** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 القطيعة الكبرى أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

القطيعة الكبرى  أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر Empty
05112011
مُساهمةالقطيعة الكبرى أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر



القطيعة الكبرى  أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر Arton6599-eef11
تحدّثت فيما مضى عن حركة الشعر
الحديث كردّ فعل على الظاهرة الرومانطيقية وغنائيّتها الحزينة، إن لم يكن
حنينها وعويلها… ولكن لا ينبغي أن نفهم من ذلك أنّ كلّ شيء في الرومنطيقية
سيّئ أو رديئ. فالواقع أنّها تشكّل إحدى الحركات الكبرى في تاريخ الآداب
الأوروبية، بالإضافة إلى الواقعية وما فوق الواقعية (أي السوريالية). ويمكن
القول إنّ كلّ أدب هو رومنطيقي بالضرورة، أي يحتوي على بحّة الانكسار
الداخلي أو اللوعة الحارقة على اللحظة المنصرمة بشكل من الأشكال… بهذا
المعنى فإن الرومنطيقية هي ظاهرة تخترق كل العصور الأدبية منذ أن وجد الأدب
– أو الشعر- وحتى اليوم. لا يوجد كاتب كبير إلا يحتوي أدبه على شيء ما من
النفحة أو النبرة الرومنطيقية، حتى ولو كان واقعياً أو سوريالياً، او
رمزياً، أو أي شيء آخر..نحن جميعا رومانطيقيون بشكل أو بآخر. ولكن
الرومنطيقية كموجة عارمة تظل محصورة بفترة زمنية محددة بالطبع سواء عند
الألمان أو الانكليز أو الفرنسيين أو حتى العرب.. هذا شيء مفروغ منه. وقد
اطلعت مؤخراً على بعض المؤلفات الفرنسية المختصة في أدب القرن التاسع عشر
حيث ازدهرت الحركة الرومنطيقية وبلغت أوجها على أيدي كتاب كبار ليس أقلهم
شاتوبريان، أو فيكتور هيغو، أو جيرار دو نيرفال، أو ألفريد دوموسيه، أو
لامارتين، أو سواهم… ووجدت فيها الفكرة الـسياسية التالية التي تهمنا نحن
المثقفين العرب وربما تعزينا قليلا: وهي أنها تربط بين اندلاع الحركة
الرومنطيقية وبين أزمة الوعي الفرنسي والأوروبي بعد الثورة الفرنسية
والاختلاجات الهائجة التي أحدثتها على كافة الأصعدة والمستويات. فهذه
الثورة الكبرى أحدثت كسراً او صدعاً مباغتاً في التاريخ الأوروبي. ولكن
بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا
يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي عاش بينهما شهد الكثير من
التمزّقات النفسية والانهيارات الداخلية. انه جيل العبور والاحتراق كما
يقال عادة. وهذه التمزقات والانهيارات النفسية هي التي ولّدت الثورة
الرومنطيقية في الأدب والشعر والرواية والفن والمزاج العام للمجتمع.. يقول
شاتوبريان معبّراً عن هذه النقطة بكل وضوح:


"لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين.
وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت،
وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة والذي
لن أراه بأم عيني".


وهذا تصوير من أجمل ما يكون لعملية النقلة او القطيعة التي تمزقنا نحن
الآن.. ينبغي العلم بأن شاتوبريان ولد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن
الثامن عشر، أي قبل الثورة،ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي
بعد الثورة 1768-1948. وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم
يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي ولد فيه ونشأ
وترعرع. وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي في معظمه. هذا في حين أن
العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، فلسفياً، مضادا للدين عموما
او قل للأصولية الدينية لكي نكون أكثر دقة. فالحداثة لم تكن ضد الدين في
المطلق وإنما ضد التصور الانغلاقي القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلا
جديدا للدين المسيحي هو التأويل الليبرالي الذي شاع وانتصر حاليا في كل
البلدان الأوروبية المتقدمة. ولكن ذلك لم يتم دون مخاض عسير وصراعات هائجة.
وهذا المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن في العالم العربي والإسلاميّ
حاليا. وبالتالي فالمسافة الفكرية بيننا وبين أوروبا هي مائتا سنة على
الأقل. ما عاشوه وعانوه قبل مائتي سنة نعيشه نحن الآن. لذلك قلت وأقول إن
الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي. بينهما يوجد تفاوت تاريخي كبير.
وينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حاليا ولكي نستطيع ان
نقيم علاقة صحيحة مع الفكر الأوروبي ومع أنفسنا أيضا..


في الواقع إن الحركة الرومنطيقية الفرنسية يمكن حصرها في النصف الأول من
القرن التاسع عشر، وبالتحديد بين عامي 1800-1869. بهذا المعنى فإنّ بودلير
نفسه ينتمي إلى الحركة الرومنطيقية بالمعنى النبيل للكلمة، أو قل أنه يضع
رجلاً هنا ورجلاً هناك. فبودلير آخر الرومنطيقيين وأول الحديثين. والأمر
ذاته ينطبق على جيرار دو نيرفال الذي سبقه بسنوات قليلة. لقد أغلق بودلير
المرحلة الرومنطيقية في الشعر، وفتح المرحلة الحديثة، دون أن يعني ذلك أن
الرومنطيقية ليست حداثة. في الواقع إنها تمثل الحداثة الأولى إذا جاز
التعبير، بعدئذ سوف تجيء الحداثة الثانية أو الحقيقية التي لا نزال نعيش
فيها الان. مهما يكن من أمر فإن الإنسان الكلاسيكي كان قد انتهى في عصر
الرومنطيقية. ونقصد به الإنسان الكامل، الخالد، الثابت، الذي لا يتغير ولا
يتبدل. إنه إنسان القناعات الراسخة، والقيم الواثقة ذات الطمأنينة الكاملة
التي لا تشوبها شائبة. وأما الإنسان الرومنطيقي فهو إنسان مُزَعْزَع،
مترجرج، قلق، لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء. فالعالم القديم انهار أو
كاد، واليقينيات الكبرى التي كان يركن إليها الإنسان القديم انهارت معه.
لهذا السبب راح الشاعر الرومنطيقي يشعر بالهلع والجزع أمام العالم الجديد
الذي ينفتح أمامه ويلجأ إلى البكاء والنحيب. وهكذا امتلأ شعره بتلك اللهجة
الغنائية الحزينة، أو النزعة العاطفيّة الفياضة والمؤثرة. لنستمع إلى أحد
كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين الفريد دوموسيه يتحدث عن تلك الفترة:


"واأسفاه! لقد انتهى الدين. انتهى كل شيء. وغيوم السماء تتساقط مطراً.
ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من الغيب، ولا حتى قطعتين من
الخشب تشكلان صليب الأمان بالنسبة لنا. وأما نجم المستقبل فلما يكد يبزغ
بعد. إنه لا يستطيع الخروج من رحم الأفق. وإنما يظل مغلّفاً بالغيوم.
وكالشمس الشتائية يتبدَّى لنا أحمر كالدم المراق عام 1793 (إشارة إلى
الثورة الفرنسية). لم يعد هناك حب، ولا مجد. يا له من ظلام سميك يطبق على
وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد سوف نكون قد متنا…"


بمعنى اخر: نحن جيل القطيعة، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت
والولادة في آن معا. ولكننا وا أسفاه سوف نعيش موت العالم القديم حتى
النخاع دون ان يتاح لنا ان نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد..هذا هو قدرنا
ومصيرنا..نحن جيل التضحية والفداء. والعالم الجديد لن ينبثق الا على
أنقاضنا. لا أعرف لماذا أتذكر هنا تلك الابيات الرائعة لخليل حاوي:


يعبرون الجسر في الصبح خفافا


أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد


من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق


إلى الشرق الجديد


أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد


هل تنبأ خليل حاوي بتلك القطيعة الإجبارية التي ستفرض نفسها علينا إذا
ما أردنا الانتقال من عصر بن لادن والظواهري وكهوف أفغانستان وباكستان
والجزيرة العربية الى عصر الهواء الطلق والحداثة والحرية؟ على الاقل فانه
أحس بخطورة المسألة ورعبها وربما لهذا السبب انتحر..


وأما جيرار دونيرفال(المنتحر الآخر) فيتأسف لأن الإيمان أصبح مستحيلاً في العالم الحديث. يقول:


"بالنسبة لنا، نحن الذين ولدنا في أيام الثورات والأعاصير، حيث انهارت
جميع العقائد، يصعب علينا جداً أن نعيد تشكيل البناء الصوفي والإيماني
السابق. ذلك أن شجرة العلم ليست شجرة الحياة! وهل نستطيع أن نخلِّص أنفسنا
من كل ما زرعته فيها الأجيال الذكية السابقة من خير أو شر؟ وهل يمكن أن
نتعلّم الجهل؟!". بمعنى آخر: هل يمكن ان نشطب على الماضي بجرة قلم بحجة انه
قديم بال عفي عليه الزمن؟ من هنا صعوبة القطيعة ومرارتها والثمن المدفوع
من اجلها. من هنا عظمة الانتحار ودلالته الرمزية الكبرى: أقصد انتحار
الكبار من أمثال جيرار دو نيرفال وخليل حاوي. بصراحة لا أعرف لماذا لا
ينتحر نصف المثقفين العرب على الأقل لكي يولد العصر القادم؟!


هكذا نجد أن المسألة واضحة جداً. فليس من السهل أن تعيش بين جيلين أو
قرنين تفصل بينهما هوة سحيقة لا قرار لها. ليس من السهل أن تقطع كلياً مع
الماضي الذي ولدت فيه وترعرعت بين أحضانه بحجة أنه أصبح قديماً، بالياً،
عفى عليه الزمن. ليس من السهل ان تكون الجسر الذي مرت عليه الثورة الفرنسية
بكل صخبها وضجيجها، بكل عنفها وعنفوانها. وبالتالي فينبغي أن نفهم تمزُّق
الجيل الرومنطيقي، ينبغي أن نفهم حرقته ولوعته. والواقع أن الجيل الذي يولد
في فترات القطيعات الكبرى من التاريخ يدفع الثمن باهظاً. وحده الجيل الذي
يجيء بعده –أي بعد أن تكون قد هدأت العاصفة- يستمتع بالحياة والإنجازات
المتحققة والطمأنينة. ذلك أنه ينبغي أن نعترف: هناك عصور هادئة، مريحة،
يطيب فيها العيش. وهناك عصور قلقة، مضطربة، مليئة بالحروب الأهلية
والزلازل، بالانفجارات والبراكين، ويا ويل الجيل الذي يولد فيها!… من بين
هذه العصور تلك الفترة التي تلت الثورة الفرنسية والتي شهدت ظهور كتاب كبار
ليس أقلهم بلزاك، أو ستندال، أو فيكتور هيغو، أو جيرار دونيرفال، أو عشرات
غيرهم. إنه جيل التضحية والاحتراق. ولكن عظمتهم تقاس بحجم الصعوبات التي
واجههوها ، أو الاضطرابات التي خاضوها. فالصعوبات هي التي تصنع الرجال!…
وجيل السهولة لا يعطي شيئاً كثيراً ولا يكون عظيما عادة. والشخصيات الكبرى
تظهر عادة في العصور الهائجة. بعد أن انهار كل شيء تقريباً لم يعد أمام
هؤلاء الكتّاب إلا الكتابة. فالأدب، أو الشعر، هو العزاء الوحيد في عالم لا
عزاء فيه. لقد حل محل الدين بشكل من الأشكال. أحيل بهذا الصدد الى مؤلفات
الناقد الفرنسي الكبير بول بينيشو التي لم تلق حظها من الاهتمام في العالم
العربي حتى الان. أقول ذلك على الرغم من انه لا يمكن فهم قطيعة الحداثة
بدون الاطلاع عليها. أذكر مثلا كتابه الكبير: زمن الانبياء: عقائد العصر
الرومانطيقي، او كتابه الآخر: السحرة الرومانطيقيون( المقصود الرواد
الرومانطيقيون الكبار او حتى العباقرة الرومانطيقيون أي جيل فيكتور هيغو
ولا مارتين والفريد دوفيني)، او مدرسة الخيبة (أي خواء العالم وانهيار
الاحلام الوردية لدى الجيل الرومانطيقي الثاني، اي جيل جيرار دو نيرفال
والفريد دو موسيه..) الخ.. ولكن الرومانطيقية مأخوذة هنا بالمعنى الواسع
وأكاد أقول بالمعنى الفلسفي العميق للكلمة. انها تعني ارتفاع الأدب الى
مرتبة عليا هي مرتبة السلطة الروحية الجديدة التي حلت محل الدين التقليدي
في اوروبا بعد ان انهارت الاصولية المسيحية على وقع ضربات فلاسفة التنوير
والثورة الفرنسية. لقد بلورت الرومانطيقية عندئذ العقائد الجديدة او
الأجوبة الجديدة على تلك الانقلابات والزلازل الروحية والسياسية. عندئذ
حصلت قطيعة الحداثة في جو من الانهيارات والابداعات لا يوصف..ونلاحظ ان
الناقد الكبير يدرس الفكر الديني والسياسي والاجتماعي لكبار الرومانطيقيين
من أمثال: شاتوبريان، ولامارتين، والفريد دو فيني، وفيكتور هيغو، والفريد
دو موسيه، وجيرار دو نيرفال، وعشرات غيرهم. ذلك ان الشاعر او الاديب آنذاك
لم يكن فقط شاعرا او أديبا بالمعنى الضيق للكلمة. وانما كان ايضا مفكرا
مسؤولا عن هموم العصر كلها. لقد حل محل رجل الدين بكل بساطة. لقد انتزع من
الأصولي المسيحي الهيبة العليا والمشروعية التاريخية التي كان يتمتع بها
منذ قرون وقرون. هنا تكمن قطيعة الحداثة. من يستطيع ان ينتزع من الشيخ يوسف
القرضاوي او مئات غيره من شيوخ الفضائيات هذه الهيبة الآن؟ مستحيل. شيخ
واحد منغلق داخل عقلية القرون الوسطى يستطيع ان يفحم كل المثقفين العرب
ويضحك عليهم أمام ملايين المشاهدين. ولا يملك المثقف عندئذ إلا أن يقبل يده
ويخرج مذلولا، مدحورا. ويُشكر الشيخ على انه لم يكفره فورا ويبيح دمه على
رؤوس الأشهاد. هذه هي الحقيقة في العالم العربي او الاسلامي حاليا. انظروا
ما يحصل في ايران حيث ينتحر الكثيرون أيضا أو ينتفضون ويتمردون بعد ان
اختنقوا اختناقا برائحة اللاهوت والكهنوت. لذلك أقول بان الانتحار شيء وجيه
ومشروع ولا غبار عليه في الظروف الحالية. واذا ما أضفنا الى كل ذلك
الاستبداد السياسي والأنظمة البوليسية المحترمة التي تحاصرك من الجهة
الاخرى تكون الصورة قد اكتملت ولا زائد لمستزيد. وبالتالي فلم يعد أمامك
الا ان تنتحر او ينحروك. لك الخيار..


أعود الى الرومانطيقية بالمعنى الأدبي للكلمة وأقول إنّ الشاعر
الرومنطيقي سيلتجئ إلى الطبيعة ويبتعد عن البشر وهموم الحياة خوفاً او
هرباً من المواجهة التي بدت اكبر منه. يقول "لامارتين" (1869-1790) من
قصيدة بعنوان: عزلة.


كثيراً ما أجلس حزيناً في الجبال وفي ظل شجرة سنديان عتيقة


أتأمل غروب الشمس


ثم أسرّح النظر في السهول الواطئة المترامية


التي يتسلسل منظرها أمام عيني، تحت أقدامي


******


هنا يهدر النهر ذو الأمواج الهائجة


ثم يتغلغل كالثعبان ويغوص في البعيد الغامض


هناك حيث تنشر البحيرة الجامدة مياهها النائمة


وحيث ترتفع نجمة المساء في الأفق اللازوردي


في رأس هذه الجبال المكلّلة بالغابات المعتمة


لا يزال الغسق يلقي بشعاعه الأخير


وأما العربة الضبابية لملكة الأشباح


فتصعد، وتجلو مناحي الأفق


******


من هضبة الى هضبة، عبثاً أسرّح بصري


من الجنوب إلى الشمال، ومن الشروق إلى المغيب


أتجول بنظري في كل الاتساع الهائل


وأقول: أبداً، لا توجد أي سعادة في أي مكان…


هكذا نجد أن الطبيعة قد أصبحت مرآة لروح الشاعر، أو قل أنه يسقط عليها
كل همومه ولواعجه. من هنا ارتباط الشعر الرومنطيقي بالطبيعة، والحزن،
والوحدة. فكثيراً ما نجد أسماء الفصول، والأشجار، وخرير المياه والسواقي،
وضوء القمر، ومناجاة الحبيبة تتكرر في قصائد هؤلاء الشعراء الذين مزقتهم
الحياة فلجأوا إلى الأم الحنون: الطبيعة. نعم ان الاختلاء في أحضان الطبيعة
هو سمة الشاعر الرومانطيقي. ولكن هذه الغنائيّة المباشرة، المليئة
بالتشكّي والتحسُّر على ما مضى، هي التي سيرفضها شعر الحداثة فيما بعد
ويعتبرها من مخلَّفات الماضي. وهي التي سيسخر منها لوتريامون بعبارته
الشهيرة التي تدين "الرؤوس الكبيرة الرخوة": أي رؤوس الشعراء الرومنطيقيين.
وهكذا أصبحت الرومانطيقية مرفوضة بحجة الميوعة، وبخاصة في المراحل اللاحقة
بعد ان تعبت وأصبحت تكرر نفسها ومات روادها الكبار الأوائل. عندئذ سوف
ننتقل من الشعر الذاتي المليء بالتدفُّق العاطفي، إلى الشعر الموضوعي
البارد وغير المباشر: أي الشعر الحديث. ولكن هل اختفت الرومنطيقية كلياً من
شعر الحداثة؟ بالطبع لا. فقط تحوَّلت واتّخذت وجهاً آخر.لقد اصبحت خفية،
مكبوتة، لا تفصح عن نفسها الا لمن يعرف كيف يسمع الأنين الداخلي للشعر..


لنبقَ الآن مع الشعر الرومنطيقي ولننتقل إلى أحد كبار شعرائها الاوائل
الذي اشتهر بشكواه ونحيبه: ألفريد دو موسيه (1810-1857). فهذا الشاعر الذي
لم يعش أكثر سبعة وأربعين عاماً، والذي هزمه الحب، فتغنّى به بعد ان احترق
بلواعجه أكثر من أي شخص آخر، أعلن استسلامه أخيرا للحياة والمقدور، وقال
هذه الكلمات المليئة بالأسى والحزن.


فقدت قوتي وحياتي


وأصدقائي وبهجتي


وفقدت حتى مفخرتي


التي كانت توهم الاخرين بعبقريتي


******


عندما تعرّفت على الحقيقة


اعتقدت بأنها صديقة


وعندما فهمتها وتحسّستها


تقزّزت منها


******


ومع ذلك فهي خالدة


والذين لم يتعرّفوا عليها


في هذه الدنيا


فاتهم كل شيء


******


الله يتكلم، وينبغي أن نستجيب


الثروة الوحيدة التي بقيت


لي في هذا العالم


هو أني أحياناً بكيت…


لقد دمرته تلك العبقرية اللعوب جورج صاند في قصة حب شهيرة لم يقم منها.


هذا هو ألفريد دو موسيه، وهذه هي الرومنطيقية. وأعترف بأني ميال اليه
وأفهمه اكثر من أي شخص اخر وأحبه..أحب كل أولئك الذين كسرتهم الحياة او
جارت عليهم وهزمتهم. ولكن في هزيمتهم أرى بدايات الانتصار. لنقل بأن الظروف
الاجتماعية والانقلابات السياسية الهائجة التي حصلت آنذاك كانت أكبر منهم
جميعاً. وحتى عملاق مثل فيكتور هيغو اضطر لأن ينحني أمام العاصفة أحياناً.
فالحياة لا ترحم، والظروف لا ترحم، والبشر لا يرحمون. ولو أن الرومانطيقيين
جاؤوا في الزمن السهل لما امتلأ شعرهم بكل هذا النحيب والنعيب واللوعة
والحرقة. فالشعر ابن عصره أيضاً، مثله في ذلك مثل الفلسفة، وإن كان يستجيب
لمتطلّبات العصر بطريقة أخرى، او بلغة أخرى. ثم ما العيب في ان يعبر الشاعر
عن لواعج قلبه وهمومه؟ ما العيب في ان يبكي ويتفجع؟ ألا يعجبنا شعر أبي
القاسم ألشابي لهذا السبب بالذات؟ ألا تعجبنا قصائد جبران خليل جبران
الملائكية التي تغنيها فيروز أحيانا؟ حقا لا يوجد شعر بدون نفحة
رومانطيقية.. وبالتالي فلا ينبغي ان نتسرع في دفن الرومانطيقية بحجة انتصار
الحداثة الشعرية. فكبار شعراء الحداثة هم رومانطيقيون في أعماقهم. انظروا
الى بدر شاكر السياب مؤسس الشعر العربي الحديث. هل هو رومانطيقي؟ هل هو
حديث؟ هو كل شيء دفعة واحدة!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

القطيعة الكبرى أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

القطيعة الكبرى أو اللحظة الرومانطيقية في الأدب والفكر

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» عمر سليمان ليس رجل اللحظة
» دول الخليج و «الصفقة الكبرى» بين اميركا وإيران خالد الحروب حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط طباعة البريد الإلكتروني كٌن أول من يعلق! قييم هذا الموضوع12345(0 أصوات) دول الخليج و «الصفقة الكبرى» بين اميركا وإيران القلق الذي تستشعر به العواصم ا
» اللحظة "الداعشية" حدود التفاؤل والتشاؤم؟
» الحداثة والفكر الإسلامي المعاصر
» اللغة والفكر بين التبادل والأسبقية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
انتقل الى: