** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حياة
فريق العمـــــل *****
حياة


عدد الرسائل : 1546

الموقع : صهوة الشعر
تعاليق : اللغة العربية اكثر الاختراعات عبقرية انها اجمل لغة على الارض
تاريخ التسجيل : 23/02/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 10

صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان Empty
27092018
مُساهمةصواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان

صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان 71zkBT38-720x320
صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان Lookinf-f-spinoza
 

[size=30]الفصل الثاني :  عن الشهوات والعواطف [/size]




 

ثِــق بـِشكسبير 




ثِـق بِشكسبير؛ فــلقد طرق هذه الدرب حتى خَبرها. قبيل نهاية مسرحيته الملك ريتشارد الثاني، و بعد خسارة المُلْـك و مصير بالسجن يتهدده بالأفق، يخبر ريتشارد بولينغبروك عفويا عن تمييزٍ محتملٍ بين تصوره عن العاطفة و تصوره عن المشاعر. يطلب ريتشارد مرآةً، يقابلُ فيها وجهه، و يدرس مشهد الانكسار على قسماته. ثم يلاحظ أن ” نسق العويل الخارجي” المتجلِّ على وجهه ما هو إلا ” ظل الفجيعة المستترة”، فجيعةٍ تتورّم بصمتٍ في روحه المعذّبة. فجيعته ” تكمنُ داخلا ” ؛ كما يقرر. يعلن شكسبير، و في أربعة أبياتٍ فقط، بأن العملية الوجدانية الموحدة و المنفردة ظاهريا، و التي كثيرا ما نشير إليها عرضيا بالعاطفة أو المشاعر بلا اكثراث، يمكن تحليلها إلى أجزاء.




      إن استراتيجيتي في شرح المشاعر تنتفع من هذا التمييز. يميل الاستخدام الدارج لكلمة العواطف لأن يشمل تصور المشاعر، لكننا سنتلقى العون في محاولتنا هذه لفهم سلسلة الأحداث المعقدة التي تبدأ بالعواطف و تنتهي بالمشاعر من الفصل ذي المبدأ بين الجزء المشاع علنا من هذه العملية و الجزء المحتفظ به سرّا. و لأغراض عملية؛ أدعو الجزء الأول بالعاطفة و الآخر بالمشاعر، تماشياً مع معنى مصطلح العاطفة الذي أوجزته سابقا. أسأل القارئ أن يرافقني في اختيار الكلمات و المفاهيم هذا لسبب وجيه، فـلعلّه يسمح لنا بسبر أغوار البيولوجيا الكامنة تحته. أعد بأن أجمع شمل العاطفة و الشعور معا مجددا بنهاية الفصل الثالث.





      إذن؛ فالعواطف، في سياق هذا الكتاب، أفعالّ أو حركات، العديد منها علني و ظاهرٌ للعيان، إذ تتجلى في الوجه، أو الصوت، أو سلوكياتٍ محددة. من المؤكد بأن بعض مكونات العملية العاطفية غير مرئي بالعين المجردة، لكنها “تصبح مرئية” بالمسابر العلمية الحديثة كالمقايسة الهرمونية و أنماط موجات الفيسيولوجيا الكهربية. أما المشاعر، فــمحتجبةٌ دوما، شأنها شأن كل الصور العقلية؛ مستترة عن الكل سوى مالكها الحقيق، الممتلكات الأكثر خصوصية للكائن ذي الدماغ الحَوِيّ.




      تتخذ العواطف من الجسد مسرحا لها، أما المشاعر، فمسرحها العقل.  و كما سنرى، فالعواطف و طيف الانفعالات الكامنة تحتها جزء من الآليات الأولية لتنظيم الحياة. life regulation  تساهم المشاعر أيضا في تنظيم الحياة و لكن على مستويات أعلى. يبدو بأن العواطف و الانفعالات المرتبطة بها سبقت المشاعر في تاريخ الحياة كذلك. إذن، تشكل العواطف و الظواهر اللصيقة أساسا للمشاعر، و هذه بدورها حجر الزاوية لعقولنا و هي ما ننوي توضيح طبيعته.




     تتصل العواطف و المشاعر مع بعضهما بحميمية عبر عملية مستمرة مما يجعلنا – و بشكل مفهوم- نميل للتفكير بهما ككيان واحد. و مع ذلك، يمكننا في الأحوال العادية التقاط أجزاء متفرقة من هذه العملية المتصلة، كما يحق لنا فصل جزء عن الآخر تحت مجهر العلوم العصبية الإدراكية. بالعين المجردة و بعدد من المسابر العلمية، يمكن لمراقب ما أن يفحص السلوكيات التي تصنع العاطفة موضوعيا. و بالفعل؛ يمكن أن يُدرَس استهلال عملية الشعور. يساعدنا تحويل العواطف و المشاعر إلى موضوعات بحثٍ منفصلة على أن نكتشف كيف يتأتّى لنا أن نشعر.




       هدف هذا الفصل هو شرح آليات الجسد و الدماغ المسؤولة عن إثارة triggering  و تفعيل execution  عاطفة ما. “ماكينة العاطفة” الداخلية هي محط الاهتمام هنا و ليس الظروف المنتهية بالعاطفة. أتوقع أن توضيح العواطف سيخبرنا كيف تنشأ المشاعر.




 


العواطفُ سوابقُ المشاعر 




في معرض نقاشنا عن أسبقية العواطف على المشاعر، دعوني أبدأ بلفت انتباهكم لما تركه شكسبير مبهما في السطور التي كتبها على لسان ريتشارد. إنه يتعلق باستخدام كلمة ظل و بالاحتمالية التي تثبت للعواطف و المشاعر تمايزهما بالوقت الذي ترى فيه أسبقية الأخرى للأولى. يقول ريتشارد: العويل الخارجي ظل فجيعة مستترة، هذا أشبه ما يكون بانعكاس مرآة للغرض الرئيس – شعور الفجيعة- تماما كما كان وجه ريتشارد في المرآة انعكاسا لبطل المسرحية الرئيس؛ ريتشارد. هذا الالتباس رجعُ صدى لبديهتنا الغرّة، إذ نميل إلى الاعتقاد بأن الخفيّ منبعُ الجليّ. بالإضافة إلى ذلك، نحن نعرف أن المشاعر هي ما يهم حقا. يقول ريتشارد متحدثا عن فاجعته المستترة: ” هناك يكمن الجوهر”، و نحن نوافقه في ذلك. إننا نعاني أو نبتهج من مشاعر حقيقية. العواطف، بمعناها الضيق، آثارٌ خارجية. لكن “الرئيس” لا تعني “الأول” و لا “المُسبِّب”. تعُـتّـم مركزية الشعور على كيفية نشوء الشعور و تفضل الرأي القائل بأن المشاعر تحصل أولا، بشكل ما، ثم يعبر عنها تاليا بالعاطفة. هذا الرأي غير صحيح، و هو الملام، و لو جزئيا، في تأخر إيجاد تفسير نيوروبيولوجي مقبول للمشاعر.




       يبدو بأن المشاعر بمجملها هي ظلال النسق العاطفي الخارجي؛ لا العكس. هاكم ما كان ينبغي لـريتشارد قوله، مع بالغ الاعتذار لشكسبير: ” آهٍ .. كم يلقي نسقٌ العويل الخارجي هذا من ظلالِ فجيعةٍ  مستترة و لا محتملةٍ في سكون روحي المعذبة”. ( و هذا بدوره يذكرني بـ جيمس جويس James Joyce حين قال في اوديسوس؛ ” شكسبير مربع قنصٍ زاخر بكل العقول التي فقدت توازنها” ).




      هنا، يحق لنا أن نسأل لماذا تسبق العواطف المشاعر. إجابتي بسيطة: نملك عواطفا أولا و تتلوها المشاعر لأن التطور  evolution أتى بالعواطف أولا و المشاعر لاحقا. تبنى العواطف من انفعالات reactions  بسيطة ترعى نجاة الكائن الحيّ بسهولة، و لذا من السهل لها أن تسود في التطور.




       بإيجاز، هؤلاء الذين أرادت الآلهة لهم النجاة؛ جعلتهم أذكياء في البدء، أو هكذا يبدو. كأنما قررت الطبيعة بأن الحياة غالية للغاية و متداعية للغاية بنفس الوقت، و هذا قبل أن تمتلك الكائنات الحية شيئا كالذكاء الخلاق بوقت طويل، و قبل أن تمتلك أدمغة. الطبيعة لا تعمل بالتصميم و لا تقرر بالطريقة ذاتها التي يقرر بها الفنانون و المهندسون، لكن التشبيه يوصل الفكرة المرادة. تولد كل الكائنات الحية، من أكثرها تواضعا كالأميبا إلى الإنسان، بأجهزة مصممة لتحلّ المشاكل الأولية للحياة اوتوماتيكيا و بلا تفكير فعليّ. هذه المشاكل هي: إيجاد مصادر للطاقة، دمجها و تحويلها، الحفاظ على اتزان كيميائي داخلي مؤاتٍ لإتمام العمليات الحيوية، الحفاظ على بنية الكائن بترميمها حل البلى و التمزّق؛ و تلافي عوامل المرض أو الأذى البدني الخارجية. الاستتباب[size=10][1]  homeostasis   كلمةٌ واحدة تشكل اختصارا ملائما لمجموعة التنظيمات هذه و حالة الحياة المنظمة الناتجة عنها.[/size]




      خلال العملية التطوّرية، أصبحت آلة إدارة الحياة التلقائية و الجِـبْـلِــيّة – آلة الاستتباب-  دقيقة للغاية. إذ نجد في قاع منظومة  الاستتباب استجاباتٍ بسيطة كإقبال الكائن الحي ككل نحو شيء ما أو انسحابه عنه، أو زيادات في النشاط (تيقـّظا arousal ) أو انخفاضات (همودًا quiescence). و صعودا في هذه المنظومة، نجد استجابات تنافسية أو تعاونية. يمكننا تخيل آلةِ الاستتباب كشجرة كبيرةٍ عديدة الأفرع من الظواهر المسؤولة عن تنظيم الحياة التلقائي. حين نرقى من القاع لأعلى في الكائنات عديدة الخلايا، إليكم ما سنجد في الشجرة.




 

الفروع الدنيا 




عملية الأيض metabolism: و هذه تشمل مكونات كيميائية و ميكانيكية ( الإفرازات الهرمونية، التقلصات العضلية بالهضم و ما إلى ذلك ) تهدف للحفاظ على الكيمياء الداخلية. تحكم هذه الانفعالات reactions، على سبيل المثال، نبض القلب و ضغط الدم (و اللذين يتحكمان بدورهما بالتوزيع الملائم لجريان الدم في الجسد)، تعديل حموضة و قلويّة الوسط الداخلي (نعني بالوسط الداخلي سوائل الدم و الأحياز ما بين الخلايا)، و تخزين و نقل البروتينات و الدهون و الكربوهيدرات المطلوبة لتزويد الكائن بالطاقة (و هي ضرورية للحركة، تصنيع الإنزيمات الكيميائية و الحفاظ على البنية و تجديدها).




      منعكسات[size=10][2] أولية: و تشمل هذه منعكَس الإجفال، و الذي يستغله الكائن في انفعاله للمس أو الضجيج، أو الانتحاءات التي تقود الكائنات نحو الضوء، بعيدا عن العتمة، أو بعيدا عن البرد والحر الشديدين.[/size]




     الجهاز المناعي: و هو معدٌّ لصدّ الفيروسات الغازية و الباكتيريا و الطفيليات و الجزيئات الكيميائية السامة. من المثير للاهتمام ملاحظة أنه قادر أيضا على التعامل مع الجزيئات الكيميائية المحبوسة داخل جدران الخلايا الطبيعية بالعادة و التي يمكن أن تضر الكائن ما إن سُرِّحت من الخلايا المحتضرة إلى الوسط الداخلي ( مثلا الهيالورونات و الغلوتاميت). بإيجاز، الجهاز المناعيُّ خطُّ الدفاع الأول للكائن الحي إن هُدِّدت سلامته من الداخل والخارج.




صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان 1-1
 

الفروع الوسطى




هذه السلوكيات المرتبطة عادة بتصور المتعة (pleasure والثواب) أو الألم (و العقاب). إنها تشمل انفعالات إقبال أو انسحاب الكائن ككل من شيءٍ أو حدث. بالنسبة البشر الذين يشعرون و يبلّغون بما يشعرون به؛ فيمكن وصف الانفعالات المثيلة بكونها ممتعة أو مؤلمة، مجزيةً أو مُقتَــصَّة. على سبيل المثال، عندما يتهدد الجسد و أنسجته خلل أو خطر وشيك – كما هو الحال مع الحروق أو العدوى- ، ترسل خلايا المنطقة المتضررة إشارات كيميائية تسمى دلالات الأذيّة. nociceptive   يرد الكائن تلقائيا بسلوكيات الألم أو سلوكيات المرض كاستجابةٍ لذلك. هذه حزمة من الأفعال التي تجابه بها الطبيعة الضرر تلقائيا، منها الجليُّ و منها الخفيّ. تتضمن هذه الأفعال أيضا سحب الجسد بأكمله أو جزء منه بعيدا عن مصدر الأذى إن كان خارجيا و يمكن تعيينه ، أو حماية الجزء المصاب من الجسد (كحمل اليد الجريحة أو الانكفاء على الجذع) و تعابير الوجه الموشية بالرّوع أو المعاناة. و هناك أيضا عدد من الاستجابات الغير مرئية بالعين المجردة و التي ينظمها الجهاز المناعي. إنها تشمل زيادة فئات معينة من خلايا الدم البيضاء، و إرسالها على عجل إلى المناطق المهدَّدة، و إنتاج مواد كيميائية كالسيتوكينات[size=10][3] cytokines و التي تساعد الجسم على حل المشكلة التي تواجهه (محاربة ميكروب معتد أو إصلاح نسيج متضرر). يشكل مجموع هذه الأفعال و الإشارات الكيميائية المؤدية إليها أساس ما نحسّه كألم.[/size]




     يستجيب الدماغ للأداء الوظيفي الجيد للجسد بالطريقة نفسها التي يستجيب بها لمشكلة واجهت هذا الجسد. فعندما يعمل الجسم بسلاسة، بلا عقبات و بسهولة في تحويل الطاقة و استغلالها، فإنه يتصرف وفق نمطٍ محدد. إقباله على الآخرين ميسّرٌ، قـدّه منبسطٌ و مسترخٍ، تعابير وجهه تفيض ثقة ًو عافية؛ منتجا فئات محددة من المواد الكيميائية كالإندورفينات endorphins، و هي غير مرئية بالعين المجردة تماما كبعض الانفعالات المميزة لسلوكيات الألم و المرض. يشكل مجموع هذه الأفعال و الإشارات الكيميائية المرتبطة بها أساس ما نحسّه كـمتعة.




     للألم و المتعة دوافع عدة — عللٌ تعتري بعض وظائف الجسد، تنظيمُ أيضٍ مثاليّ الآداء، أو أحداث خارجية تضر بالكائن أو تحميه. لكن تجربة الألم أو المتعة ليست سببا لسلوك الألم أو المتعة و ليست ضرورية بأي حال من الأحوال لحصول هذا السلوك. و كما سنرى في المقطع التالي، يمكن لبعض المخلوقات البسيطة جدا أن تقوم ببعض هذه السلوكيات العاطفية أو الانفعالية حتى و إن كان احتمال شعورها بهذه السلوكيات منخفضا أو منعدما.




 

في المستوى العلوي التالي




يكمن هنا عدد من البواعثِ  drives و الدوافع motivations . من الأمثلة الكبرى: الجوع، العطش، الفضول و الاستكشاف، اللعب و الجنس. جمعهم سبينوزا سويّـا تحت مظلة كلمة سديدة؛ الشهوات appetites، و بإجادةٍ مبهرةٍ؛ استخدم كلمة أخرى لوصف الحالة التي يعي فيها الفرد شهواته و يحيط بها: الرغباتdesire .  تشير كلمة الشهوات إلى الحالة السلوكية للفرد المنشغل بباعثٍ محدد بينما تدل كلمة الرغبة على شعورنا المُـوعِي conscious  بامتلاكنا لشهوةٍ وإتمامنا لها أو فشلنا في ذلك نهاية الأمر. إن هذا التمييز السبينوزي نظيرٌ لطيفٌ للتمييز بين العاطفة و الشعور و الذي افتتحنا به هذا الفصل. يظهر أن للبشر شهواتٍ و رغبات متصلةً بسلاسة، كحال العواطف و المشاعر.




 

قُـرب القمة




العواطف المخصوصة emotions- proper .




هنا واسطة عقدِ تنظيم الحياة التلقائي: العواطف بمعناها الضيق— ابتداءا من الفرح و الأسى و الخوف و مرورا بالزهو و الخزي و التعاطف sympathy . و في حال كنت تتساءل عمّـا يوجد في القمة تماما، فالإجابة بسيطة؛ المشاعر، و التي سنناقشها الفصل القادم. يحرص الجينوم على أن تكون هذه الأدوات نشطة و فعالة منذ الولادة أو بعدها بقليل، بلا اعتمادٍ أو بقليل اعتماد على التعلّم، إلا أنّ التعلم سيلعب دورا مهما لاحقا في تحديد آنِ تفعيل هذه الأدوات. و بقدر ما يزيد تعقيد الانفعال، بقدر ما تكون هذه العلاقة أكثر صوابا.




     حزمة الانفعالات المكونة للبكاء و النشيج معدَّةٌ و نشطٌ وقت الولادة، أمّا ما نبكي من أجله خلال حياتنا؛ فيتغيّر بتغيُّر خبراتنا. كل هذه الانفعالات تلقائية و مُقولَبة stereotyped  إلى حد كبير كما أنها تُفعّل تحت ظروف معيّنة. (لكن للتعلّم القدرة على تعديل تفعيل execution  هذه الأنماط المقولبة. يلعب ضحكنا و بكاؤنا أدوارا تتفاوت بتفاوت الظروف مثلما يمكن عزف النوطات المؤلفة للحن واحد في حركة موسيقية ما بطرقٍ شتى.) تهدف كل هذه الانفعالات لتنظيم عمليات الحياة و تغليب البقاء؛ بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو غير مباشرة. يُشار أحيانا إلى مجموع سلوكيات الألم و المتعة و البواعث و الدوافع و العواطف المخصوصة بالعواطف ؛ في معنها الأعم و الأوسع، و هذا مفهوم و معقول إن أخذنا بعين الاعتبار هيئتها المشتركة و دورها التنظيمي.




     عنَّ للطبيعة الغير قانعة بهبة البقاء المجرد خاطرةٌ لاحقةٌ لطيفة: لا تصبو تجهيزات تنظيم الحياة الجِبلِّية لحالة محايدةٍ وسطٍ ما بين الحياة و الموت، لا إلى هذه و لا إلى تلك. بالواقع، تهدف مساعي الاستتباب إلى توفير ما هو أفضل من حالة الحياة على الحياد، أي توفير ما نسميه – ككائنات مفكرة و مترفة- بالعافية well-being  و الصحة.




     تحكم مجموعة العمليات الاستتبابية هذه حياتنا لحظة بلحظة ، داخل كل خلية بأجسادنا. تنفَّـذُ هذه الحوكمة بواسطة تسوية بسيطة: أولا، يتغير شيء ما في بيئة الكائن الحي داخليا أو خارجيا. ثانيا، لهذه التغيرات القدرة على تحويل مجريات حياة الكائن ( تمثل تهديدا لسلامته أو فرصة للتحسّن). ثالثا، يرصد الكائن هذا التغير و يتعامل مع الأمر بما يقتضيه، و ذلك بنحو يخلقُ الحال الأكثر نفعا لـصون ذاته و فعالية آدائه. تعمل كل الانفعالات وفق هذه التسوية و لذا فهي وسائل الكائن ليقدّر الظروف الداخلية و الخارجية و يتصرف وفقا لها. ما إن يرصد شائبةً أو يرصد فرصةً، يحلها – بفعله – بالتخلص من الشائبة أو السعي لإدراك الفرصة. و سنرى لاحقا بأن هذه التسوية صحيحة حتى عند الحديث عن العواطف المخصوصة – عواطف كالحزن أو الحب أو الإحساس بالذنب- لكن تشابك التقدير و الاستجابة في حال العواطف المخصوصة أبلغ بكثير من تقدير و استجابة الانفعالات البسيطة المؤلفة لها تطوريا.




     الكفاح أو الكبَد و السعي هنّ أقرب الكلمات لما يحيل إليه المصطلح اللاتيني كوناتوس كما استخدمه سبينوزا في المسائل ٦، ٧، و ٨ من الفصل الثالث بكتاب الأخلاق. بتعبير سبينوزا نفسه: ” يكابد كل شيء ليصون كينونته باذلا كل ما بوسعه و كل ما يطيق” و ” ما كَبـَدُ الشيء لصون كينونته إلا جوهرُه”. بفضل مزية الاستبصار الرجعي الحالية، يمكننا تأويل تصور سبينوزا باعتباره ملمحا لأن الكائن الحي مُركَّب على نحوٍ يحافظ به على تماسك تركيبه و وظائفه أمام الاحتمالات المتعددة المهددة لحياته.




     يتضمن الكوناتوس كلا من باعثِ صون النفس حين تواجه الأخطار و الفرص و أفعال صون النفس اللامحصورة و التي تضم أجزاء الجسد بعضها على بعض. و بالرغم من التحولات التي يمر بها الجسد إبّان نشأته و تجديده ما يؤلّفه من أجزاء و هرمه، تبقى الكوناتوس مشكلةً نفس الفرد و متبعةً نفس التصميم الهيكلي.




     ما مرادف كوناتوس سبينوزا بالمصطلحات البيولوجية الحالية؟ إنها مجموع النزعات المستقرة في الدارات العصبية brain circuitry  و التي تسعى لكل من النجاة و العافية ما إن تتعهدها الظروف الداخلية أو البيئية. و سنرى في الفصل القادم كيف يُـنبَّـأ الدماغ بهذا الطيف الواسع من نشاطات الكوناتوس؛ كيميائيا و عصبيا. يتم ذلك بواسطة جزيئات كيميائية منقولة في مجرى الدم و إشارات كهربائية كيميائية تجري عبر السبل العصبية nerve pathways . يرسل إلى الدماغ إشارات لجوانب متعددة من العملية الحيوية ثم تُـمَثَّل هنالك في عدة خرائط؛ مادتُّها دارات من الخلايا العصبية في مواضع دماغية محددة. و بذلك نكون قد بلغنا رؤوس شجرة تنظيم الحياة و هو المستوى الذي تتآلف عنده المشاعر.




صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان 2-1
 

مبدأ تداخلي 




حين نقف على قائمة الانفعالات التنظيمية المنوطة بالاستتباب، نلمح خطة بناء مثيرة. إذ تُحتوى أجزاء الانفعالات الأبسط متراكبةً لتكون أجزاءا من الانفعالات الأكثر استفاضة، أي يتداخل البسيط  في حشا المُـركَّب. فـبعض آليات الجهاز المناعي و تنظيم الأيض مُدغمةٌ في آليات سلوكيات الألم و المتعة. هذه الأخيرة مُضمَّنةٌ بدورها في آليات البواعث و الدوافع ( و أغلب البواعث و الدوافع تدور حول تصحيح حال الأيض و كلها تتضمَّن ألما أو متعةً). تدمج بعض الآليات من كل المستويات السابقة – المنعكسات، الاستجابات المناعية، الاتزان الأيضي، سلوك الألم أو المتعة و البواعث – في آليات العواطف المخصوصة. و كما سنرى، فإن أدوار العواطف المخصوصة مركبة وفق المبدأ ذاته. لا يطابق منظر هذه المجموعة منظر الدمية الروسية – دمية ماتريوشكا- المصفوفة بالضبط, لأن الجزء الأكبر ليس مجرد تضخّمٍ للجزء الأصغر المعشِّش فيه. ليست الطبيعة مرتبة إلى هذا الحد، لكن يظل مبدأ التداخل صحيحا. لا تشكل أي واحدة من الانفعالات التنظيمية التي استعرضناها هنا عملية مختلفة جذريا؛ بُنيت من الصفر لتخدم هدفا معينا. بل على العكس، يتكون كل انفعال من إعادة تنظيم rearrangement مسكوكٍ من أجزاء العمليات الأبسط أدناه. لها كلها الغاية العامة نفسها – النجاة مع العافية- و لكنّ يخدم كل تنظيم معاد هدفا ثانويا متعلقا بمشكلة جديدةٍ؛ حلُّها ضروري أيضا للنجاة بعافية. حل كل مشكلة جديدة متطلب مهم لتحقيق الغاية العامة.




      لا يمكن تشبيه مجموعة الانفعالات بهيكل هرمي خطي. و لذا نجد أن استعارة المبنى متعدد الطوابق لا تصوّر إلا شيئا يسيرا من الواقع البيولوجي. و بالمثل، تشبيه السلسلة الضخمة ليس ملائما. إن التشبيه الأفضل لهو صورة الشجرة العظيمة الفوضوية و التي ينشق جذعها عن أفرع تعلو و تستفيض بإطراد و تحافظ على اتصال ثنائي الاتجاه مع جذورها. تاريخ التطور مدوّنٌ بكل بقعة من تلك الشجرة.




 

المزيد عن الانفعالات المتعلقة بالعواطفمن التنظيم الاستتبابي البسيط إلى العواطف المخصوصة




يشكل بعض ما أوردناه من انفعالات تنظيمية استجابةً لشيء ما أو حالة ما في البيئة المحيطة — حالة تحتمل الخطر أو فرصة للتغذية أو التزاوج. لكن يستجيب البعض الأخر منها لشيء أو حالة داخل الكائن. قد يكون انخفاضا في مخزون المواد الغذائية اللازمة لإنتاج الطاقة؛ مسببة سلوكيات مُـشهـِّية appetitive  تعرف بالجوع و تشمل أيضا البحث عن غذاء. أو قد يكون تغيرا هرمونيا يحفز البحث عن قرين أو يكون جرحا مسببا للانفعال الذي نسميه ألما. لا يتضمن هذا المدى عواطف ظاهرة للغاية كالخوف أو الغضب فحسب، بل يشمل أيضا البواعث، الدوافع و السلوكيات مرتبطة بالألم أو المتعة. يحصل هذا كله ضمن كائن، جسدٍ محدود بِحد، جسد لا تتوقف عقارب ساعته عن الدوران. تعرض كل هذه الانفعالات هدفا واضحا، بشكل مباشر أو غير مباشر، و هو تسيير اقتصاد الحياة الداخلي بسلاسة. يجب المحافظة على كمية جزيئيات كيميائية محددة ضمن مدى محدد، لا تفوقه و لا تدنو عنه، لأن الحياة مهددة ما إن نغادر هذا المدى. يجب كذلك المحافظة على درجة الحرارة ضمن معايير ضيقة. لا بد من توفير مصادر للطاقة — و الفضول و الاستكشاف استراتيجيات مساعدة في تحديد هذه المصادر. ما إن وجدت، فلا بد من إدراجها ضمن دواخلنا حرفيا، و تعديلها لتناسب الاستهلاك الفوري أو التخزين و يجب التخلص من كل الفضلات الناتجة عن التعديلات و يتعين أيضا إصلاح الأنسجة من البلى و التمزق ليبقى الكائن سليما.




     و كذلك تهدف العواطف المخصوصة – الاشمئزاز، الخوف، السعادة، الحزن، التعاطف  sympathy و الخزي- لتنظيم الحياة مباشرة بدرء الأخطار أو دفع الكائن لقنص فرصة نافعة، أو تعمل بشكل غير مباشر بتسهيل العلاقات الاجتماعية. أنا لا أقترح أننا نعزز النجاة و العافية في كل مرة تخالجنا فيها عاطفة. فليست كل العواطف سواءٌ في قدرتها على تعزيز النجاة و العافية، كما أن كلا من حدة العاطفة و سياق تفعيلها عامل مهم لتحديد القيمة المحتملة  للعاطفة في حادثة معينة. لكن حقيقة استغلالنا لبعض العواطف في ظروفنا البشرية الحالية بشكل غير مهايىء للتكيف maladaptive لا تنفي دورها التطوري في تنظيم الحياة النافع.




      غالبا ما يأتي الغضب بنتائج عكسية في مجتمعاتنا الحديثة، و ينطبق الشيء نفسه على الحزن. الرهاب phobia عقبة كبيرة أيضا. و بالرغم من ذلك، فكر بـعدد الأرواح التي أنقذها الخوف أو الغضب في الموقف المناسب. من المحتمل أنها سادت في التطور لدعمها النجاة تلقائيا. إنها ما تزال تدعمه، و لعل ذلك ما يجعلها جزءا لا يتجزأ من الوجود اليومي للإنسان و الفصائل الأخرى.




      كملاحظة عملية، يوفر فهمنا لبيولوجيا العواطف و لحقيقة أن قيمة كل عاطفة تختلف كثيرا في بيئة الإنسان الحالية فرصا هامة لفهم سلوك الإنسان. نتعلم مثلا أن بعض العواطف مستشارون مريعون, فنضع في حسباننا كتمها أو تقليل تبعات نصائحهم. أتأمل مثلا بعض الانفعالات المؤدية إلى التعصب العرقي و الثقافية و أجدها تستوطن ، جزئيا، الاستغلال التلقائي لعواطف اجتماعية معنيّة تطوريا برصد تباين الآخرين, لأن التباين و التفاوت قد يشير إلى الخطر و المخاطرة و يحفز الانسحاب أو العدوان. من المرجح أن هذا النوع من الانفعالات حقق أهدافا مفيدة في المجتمع القبلي لكنه لم يعد مفيدا و لا ملائما لنا. بإمكاننا أن نعي حقيقة إبقاء أدمغتنا على الآلية التي تنفعل بنحو مشابه لانفعالها في سياق مختلف منذ آجال بعيدة. نستطيع أن نتعلم نبذ هكذا انفعالات و نقنع الآخرين حولنا ليفعلوا المثل.




 

عواطف المخلوقات البسيطة




تدعم أدلةٌ وافرةٌ امتلاك المخلوقات البسيطة لانفعالات “عاطفية”. خذ وحيد البراميسيوم (أو المتناعلة( paramecium، كائن بسيط أحاديُّ الخلية، كُـلُّه جسدٌ، لا دماغ له و لا عقل، يسبح متسارعا بعيدا عن خطر محتمل في طريقه — قد يكون إبرةً تخِزه، أو اهتزازات كثيرة، أو حرارة مرتفعة أو منخفضة للغاية. و قد يسبح البراميسيوم متسارعا، عبر تدرّج كيميائي من المغذيات، متجها نحو قِطَع من الطريق حيث يمكنه أن يتغدى.




      هذا المخلوق البسيط مصمم ليرصد علامات محددة للخطر— تغيرات الحرارة الحادة، الاهتزازات المفرطة، أو تماسه مع جسم ثاقب قد يمزق غشاءه— و ينفعل بالمضي لمكان آمن، أهدأ و أكثر اعتدالا. و بالمثل، فالبراميسيوم يسبح متقفيا أثر الطحالب الأكثر خضرة بعدما رصد وجود الجزيئات الكيميائية التي يحتاجها لتوفير الطاقة و للتوازن الكيميائي. إن لهذه الأحداث التي أصف و الحاصلة في كائن بلا دماغ نفس جوهر عملية العاطفة لدينا نحن البشر — رصد وجود جسم أو حدث يشي بضرورة التجنب و المرواغة أو الاقتراب و المصادقة. إن الانفعال على هذا النحو قدرة غير مدرَّسة— فمدرسة البراميسيوم لا تهتم كثير بأصول التدريس و التربية. إنها قدرة محتواة في الآلية المعطاة جينيا و البسيطة ظاهريا و المعقدة فعليا داخل البراميسيوم عديم الدماغ. لطالما كانت الطبيعة مهتمّةً بتجهيز الكائنات الحية بالوسائل اللازمة لتنظيم حياتها و الحفاظ عليها أوتوماتيكيا، دون الحاجة لطرح أسئلة أو حتى التفكير.




    و بالطبع فإن امتلاك دماغ، و إن كان متواضعا، مفيد للنجاة و لا يمكن الاستغناء عنه لا سيما إن كان للبيئة تحديات تفوق تحديات بيئة البراميسيوم. فكِّر بذبابة ضئيلة— كائنٌ صغير بجهاز عصبي صغير و بلا حبل شوكي. ستغضب الذبابة إن هششتها مرارا مُخفِقا. ستئز حولك في اندفاعاتٍ متهورةٍ  فوق صوتية و تتجنب ضربتك القاضية. يمكنك أيضا إسعاد الذبابة بإطعامها السكر. سترى حينئذ كيف تهدأ حركاتها و تستدير استجابةً للغذاء المرضي. كما يمكنك جعل الذبابة سعيدةً منتشيةً إن سقيتها الكحول. لم أختلق هذا، فلقد أجريت التجربة على فصيلة ذباب تعرف بالدروسوفيلا (ذبابة الفاكهة( Drosophila Melanogaster  . فبعد التعرض لأبخرة الإيثانول، كان الذباب غير متزن تماما كما كنا سنكون لو تعرضنا لجرعة مقاربة. يمشي الذباب باسترسال انتشاءٍ قنوع ثم ينحدرون أسفل أنبوب الاختبار.




      كما يترنح الثمل عند عمود الإنارة. للذباب عواطفٌ، بيد أني لا أقترح أنه “يشعر” بعواطفه، ناهيك عن التبصّر فيها. و إن اعتراك شكّ في رقي آليات تنظيم الحياة في هكذا كائنات بسيطة، فتأمل آليات نوم الذبابة التي وصفها رالف غرينسبان Ralph Greenspan  و زملاؤه . للدروسوفيلا الضئيلة ما يكافئ دورات النهار-الليل عندنا، فترات من النشاط الكثيف و النوم المجدد و حتى نفس الاستجابة للحرمان من النوم حينما ينتابنا إرهاق السفر، إذ تحتاج نوما أطول، مثلنا.




     أو فكّر بالبـزّاقة البحرية Aplysia Californica  — و هي أيضا تملك دماغا صغيرا بلا حبل شوكي، و الكثير من الكسل. المس خيشومها و ستنطوي على نفسها و ترفع ضغط  دمها و نبضها. تنتج البزاقة مجموعة من الانفعالات المتناغمة و التي إن نُقِلت إليك أو إلي، فستُعرف كمكونات مهمة من عاطفة الخوف. عاطفة؟ بلى. شعور؟ لا، على الأغلب.




     لا يأتي أيُّ هذه الكائنات انفعالاته عامدا مترويا. كما أنها لا تبني انفعالها شيئا فشيئا، مع تذوق مبتكر لكل حالة يعرض فيها الانفعال. تنفعل المخلوقات انعكاسيا و تلقائيا بشكل مقولب. إنها “تختار” استجابة ما بين الاستجابات الجاهزة للاستعمال و تمضي مثلما يختار المتسوّق المشتت التركيز غرضا من معرض الألبسة الجاهزة. إطلاق لفظ منعكسات على هذه الانفعالات غير صحيح لأن المنعكسات الكلاسيكية استجابات بسيطة أما هذه الانفعالات فحزمٌ مركّبة من الاستجابات. ما يميز الانفعالات المتعلقة بالعواطف emotion-related reactions  من المنعكسات هو تعدد مكوناتها و تنسيقها. من الأفضل وصفها بأنها مجموعات من الاستجابات الانعكاسية، بعضها مسهب جدا، و كلها منسقة للغاية. إذ تسمح للكائن بأن يستجيب لمشاكل معينة بحل فعال.




 

العواطف المخصوصة




هناك تقليد عريق يقضي بتصنيف العواطف في فئات منوعة. و بالرغم من أن التصنيفات و الوسوم قاصرة بوضوح، فإنه لا بديل لها في هذه المرحلة باعتبار الوضع التمهيدية لمعرفتنا. من المحتمل أن تتغير الوسوم و التصنيفات بتراكم المعرفة. في هذه الأثناء، علينا أن نتذكر أن الحدود الفاصلة بين الفئات مسامية. حاليا، أجده مفيدا أن نصنف العواطف المخصوصة في ثلاثة أدوار: عواطف الخلفية background emotions ، العواطف الأولية primary emotions  و العواطف الاجتماعية social emotions.




      و كما يشي المصطلح، فعواطف الخلفية غير بارزة في سلوك الفرد إلا أنها بالغة الأهمية. حتى و إن لم تعر الأمر كثير انتباه، فإنك غالبا ما تكون قارئا جيدا لعواطف الخلفية إن لمحت مصيبا طاقةً أو حماسا في شخص قابلته للتو أو كنت قادرا على تشخيص الطفيف من الوعكات أو الهياج أو الحدة أو الهدوء و الدعة في أصدقائك و زملائك. و لو كنت بارعا في ذلك، فستستطيع أداء عملك التشخيصي دون أن يتفوه ضحيتك بكلمة واحدة. إذ تستطيع تقييم انحناءات حركة أطرافه و كامل جسده؛ ما قوتها؟ ما دقّتها؟ ما اتّساعها؟ و. ما تكرارها؟ تلاحظ أيضا تعابير الوجه. و حين تنطق الكلمات، فإنك لا تكتفي بسماعها و تصور معناها القاموسي، بل تسمع موسيقى الصوت كذلك؛ تسمع الـتّصاوت[size=10][4] prosody.[/size]




     و منذ أن طورت هذا التصور، تراءت لي عواطف الخلفية كحصيلة لاستغلال تراكيب محددة من التفاعلات التنظيمية الأبسط (العمليات الاستتبابية الأساسية، سلوكيات الألم  و المتعة و الشهوات على سبيل المثال)، وفق مبدأ التداخل الآنف الذكر. عواطف الخلفية تعبيرات مركبة من هذه الأفعال التنظيمية و إذ تنفرج و تتقاطع لحظة بلحظة. أتخيل عواطف الخلفية كنتيجة عصية على التنبؤ لعدد من العمليات التنظيمية المتزامنة و الجارية بأجسادنا الشبيه بالملاعب الفسيحة. يشمل هذا تعديلات أيضية مرتبطة بأي حاجة داخلية تطفو للسطح أو أي حاجة أرضيت للتو، و مرتبطة بأي وضع خارجي تُقدِّره عواطفنا أو شهواتنا أو حساباتنا الفكرية. نتيجة مرجل التفاعلات دائم التغير هذا هو “حالة كينونتنا أو وجودنا” state of being ، قد تكون جيدة أو سيئة أو وسطا بينهما. حين نُسأل ” كيف نشعر”، نستشير ” حالة كينونتنا” و نجيب وفقا لما تمليه.




     من الملائم أن نتساءل إن كان هنالك أي انفعالات تنظيمية لا تسهم في تكوين عواطف الخلفية، أو نتساءل عن أكثر الانفعالات التنظيمية تكرارا في تكوين عواطف خلفية كالفتور أو الهياج، أو نسأل عن كيف تتفاعل الحالة الصحية و الحالة المزاجية  temperamentمع عاطفة الخلفية. الإجابة المباشرة هي أننا لا ندري بعد؛ لم تُجر الفحوصات اللازمة.




     تعريف العواطف الأولية أو الأساسية أيسر لأن تقليدا عريقا قضى بتكويم عواطف محددة بارزة في هذه المجموعة. القائمة الشائعة تضم الخوف، الغضب، الاشمئزاز، الدهشة، الحزن و السعادة — أو ما يتناهى إلى ذهنك حينما يذكر مصطلح عاطفة. هناك أسباب وجيهة لهذه المركزية. فهذه العواطف سهلة التمييز بين البشر من مختلف الثقافات و بين الفصائل الحيوانية أيضا.




صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان 3-3

     أيضا، أنماط السلوك المُعـرِّفة للعواطف الأولية و الظروف المسببة لها ثابتة لحد بين الثقافات و الفصائل. استقينا




     معظم ما نعرفه عن نيوروبيولوجيا العواطف من دراسة العواطف الأولية، و لا عجب. يقود الخوف الطليعة، كما قد يخمن ألفريد هيتشكوك، و لكن أشواطا واسعة قطعت باتجاه فهم الاشمئزاز، الحزن و السعادة.




    تشمل العواطف الاجتماعية التعاطف، الحرج، الخزي، الإحساس بالذنب، الزهو، الغيرة، الحسد، الامتنان، الإعجاب، الاستياء و الازدراء. ينطبق المبدأ التداخلي عليها أيضا. يمكن التعرف على حاشية كاملة من الانفعالات التنظيمية جنبا إلى جنب مع عناصر من العواطف الأولية, يخدمون جميعا كمكونات جزئية للعواطف الاجتماعية في تراكيب منوعة. الدمج التداخلي لمكونات الأدوار الدنيا واضح. تأمل كيف تستعير عاطفة “الازدراء” الاجتماعية تعابير الوجه من “الاشمئزاز” و هو عاطفة أولية تطورت بمعية الرفض التلقائي  و النفعي للأغذية المحتمل تسممها. و حتى الكلمات التي نستخدمها لوصف مواقف الازدراء و الهلع الأخلاقي – نعترف بأننا مشمئزون – تدور في فلك التداخل و العشاعش. يمكن أن نستجلي أثر مكونات الألم و المتعة تحت سطح العواطف الاجتماعية، ولو كان أخفت من تواجدها في العواطف الأولية.




      لقد بدأنا للتو بفهم كيف يثير الدماغ العواطف الاجتماعية و يفعلها. و بما أننا نستحضر لزاما فكرة المجتمع و الثقافة الإنسانية عند ذكر مصطلح “اجتماعي”، فمن المهم أن نلاحظ أن العواطف الاجتماعية ليست محصورة على البشر بأي حال من الأحوال. انظر حولك و ستجد أمثلة لها في الشمبانزي، البابون و القردة العادية، في الدلافين و الأسود، و في قطتك و كلبك بالطبع. الأمثلة وفيرة — المشي الفخور لقردٍ مهيمن، الهيئة الملكية حرفيا للذئب أو القرد الأعلى و المستدعية لاحترام بقية المجموعة، السلوك الذليل للحيوان الغير مهيمن و الذي يتنحى لزاما عن الحيّز و الأسبقية عند الطعام، التعاطف الذي يبديه الفيل تجاه آخر ينوح متألما، و حرج الكلب حين يفعل ما نُهي عن فعله .




     يبدو نزعة الكائن لإظهار عاطفة اجتماعية مغروسة عميقا في دماغه و جاهزة لأن تُستغَل ما إن ينجح الموقف الملائم بإثارتها، إذ أنه من الغير المحتمل أن تكون هذه الحيوانات قد لُقِّـنت مخالجة العواطف. لا شك بأن التسوية الدماغية العامة التي تعطي سلوكا معقدا كهذا دون أي لغة أو أدوات ثقافية هي هدية من جينوم فصائل محددة. إنه جزءٌ من دليل أجهزتهم لتنظيم الحياة التلقائية و الجبليّة لحد كبير، و هي ليست بأدنى مما تناولناه حتى الآن.




      أيعني هذا أن العواطف جِبليّة حرفيا و معدة لأن تُستغَل منذ الولادة مباشرة بنفس وضوح عمل التنظيم الأيضي؛ بعد أنفاسنا الأولى؟ على الأرجح أن الإجابة تختلف باختلاف العاطفة. قد تكون الاستجابات العاطفية جبليّة كليا في بعض الحالات، و في بعضها الآخر؛ تتطلب مساعدة بسيطة من التعرّض البيئي المناسب. بحث روبرت هيندي Robert Hinde مؤشر ٌجيد على ما قد يحصل حال الانخراط بعواطف اجتماعية. لقد وضح خوف القرود الجبلي من الأفاعي لا يستلزم تعرضا لأفعى فحسب بل تعرضا لتعبير أمه الخائف من الأفعى أيضا. مرة واحدة كافية ليباشر السلوك عمله، لكنه لا ينخرط في السلوك “الجبلي” دون هذه “المرة” . يسري مثيل ذلك على العواطف الاجتماعية. مثال ذلك؛ ترسيخ أنماط الهيمنة و الخضوع في الرئيسات primates  اليافعة جدا خلال اللعب.




     للفصائل الحيوانية البسيطة و الغير مشتهرة بحضارتها القدرة على إظهار سلوكيات اجتماعية ذكية. تبقى هذه المسألة عصية على التقبل، و هذا لأن الجميع درجوا على الاعتقاد بأن السلوكيات الاجتماعية وليدة التعليم بالضرورة. لكنها تستطيع  ذلك حقا، و سنرى مجددا أنها لا تحتاج دماغا كبيرا لتذهلنا. تمتلك الديدان المتواضعة المسماة بالربداء الرشيقة C. elegans  ٣٠٢ خلية عصبية على وجه التحديد و قرابة ٥٠٠٠ صلة عصبية وسطية. ( و على سبيل المقارنة، فالبضر يملكون مليار خلية عصبية و عصدة تريليونات من صلات العصبية الوسطية). عندما تجوب هذه الوحوش الجنسية الصغيرة ( إنها ديدان خنثى!) في بيئة خالية من المنغصات و بموارد غذائية كافية، فإنها تنطوي و تتغذى منعزلة. أما إن فاحت رائحة كريهة أو كان الغذاء شحيحا— ستفهمه كـخطر فيما لو كان لك وجود دودةٍ و اتصلت بالعالم من خلال أنفك — فستجتمع الديدان في بقعة واحدة و تتغذى سويةً؛ تحسُّـبا لأي طاريء. يشي هذا السلوك البدائي الجنيني و بعيد المدى في الوقت ذاته بعدة مفاهيم اجتماعية مثيرة: الأمان بالكثرة، التعاون قوة، الإيثار، التّقشف، و نقابات العمال الأولية. هل ظننت يوما أن هذه الحلول السلوكية صنيعة الإنسان؟ خذ النحلة، كائن صغير و اجتماعي للغاية في مجتمع الخلية. للنحلة الواحدة ٩٥٠٠٠ خلية عصبية. هذا دماغ بلا شك.




      يحتمل جدا أن يكون لوجود هذه العواطف الاجتماعية دور في تكوين آليات الضبط الاجتماعي الثقافية المعقدة (طالع الفصل الرابع). من الواضح أيضا أن بعض الانفعالات العاطفية الاجتماعية مستدعاة في المواقف الإنسانية دون أن يكون محفز الانفعال ظاهرا بجلاء لا للمتفاعل و لا المراقب. استعراضات الهيمنة و التبعية الاجتماعية مثال على ذلك — فكر بكل طرائف و غرائب السلوك البشري في الرياضة، السياسة و مكان العمل. ما يجعل البعض قادة و البعض الآخر أتباعا و يجعل بعضهم يفرض احترامه حين يجبن الآخرين مرتبطٌ قليلا بالمعرفة و المهارة, و كثيرا بصفات جسدية محددة و بالطريقة التي يبث فيها الشخص استجابات عاطفية محددة في الآخرين. تظهر بعض الاستعراضات غير مدفوعة لمراقبيها و لمن أبداها، هذا لأن منبعها جهاز العاطفة الاجتماعية و حفظ الذات الجِبلّي و اللامَوعِي. علينا أن ننسب الفضل لِـمُسـتحقِّه، داروين، و الذي قادنا للأثر التطوري لهذه الظواهر.




       هذه ليست الانفعالات العاطفية الوحيدة ذات الأصل الغامض. هناك طائفة إضافية من الانفعالات لها أصل غير مَوعي يُشكَّله التعلم خلال التطور الفردي للشخص. إني أشير إلى التآلف و التباغض الذي نحصله بحرص و تكتم عبر حياةٍ زاخرة بالعواطف و المُدرَكَات الحسية  perceptions فيما يتعلق بتفاعلنا مع الأشخاص، المجموعات، الأشياء، الأنشطة و الأماكن و هذا ما أراد فرويد لفت انتباهنا إليه. من المثير أن هاتين المجموعتين من الانفعالات الغير المتعلَّـمة و اللامُوعِية — الانفعالات المتعلَّمة و الجِبليّة— قد تكونان مرتبطتين في هوة لا وعينا السحيقة. هذا يغرينا لنقول أن تفاعلهما اللاموعي المحتمل إشارةٌ إلى تقاطع الإرث الفكري لكل من داروين و فرويد؛ و كلاهما سخر مسيرته لدراسة التأثيرات للجبلي و المكتَسب.




     تدور كل ظواهر تنظيم الحياة بلا استثناء، من العمليات الكيميائية الاستتبابية إلى العواطف المخصوصة، حول الحفاظ على سلامة المخلوق و صحته بشكل مباشر أو غير مباشر. ترتبط جميع هذه الظواهر بتعديلات تكيفية في حالة الجسد و تؤدي بعدئذ إلى تغييرات في خرطنة الدماغ brain mapping  لحالات الجسد body states؛ تشكل هذه بدورها أساس المشاعر. يضمن تداخل البسيط ضمن المُّركَّب بقاء الغاية التنظيمي في الدرجات العُـلى من السلسلة. تـثبت الغاية رغم تغير التركيب و تشابكه. فالعواطف المخصوصة أكثر تشابكا من المُـنعكسات بلا شك، كما أن ما يثيرها من محفزات و هدف استجاباتها متنوع أيضا. يختلف قصد العمليات و المواقف المؤذنة ببدايتها على وجه التحديد.




      نكتشف أيضا تفاعلات تبادليّة مثيرة ما بين صنوف التفاعلات التنظيمية. إذ تؤثر العواطف المخصوصة على الشهوات؛ و العكس صحيح. يثبّط الخوف مثلا بواعثَ الجوع و الجنس و يحصل الشيء نفسه حال الحزن أو الاشمئزاز. و على العكس من ذلك، تعزّز السعادة باعثي الجوع و الجنس. إرضاء البواعث — أي الجوع، العطش و الجنس و غيرها— سببٌ للسعادة لكن العجز عن إرضاءها يؤدي إلى الغضب أو اليأس أو الحزن. و كما لاحظنا سابقا، تنفرج توليفة الانفعالات التكيفية يوميا، كالتعديلات الاستتبابية و البواعث، مشكلةً عواطف الخلفية الحالية و محددة المزاج عبر فترات ممتدة من الزمن. إنك حين تتأمل هذه المستويات المختلفة من الانفعالات التنظيمية عن بعد، يصعقك تشابهها التنظيمي البالغ .




      على حد علمنا، فمعظم الكائنات الحية المزودة بما يعينها على مخالجة العاطفة لصون حياتها قاصرةٌ عن امتلاك معدات الشعور بهذه العاطفة كقصورها عن التفكير بامتلاكها لهذه العواطف من الأساس. فهي ترصد وجود محفّـزات معينة في البيئة و تستجيب لها بعاطفة. كل ما تحتاجه هو جهزٌ إدراك حِسِّـي بسيط— مصفاةٌ تنقّي المحفّزات المختصة بالعاطفة (المحفزات ذات الاختصاص العاطفي ) و قدرةٌ تخالج بها العاطفة. معظم الكائنات الحية تؤدي ما يتعين عليها من أداء. إنها لا تشعر كما نشعر ناهيك عن أن تفكر كما نفكر. هذا افتراض بالطبع، لكنه افتراض تبرره فكرتنا عما يستلزمه الشعور كما سنشرح الفصل القادم. تفتقد الكائنات الأبسط للتراكيب الدماغية اللازمة لعرض التغيرات الحاصلة في الجسم أثناء الانفعال العاطفي في خرائط حسية؛ الشعور هو النتيجة. تفتقد أيضا لدماغ مؤهل لتمثيل المحاكاة المترقبة لهذا النوع من التغيرات الجسمانية، و هو ما قد يشكّل أساس الرغبة أو القلق.




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» صواب سبينوزا : عن الشهوات والعواطف (2) – أنتونيو داماسيو / ترجمة : إخلاص الصاعدي، مراجعة: يوسف الصمعان
» الذات المنبثقة عن العقل: بناء الوعي بأحجار الدماغ – أنطونيو داماسيو / ترجمة: متعب حامد
» لطبيعة والحقيقة في فلسفة سبينوزا ترجمة أحمد العلمي
» مسألة ثقافية يجب مراجعة النّمط الاستهلاكي للغرب السبت 2 حزيران (يونيو) 2012 بقلم: هيرفي كيمف Hervé Kempf ترجمة : محمد صدّام
» علم النفس التطوري والعواطف

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: منبر البحوث المتخصصة والدراسات العلمية يشاهده 23456 زائر-
انتقل الى: