذلت في الفكر
الإسلامي النهضوي الحديث في إيران والهند والعالم العربي لطرح بعض هذه
الأسئلة عن طبيعة النص الديني وضرورة إنجاز منهج للتأويل يفتح معنى النص
للإجابة عن أسئلة معاصرة. منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية متواصلا
مع الفكر الإنساني لم أتخيل أنني أرتكب أمر محظورا. لا زلت متيقنا أن تحقيق
إصلاح فكري جوهري في الفضاء العربي الإسلامي غير ممكن دون الدخول في هذه
المناطق. إنها محظورة لأنها تهدد عروشا سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة،
لكنها ضرورية لتحقيق نهضة مستدامة.
vv نعود بك إلى الوراء قليلاً. إلى
لحظة مناقشة طرح دراستك هذه؟ كيف كانت الرّدود عليها وكيف تمّ استقبالها
في الأوساط الدينيّة الفكريّة قبل قضية التكفير؟ ثمّ كيف دخلت سرداب
التكفير وقصّة هجمة أساتذة جامعة القاهرة التي أوصلتك المنفى؟
استقبلت
أبحاثي استقبالا إيجابيا لا في مصر وحدها، بل في العالمين العربي
والإسلامي. وحين أقول إيجابيا لا أعني بلا تحفظات مشروعة في رأيي، لأنها
تفتح مجالا للنقاش يحتاج إليه أي فكر لينضج ويتطور. قصة التكفير لا يمكن
فهمها خارج سياق مناخ الاحتقان السياسي/الثقافي الذي غلَّف الأجواء المصرية
منذ بداية الثمانينات بعد اغتيال رئيس الجمهورية السابق في وضح النهار
وتحت وميض كاميرات الإعلام في احتفال مصر بيوم انتصارها. ازداد الاحتقان في
التسعينات بعد أن طالت يد الإرهاب قيادات سياسية في قلب القاهرة، وساعد
مناخ «الفزع الحكومي» من الإرهاب في توسيع سلطة الفكر الديني الذي يؤيد
النظام ويدين الإرهاب بلاغيا. امتدت يد الإرهاب للمثقفين فاغتيل «فرج فودة»
وتم الاعتداء على «نجيب محفوظ» وانقسم المجتمع الثقافي إلى معسكرين
متنابذين. وسط هذا المناخ جاء موضوع الترقي واستطاع تقرير غير علمي أن ينال
موافقة اللجنة العلمية ضد تقريرين إيجابيين. ولم يكن هذا ليقع في مناخ
أكاديمي طبيعي لم تلوثه ضغوط «الإرهاب» الذي صار فزاعة النظام السياسي
والإداري في مصر كلها ضد أي نقد.
تحول موضوع «الترقي» إلى معركة قرر
خصوم «حرية الفكر» حملها إلى القضاء. في ظل غابة القوانين والتشريعات في
النظام القضائي المصري تمت صياغة مسألة التكفير والحكم بالردة... الخ.
vv
وذريعة هذا الحكم هي جريمة التأويل. التأويل: أداة للتحرر من السلطة بكل
أشكالها، أداة للانعتاق من سلطة النص. لنقف بدايةً عند مفهوم كلمة نصّ.
لنتعرّف أولاً على مفهوم كلمة نصّ عندك بين علم تحليل الخطاب وعلم العلامات
أو السيميوطيقا، وكيف يأخذنا هذا إلى تأويل النصّ الأصلي وأهداف هذا
التأويل؟
هذا سؤال يحتاج إلى كتاب مستقل للإجابة عليه. ولعل القارئ لا
يعرف أنني وإن انطلقت في كتاب مفهوم النص من اعتبار القرآن «نصا» يمكن
تأويله وفق إجراءات منهج تحليل النص باعتبار النص أساسا «بناء لغوي»
ثقافي/تاريخي، فإنني قد طورت هذا المفهوم في السنوات الأخيرة، خاصة بعد
إدراكي أن مفهوم النص يتضمن مفهوم «المؤلف»، كما يتضمن مفهوم «الوحدة»
القائمة على التناسق البنيوي للأجزاء، هذا فضلا عن مفهوم «القصد». هذا
المفهوم الكلي بما يتضمنه من مفاهيم جزئية انبثق منذ اللحظة التاريخية
الأولى التي تم فيها تدوين القرآن في «المصحف» بترتيبه الحالي وتقسيمه إلى
سور، يتضمن كل منها نصوصا تنتمي إلى مناسبات تاريخية مختلفة. وبسبب هذا
التحول الشكلي من «قرآن» إلى «مصحف» قام علم التفسير على محاولات تأكيد
التناسق بين الأجزاء بافتراضات لعل أهمها «المحكم والمتشابه» و«الناسخ
والمنسوخ»، وهي افتراضات عمقت الاختلاف ولم تحقق هدف «الانسجام» بين
الأجزاء.
لاحظت أيضا أن المفسرين المحدثين يختلفون فيما بينهم في تحديد
«بؤرة الدلالة» القرآنية بصفة عامة، حيث يصر بعضهم على تحديدها في الأبعاد
الروحية والأخلاقية، بينما يصر آخرون على تحديد البؤرة الدلالية في
الأحكام والتشريعات. كل هذا دفعني إلى مراجعة مفهوم النص بالمعنى المشروح
أعلاه بالعودة إلى الطبيعة التداولية الأولى للقرآن، أي بالعودة إلى
الظاهرة القرآنية قبل أن تتخذ شكل «كتاب» أو «مصحف». تكشف هذه الطبيعة
التداولية أن القرآن مجموعة من «الخطابات» التي تم جمعها وترتيبها بشكل لم
تكتشف أسسه بعد نتيجة التسليم بأن هذا الترتيب «توقيفي»، أي أنه ترتيب
إلهي. لكن هذا التسليم «الإيماني» لا يعني أن البحث عن «علته» يناقض
الإيمان، فالبحث عن العلة هو محاولة لاكتشاف «الحكمة الإلهية» وهذا من صميم
الإيمان.
والعودة إلى الطبيعة التداولية للكشف عن مستويات المعنى
وحدود الدلالة يستلزم منهج «تحليل الخطاب» بما يتضمنه المنهج من الكشف عن
الأصوات البارزة والمضمرة في كل خطاب على حده، والكشف عن «دليل الخطاب»
و«فحوى الخطاب» و«نمط الخطاب». منهج تحليل الخطاب يعني أن كل خطاب هو في
النهاية «نص» لغوي، ومن هنا «تركيبية المنهج» المطلوب. وليس معنى هذا
المنهج التحليلي تجزيئ الظاهرة القرآنية، ولكنه يعني أن الكشف عن
«الكليانية» لا يتم إلا بتحليل الأجزاء. وهذا مخالف للمنهج الكلاسيكي الذي
يفترض «الكليانية» ثم يفرضها على كل الأجزاء دون تمييز. المنهج الكلاسيكي
افترض الكليانية على أساس لاهوتي وليس على أساس تحليلي، ومنهج «تحليل
الخطاب» يحاول الاقتراب من الظاهرة القرآنية قبل الصياغات اللاهوتية
والتشريعية، أو الفلسفية والأخلاقية، الـ«بعد قرآنية». بل يزعم منهج «تحليل
الخطاب» أنه قادر على تحليل تلك الصياغات «البعد قرآنية» تحليلا نقديا.
المنهج
– تحليل الخطاب – يوظف التحليل اللغوي للنصوص، ولا يكتفي به، فاللغة في
الخطاب تتجاوز دلاليا حدود العلامة اللغوية حين تحولها إلى علامة سميوطيقة
فيما يعرف بالسمطقة. من هنا توظيف السميوطيقا. هدف «التأويل» هو تحقيق
الفهم العميق للظاهرة، لكن هذا الفهم لا يجب أن يزعم لنفسه الهيمنة بادعاء
الحقيقة النهائية، أو الصحة المطلقة. تعلمنا الهرمنيوطيقا الدرس الذي يجب
ألا ننساه: كل تأويل مشروع طالما ينطلق من التواضع وعدم ادعاء الموضوعية
المطلقة التي لا وجود لها: ليست الحقيقة – أقصد المعنى – قارة في النصوص
الظواهر، وليست في عقل المفسر ووعيه، بل هي ناتج هذا التفاعل الجدلي بين
المفسر – لا الفرد بالمعنى الفرويدي بل الفاعل الاجتماعي – وبين
الظاهرة/النص.
vv أترى أن تسليط التأويل / الهرمنيوطيقا في النص
القرآني والتراث الديني هو نوع من تفجير مسلّم لا بدّ منه إنسانيًا؟ نقصد
أنه في مشروعك دعوة إلى تحرر العقل الإنساني كما تقول في كتابك «التفكير في
زمن التكفير»، أليس التحرّر من سلطة النصّ الديني أو نقده هو ترك الإنسان
دون مرجع، فيما كان الإنسان يعتمد دائمًا على وجود النصّ «الاوّل» كمرجع له
لحاجته إلى «حضن» أو «أب» يمدّه بنوع من الطمأنينة؟
للأسف الشديد يختلط
الأمر في ثقافتنا بين «الفهم العميق» وبين «التفكيك»، حيث يتصور الناس أن
الفهم النقدي يعني «النقض» بالضاد. التحرر من سلطة النصوص دعوة يجب أن تفهم
بالتركيز على كلمة «سلطة» لا بالتركيز على كلمة «نصوص». السلطة قيمة مضافة
بفعل الفكر الإنساني، و«الإيمان» وحده لا يحول النصوص إلى سلطة. تتحول
النصوص إلى «سلطة» حين يتمأسس الإيمان ويتم تقنينه لاهوتيا، وهذا يحدث في
سياقات تاريخية ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع
«الإيمان»، أو بين مجتمع «الإيمان» وبين مجتمعات «إيمان» أخرى. داخل مجتمع
الإيمان يراد التمييز بين التصورات والشروحات والممارسات المتعددة، فتقوم
السلطة السياسية بفرض «عقائدها» واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بدع أو
هرطقات. وقد رأينا في تاريخ الدولة العباسية مثلا كيف كانت عقيدة المعتزلة
في «خلق القرآن» عقيدة الدولة، ثم استحالت «هرطقة» ترقى إلى درجة الكفر بعد
أقل من ثلاثة عقود ليس إلا.
هذا التمييز السلطوي يتم غالبا في سياق
أكبر من الصراع مع المجتمعات غير المسلمة، سواء داخل المجتمع أو مع مجتمعات
خارجة، الإمبراطورية البيزنطية على سبيل المثال. هذا يفضي إلى النتيجة
التي فحواها أن التحرر من سلطة النصوص هو التحرر من السلطات التي احتمت
وتحتمي بتأويلاتها زاعمة أن هذه التأويلات هي «النصوص» بلا زيادة ولا
نقصان. الدكتور حسن حنفي له عبارة طريفة ولكنها دالة – وهو مشهور بصياغة
أمثال هذه العبارات الطريفة الدالة – «احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص».
أبوية
النصوص هي أبوية السلطات التي تدعيها، وحضن النص هو حضن السلطات التي
تستتر وراءها. كل ذلك يحتاج لتفكيك. يبقى «الإيمان» الحر هو الحماية
الحقيقية، أعني الإيمان الذي هو «العقد» – من هنا كلمة عقيدة – بين الفرد
أو الجماعة وبين نصوصها المقدسة دون وساطة أي سلطة، بما فيها سلطة المثقف
أو المؤول.
vv في ظل انهيار المفاهيم الثابتة للذات وسقوط مقولة المرجع
وتهشّم الواقعي في التخييل. هل يمكن الحديث عن الإنسان وفعله كمقولة
خيالية؟
لا أوافق على أن المفاهيم انهارت لمجرد أن مفهوم «الثابتة»
يحتاج للمراجعة النقدية. «الثبات» هو المشكل وليس وجود «القيم». الإنسان –
الفاعل الاجتماعي- هو صانع «القيم»، و«الثبات» يعني التجمد. الواقعي
والمتخيل ليست مفاهيم متناقضة، طالما أن «الوعي» الإنساني ليس وعاء فارغا
يملؤه «الواقع الحسي»، كما أنه – الوعي الإنساني – ليس كالمقولات الثابتة
يتشكل على أساسها الواقع.
vv تقول في إحدى مقالاتك «المثقف النهضوي
يسعى دائما للعمل من خلال السلطة ولو بالسعي للانقلاب عليها، فلم يكن
التغيير ممكنا في وعيه إلا بالانتماء للسلطة، أو بالاستيلاء عليها. وهذا
بالضبط أحد الفروق الهامة بين الخطاب النهضوي والخطاب السلفي، لكن كليهما
لم يدرك أنه حتى بالاستيلاء على أجهزة السلطة، سواء بالانتماء أو
بالاستيلاء يظل الجهاز ببنيته الإدارية حاملا مخلصا لإيديولوجيا السلطة
التي أنشأته» هل يعني هذا ألاّ أمل في النهضة؟ وهل يستقيل المثقف من أداء
أي دور ما دامت النوايا لا تكفي لتحقيق تقدم ما، ما دامت المؤسسة القديمة
موجودة؟
معنى هذا التحليل أن الأمل يكمن في إنتاج خطاب لا يضع السلطة في
بؤرته سلبا أو إيجابا. وليس معنى هذا التوقف عن نقد السلطة بكل تجلياتها
الاجتماعية والسياسية والثقافية (أعني عدم اختصار مفهوم «السلطة» في نظام
الحكم). سعي المثقف للاستيلاء على السلطة يعني أنه يؤمن أن التغيير لا يأتي
ولا يتحقق إلا من أعلى، بينما أتصور أن التغيير الدائم لا بد أن يأتي من
القواعد لا من القمم.
vv تبدو غرامشيا، كيف يمكن المراهنة على الشعوب الخاملة اليوم؟
تستطيع
السلطة تغيير القوانين، لكن هذه القوانين تظل فاقدة الأثر ما لم تتغير
الأذهان. والسؤال الآن: كيف يتواصل المثقف بخطابه مع دائرة أوسع من
الجمهور، وكيف ينتج خطابا عميقا ومفهوما في نفس الوقت؟ ليس عندي وصفة جاهزة
لحل هذا المعضل الذي أعتبره تحديا حقيقيا لكل مثقف في مجتمعات العالم
الثالث حيث «التعليم» في أزمة عضال. المسألة ليست إنتاج خطاب شعبوي يطبطب
على عواطف وغرائز الجماهير، يقوم الإعلام بتحقيق ذلك بنجاح ساحق (أعني يسحق
سحقا كل خطابات المثقفين)، بل خطاب نقدي يحترم عواطف ومشاعر الناس دون أن
يزايد عليها. في ذهني مفهوم «المثقف العضوي».
الحداثة الضالة
vv وهل
يمكن لشعوب لم تصنع نهضتها أن تتحدّث عن الحداثة وما بعد الحداثة؟هل يمكن
للمجتمع الزراعي والإقطاعي الجديد أن ينتقل إلى الحداثة دون أن يلحق بها
تشوّهات كبرى؟
من المؤكد أن ما لا تصنعه الشعوب لا يستقر في وجدانها
الثقافي. لكن تشويه الحداثة وقيمها في عملية «التحديث» في العالم العربي لم
تقترفه الشعوب، بل اقترفته السلطة التحديثية بمعاونة مثقف حداثي ظل يرواح
مكانه بين التراث والحداثة دون أن ينتج وعيا علميا بأي منهما. لا يمكن
تحقيق حداثة علوية، من أعلى، مع المحافظة على البنى التقليدية تحت أي مسمى.

تقول «لست كافرا ولا درويشا» وتؤكد أنك تحرص على العقل النقدي في
البحث العلمي حتى شبهك بعضهم بدون كيشوت الذي تحتفظ بلوحة له في منزلك،
أجبت يومها «لم يستطع النقاد تصنيف شخصية دون كيشوت، هو فنان ينهل من كل
التراث الإنساني، وأنا كذلك احتاروا في تصنيفي.. هل أنا شيوعي أم ليبرالي؟»
vv هل رغبتك في تمكين العقل النقدي مكانه الذي يستحقه في فضاء ينعم فيه الفكر الخرافي بالرفاهية يجعل منها مهمة مستحيلة؟
هي
مهمة صعبة وليست مستحيلة. الفكر الخرافي يمرح في مناطق بعينها هي التي
تحتاج لتسليط ضوء العقل النقدي عليها. في مناطق أخرى يسيطر الفكر
البراغماتي – فكر رجال الأعمال مثلا في مجال البيزينس – وهذا أيضا يحتاج
للنقد. في مناطق «الاقتصاد» مثلا يسيطر الفكر الليبرالي بحكم الضغوط
الكوكبية، لكنها ليبرالية مقيدة بحدود «آليات السوق»، أي أنها ليبرالية
براغماتية. في الفكر السياسي هناك «ديمقراطية» بلا حريات. كل هذه الصيغ
المشوهة من الخرافة والبراغماتية والشكلانية يمارسها مفكرون ومثقفون.
ثقافة التكفير
vv
هل يمكن أن نتحدث اليوم عن عالم عبد الصبور شاهين، واستفحال ظاهرة
التكفير؟ كيف يمكن محاربة «حراس النوايا» حسب رأيك مادام الفكر المستنير
والتقدمي هو الآخر متّهم ويعيش في مأزق بعد تعرّضه للاختراق من قبل
المرتزقة؟ وهل هذا ما دفعك لنطق الشهادتين في أوّل محاضرة تلقيها في
الغرب؟ماذا لو حدّثتنا قليلا في هذا الشأن؟
تنامي ظاهرة «التكفير»
واستفحالها يعني، وهذه مفارقة ساخرة، أنها تفقد خطورتها. تنامي ظاهرة
مصادرة الكتب واللوحات والأغاني وإغلاق الصحف والمجلات نكتة غير مضحكة في
عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة. كل هذا يعني أن الظاهرة تتفكك، وهذا ما
يفسر حالة «الهياج» و«السعار» في دوائر من تسميهم «المرتزقة» والذين لا
يكفون عن الصراخ في فضائيات الارتزاق. لكن يجب أيضا أن أنبه إلى الظاهرة
المقابلة، ولا أقول النقيضة، وهي صراخ «المرتزقة» الحداثيين – أو بالأحرى
مدعي الحداثة في نفس الفضائيات.
مسألة نطقي الشهادتين في أول محاضرة
ألقيتها بعد رحيلي من مصر عام 1995 كان المقصود منها توصيل رسالة إلى
الجمهور الغربي بأنني لست ضد الإسلام كما قد يتوهم البعض. قلت: إذا كنتم
تحسنون استقبالي وتحتفلون بي ظنا منكم أنني أنقد الإسلام من منظور المرتد
فقد أخطأتم العنوان، ثم نطقت الشهادة. كنت أخشى من الاستقبال الخاطئ نتيجة
الحكم الجائر الذي صدر ضدي أنا وزوجتي، ذلك أن كثيرا من الذين اضطرتهم ظروف
شبيهة للهجرة للغرب استثمروا هذه الظروف أسوأ استثمار بأن تحولوا كارهين –
وليسوا ناقدين- لثقافتهم. لهذا رفضت اللجوء السياسي، وأفخر أنني ما أزال
أحمل جنسيتي المصرية وحدها. أؤكد ليس هذا تقليلا من شأن من تضطرهم ظروفهم
ازدواج الجنسية، لكن حرصي منشؤه تأكيد حقيقة أنني باحث ومن شأن الباحث أن
يكون ناقدا للثقافة التي ينتمي إليها. الانتماء لا يعني عدم النقد.
vv
نتذكّر الآن قضيّة التكفير التي شكّلت نقطة مفصليّة في حياتك. فقد تجاوزت
قضية نصر حامد أبو زيد أسوار الجامعة ومسألة الحرمان من درجة الأستاذية من
جامعة القاهرة لتشكل قضية رأي عام في ما أشبه بثورة إعلامية أعقبت قرار
اللجنة العلمية في تاريخ 18/03/1993 الذي تضمن عبارات التكفير. حادثتك هذه
تذكرنا بالمفكر طه حسين بحكم كونكما حالتين معروفتين ممّن طالتهم القوى
المتشدّدة الرافضة للمبدأ العقلاني. إلاّ أنّ الأوّل تمّ التحقيق معه
وبرّأته النيابة، والثاني وصل به الأمر إلى التكفير والتّفريق بينه وبين
زوجته. ما بين الأستاذ والطالب في جامعة واحدة يفصل بينهما عقود من الزمن:
ما الذي اختلف بين جامعة «طه حسين» وجامعة «عبد الصبور شاهين» على حدّ قولك
أدّى إلى اختلاف النتائج على تشابهها؟
الاختلاف بين الجامعتين هو
الاختلاف في الواقع المصري بين ثلاثينات القرن الماضي وتسعيناته. أولا:
الاختلاف بين الليبرالية (المقيدة) في الثلاثينات وبين الديكتاتورية
(المطلقة) في التسعينات. ثانيا: الاختلاف بين جامعة مستقلة (نسبيا) في
الثلاثينات وبين جامعة خاضعة خضوعا كلّيا للسلطة السياسية انطلاقا من
الثمانينات. خلال الفترتين حدثت محاولات حثيثة من جانب النظام السياسي
للسيطرة على الجامعة أمنيا وفكريا. قامت حركة «الضباط الأحرار» – ويا
للمفارقة – بحركة تطهيرية للمجتمع طالت الجامعة عام 1954، حيث تم فصل عدد
كبير من الأساتذة ينتمون لكل فصائل الفكر السياسي بدعوى «الفساد». ولم يكن
للفساد معنى سوى نقد توجه النظام الجديد لإلغاء الديمقراطية المتمثلة في
تعدد الأحزاب. كانت هذه الخطوة بداية الهيمنة الفكرية على الجامعة سياسيا.
تم في السبعينات إحكام الاستيلاء على الجامعة أمنيا لمنع أي نشاط سياسي غير
مرغوب فيه داخلها.
بعد اغتيال الرئيس السادات وتنامي ظاهرة الإرهاب
التي أدت إلى تغلغل الفكر الديني التقليدي بتأييد النظام السياسي والمؤسسة
الدينية الرسمية اجتاحت هذه الموجة الجامعة كما اجتاحت المجتمع. هكذا حدث
التحول من جامعة «طه حسين» إلى جامعة «عبد الصبور شاهين». إذا كان طه حسين
تم اتهامه من قوى خارج الجامعة فإن الجامعة دافعت عنه، وبرأه النظام
القانوني الليبرالي (المقيد). في الحالة الثانية صدر الاتهام من داخل
الجامعة، التي تبنت إدارتها تقرير «شاهين» للحرمان من الترقية. وداخل أروقة
الجامعة تم التخطيط للإجراءات القانونية لرفع دعوى التفريق. هذا كله موثّق
في كتابيّ «التفكير في زمن التكفير» والقول المفيد في قصة أبو زيد.
المثقف والسلطة
vv
كتابك الخطاب والتأويل. كنت قد تناولت فيه إشكاليّة علاقة المثقّف
بالسلطة، واختلاف مفهوم الحقيقة عند الاثنين. في سؤال المثقّف يقول ادوارد
سعيد ان المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة، أو موقف أو فلسفة ما، لأنها
تنبع من إحساسه بمسؤوليّة التصدّي للأفكار التقليدية والعقائدية الجامدة لا
أن يدعمها أو ينتجها. عودةً إلى مسألة المثقّف والسّلطة، أين يكمن التباس
العلاقة بين المثقّف ورجل السّلطة؟
يكمن الالتباس في هذا الاعتقاد
الدوغمائي عند الفصيل الأكبر من المثقفين باستحالة التغيير دون مساندة
السلطة. أقول اعتقاد «دوغمائي» لأنه نتيجة تراكم تراث طويل ممتد من تقسيم
الناس إلى «خاصة» و«عامة»، حيث لا يسمح بتداول المعرفة «الحقة» إلا بين
«الخاصة»، بينما يترك العامة لعقائدهم وتصوراتهم المريحة. يكفي للتدليل على
هذه الحقيقة التاريخية ما كان يدور داخل قصور «الموحدين» في الأندلس من
نقاش فلسفي حول حدوث العالم وقدمه، بينما لا يسمح خارج أسوار القصر إلا
باتباع العقائد القائمة على أساس الفهم الحرفي للنصوص الدينية. في هذا
التصنيف التمييزي بين البشر يتفق كل من «أبو حامد الغزالي» و«ابن رشد» رغم
البون الشاسع في مواقفهم اللاهوتية والفلسفية. بل إن كثيرا من المثقفين
المعاصرين يؤمنون أن ثمة قضايا ومسائل لا يجب أن تناقش إلا داخل
الأكاديميات حفاظا على عدم المساس بعقائد العامة، وهذا هو نفس المنطق
القديم. مفهوم «الخاصة» في الفكر المعاصر يشمل المفكرين والمبدعين ورجال
السياسية، وفي عصر الليبرالية الاقتصادية يشمل «رجال الأعمال». كل هذه في
جوهرها قيود تنتمي إلى عصور مضت، لكنها لا تزال سائدة للأسف الشديد في عصر
انتشار التعليم والثورة التكنولوجية في مجال الاتصال: عصر السماوات
المفتوحة والإنترنت. والأهم من ذلك عصر «ديمقراطية المعرفة».
يجب على
المثقف أن يحتفظ لنفسه بمسافة خارج مفاهيم السلطة، حتى لو كان النظام
السياسي يتبنى بعض المفاهيم التي يتبناها المثقف. هذه المسافة تسمح للمثقف
بالاستقلال الفكري الذي يحميه من أن يقوم بتبرير القرارات السياسية أو
الدفاع عنها. الاستقلال عن السلطة لا يعني معاداتها بل يهدف إلى ترشيدها،
فالسياسة هي فن تحقيق الممكن، والفكر سعي لاكتشاف المجهول وفتح آفاق
الممكن.
vv إذا كان المثقف الحقيقي صاحب خطاب مفتوح غير دوغمائيّ،
ومستنير وتقدّمي وما الى ذلك، لماذا يعاني المثقف العربي اليوم/ على عكس
المثقف الغربيّ إذا من العجز على إحلال التغيير وعالق في مستوى النخبوية
فقط؟
المثقف الغربي متحرر من القيود الكلاسيكية التي تصنف الناس إلى
خاصة وعامة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إن واقع المجتمعات الغربية – التي
تأسست فيها الديمقراطية على أساس حرية الفرد – يسمح بتداول الأفكار ليس فقط
خارج إطار سيطرة السلطة – أي سلطة اجتماعية أو سياسية أو دينية – بل ضد
هذه السلطة تحديدا. منطقة «المحرم» و«اللا مفكر فيه» تتسع في ثقافتنا بينما
تضيق إلى أقصى حد في الثقافات الغربية. من أقدس المقدسات في هذه المجتمعات
حق حرية الرأي وحق حرية التعبير. ولهذا لا تفهم شعوبنا – وبعض مثقفينا
للأسف الشديد مرة أخرى – عدم قدرة الحكومات في هذه المجتمعات الغربية على
كبح جماح الأصوات المتطرفة ضد الإسلام هنا وهناك.
منتج ثقافـي
vv
انعتقت من دائرة «المحرّم» هذه عندما دافعت لا شكّ عن حقّك في ممارسة
الاجتهاد المشروع في الدّين. لكنّ مشكلتك تنبع في الأساس من كونك تعاملت مع
القرآن كنصّ وكمنتج ثقافيّ وولجت إلى عوالم تحليل الخطاب الديني منطلقًا
من مفاهيم فلسفيّة غربيّة. ألا ترى أن مجرّد تعاملك مع النصوص الدينية من
منطلق نظريّ غربيّ في فترة يحكمها احتقان سياسي وديني وحالة انغلاق على
الذات كان لها نصيب كبير في الأزمة التي حصلت معك بغض النّظر عن القوى
المنتفعة من وراء افتعال هذه الأزمة؟
هذا المنطق هو بالضبط ما يجب الحذر
منه، بل وتفكيكه: منطق التعامل مع النص الديني فقط من داخل المنظومة
المعرفية الكلاسيكية، واتهام المناهج الحديثة بأنها تنطلق من «مفاهيم
فلسفية غربية». يعتمد هذا المنطق على حجة براغماتية هي «حالة الاحتقان
السياسي والانغلاق على الذات»، التي يجب وفقا لهذه المنطق أن تمثل محظورا
لا يسمح لنا باختراقه. والحقيقة أن هذه المحظورات بالذات يجب أن تكون دافعا
لمحاولة الاختراق وإلا يفقد الفكر دوره الريادي في إحداث التغيير الفكري
المطلوب لتطور المجتمعات. التسليم بمنطق الحذر والحظر يعني أن يؤبِّد الفكر
حالة التخلف والانغلاق بدل أن يواجهها نقديا. من جهة أخرى، هذا المنطق
يبطن مفهوم «نحن وَهُم» و«ثقافتنا وثقافتهم» «مناهجنا ومناهجهم» الخ، وهو
منطق مغاير تمام المغايرة لسيرورة الفكر الإسلامي في تطوره التاريخي، هذا
التطور الذي كان مستحيلا حدوثه لو لم ينفتح المفكرون المسلمون على ثقافات
العالم في كل مجالات المعرفة. إذا كانت المعارف اللغوية ونظريات تحليل
النصوص وتأويلها قد تطورت في «الغرب» فمن العار أن نتصور أن نصوصنا الدينية
لا تقبل أو تتأبى على التعاطي مع هذه التطورات، بدعوى أنها قد تفقد
قداستها. والحال أن هذا التأثر بثقافات العالم حدث في تاريخ التفسير
والتأويل، ولم تفقد النصوص شيئا من ذلك، لسبب بسيط وبديهي أن القداسة صفة
يمنحها المجتمع المؤمن لنصوصه الدينية. طبعا يمكن الاعتراض بالقول إن إيمان
المجتمع يحتاج إلى حماية من التفكك، وهذا اعتراض يفترض إيمانا مريضا وليس
الحل في «الحماية» وإنما في تطوير مستوى الوعي.
vv ولكن ألا ترى أن
كلمات ومفاهيم مثل المجاز والتأويل وتحليل النص الديني بعيدًا عن ثوابته أي
الاجتهاد الذاتي في التفسير هو عمليّة لا توصل إلى ما هو قطعيّ، أو إلى
إجابات شافية وترك الإنسان أمام مجالات الشكّ والظنّ في مجال كمجال الدين
(يحتاج فيه إلى رواسخ وإجابات قاطعة بعيدة عن الظنّ والاحتمال)؟ أي أنها
مفاهيم تفتح باب التأويل والظن والشكّ في ثقة النصوص الراسخة في ذهنية
الإنسان أو المواطن البسيط؟ تماما كمسألة المجاز الذي يتناول الشيء على
خلاف حقيقته؟
الثابت والقطعي والراسخ في مجال المعنى الديني هو
الاستثناء لا القاعدة، وأي دراسة لتاريخ الفقه أو لتاريخ علم العقائد أو
لتاريخ الفلسفة، فضلا عن التصوف تؤكد هذا. خذ أوضح المفاهيم الدينية –
التوحيد، أن الله واحد لا شريك له – وحلل النقاش الذي دار وما زال يدور حول
ماهية التوحيد: هل كثرة الأسماء والصفات في القرآن تؤدي إلى كثرة في الذات
الإلهية؟ وهل الصفات تتمتع بنفس صفات الذات الإلهية. ومن داخل هذه
الإشكالية – التي لا يصح التقليل من أهميتها بدعوى وقف التفكير لأنه يؤدي
إلى الشك والكفر – تتفرع إشكاليات «القضاء والقدر» «الفعل الإنساني
والمسؤولية الإنسانية»... الخ وهي إشكاليات يطرح القرآن إجابات مختلفة لها
إلى حد التناقض. سيادة العقائد الأشعرية – التي منحت لأسباب سياسية
واجتماعية وتاريخية صفة «عقائد أهل السنة والجماعة» – لا يعني أن يهمل
المفكر التعامل مع العقائد التي تم تصنيفها في خانة «البدع». إذا ظل الفكر
الديني واقفا، أو سائرا ونظره إلى الخلف، فهذا هو «الجمود» الذي يتم تدليله
بمنحه اسم «الثوابت».
vv إذا كان النصّ القرآني منتجا ثقافيّا- مثله
مثل النصوص الدينيّة في الديانات الأخرى- أنتجه واقع بشريّ تاريخي تمامًا
كما في تحليلك لظاهرة الوحي على أنه ليس تنزيلاً سماويًا بل اعتقاد القدماء
بوجود إمكانية الاتصال بين البشر والجن، هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي
الديني، فكيف نفسّر مسألة المعجزات التي أوتي بها الأنبياء كما تظهر في
النصّ القرآني من منطلق «الإنتاج الثقافيّ» للواقع؟
القرآن نص سردي
بامتياز – وهذه قضية لم تنل حقها بعد من الشرح والتحليل والتفصيل – يحكي
قصصا كان المعاصرون يعرفونها، وهو يخاطب معاصريه على قدر تصوراتهم التي
تتمثل العالم عجائبيا وغرائبيا، مليئا بالملائكة والجن والقوى المسخرة إما
لمساعدة الإنسان أو لتعويقه. هذا عالم القرآن المليء بحكايات وقصص المعجزات
التي كانت جزءا من الواقع الثقافي. وحين نتحدث عن الواقع الثقافي يكون
الحديث عن المفاهيم والتصورات القارة في وعي ومخيال الجماعات التي توجه لها
القرآن في القرن السابع. عن هذا يقول الشيخ محمد عبده إن هذا القصص بما
يتضمنه من معجزات وأفعال خارقة لا يقصد به التأريخ، وإنما يقصد به التنبيه
والاعتبار, إنها في نظر عبده «تمثيلات» تخييلية. بل إن عبده يذهب إلى تبني
رأي بعض المعتزلة في مسألة نزول الملائكة للحرب إلى جانب المسلمين في
«بدر»، بأن هذا لم يحدث حرفيا، فالمؤرخون حددوا على وجه التقريب عدد القتلى
من الجانبين ومن قتل من.. الخ. القرآن ينص على أن الوعد بتنزيل الملائكة
للقتال مع المؤمنين – هكذا يؤكد عبده م
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هكذا تحدّث نصر حامد أبو زيد

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: